الباحث القرآني

ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ﴾ بَيَّنَ مَن يَجُوزُ لَهُ التَّخَلُّفُ وتَرْكُ الجِهادِ، وما بِسَبَبِهِ يَجُوزُ تَرْكُ الجِهادِ وهو ما يَمْنَعُ مِنَ الكَرِّ والفَرِّ، وبَيَّنَ ذَلِكَ بِبَيانِ ثَلاثَةِ أصْنافٍ: الأوَّلُ: (الأعْمى) فَإنَّهُ لا يُمْكِنُهُ الإقْدامُ عَلى العَدُوِّ والطَّلَبِ، ولا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرازُ والهَرَبُ، والأعْرَجُ كَذَلِكَ، والمَرِيضُ كَذَلِكَ، وفي مَعْنى الأعْرَجِ: الأقْطَعُ والمُقْعَدُ، بَلْ ذَلِكَ أوْلى بِأنْ يُعْذَرَ، ومَن بِهِ عَرَجٌ لا يَمْنَعُهُ مِنَ الكَرِّ والفَرِّ لا يُعْذَرُ، وكَذَلِكَ المَرَضُ القَلِيلُ الَّذِي لا يَمْنَعُ مِنَ الكَرِّ والفَرِّ كالطُّحالِ والسُّعالِ إذْ بِهِ يَضْعُفُ، وبَعْضُ أوْجاعِ المَفاصِلِ لا يَكُونُ عُذْرًا. وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّ هَذِهِ أعْذارٌ تَكُونُ في نَفْسِ المُجاهِدِ، ولَنا أعْذارٌ خارِجَةٌ كالفَقْرِ الَّذِي لا يَتَمَكَّنُ صاحِبُهُ مِنِ اسْتِصْحابِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ، والِاشْتِغالِ بِمَن لَوْلاهُ لَضاعَ كَطِفْلٍ أوْ مَرِيضٍ، والأعْذارُ تُعْلَمُ مِنَ الفِقْهِ، ونَحْنُ نَبْحَثُ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ في بَيانِ مَسائِلَ: المَسْألَةُ الأُولى: ذِكْرُ الأعْذارِ الَّتِي في السَّفَرِ؛ لِأنَّ غَيْرَها مُمْكِنُ الإزالَةِ بِخِلافِ العَرَجِ والعَمى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اقْتُصِرَ مِنها عَلى الأصْنافِ الثَّلاثَةِ، لِأنَّ العُذْرَ إمّا أنْ يَكُونَ بِإخْلالٍ في عُضْوٍ أوْ بِاخْتِلالٍ في القُوَّةِ، والَّذِي بِسَبَبِ إخْلالِ العُضْوِ، فَإمّا أنْ يَكُونَ بِسَبَبِ اخْتِلالٍ في العُضْوِ الَّذِي بِهِ الوُصُولُ إلى العَدُوِّ (p-٨٢)والِانْتِقالُ في مَواضِعِ القِتالِ، أوْ في العُضْوِ الَّذِي تَتِمُّ بِهِ فائِدَةُ الحُصُولِ في المَعْرِفَةِ والوُصُولِ، والأوَّلُ: هو الرِّجْلُ، والثّانِي: هو العَيْنُ؛ لِأنَّ بِالرِّجْلِ يَحْصُلُ الِانْتِقالُ، وبِالعَيْنِ يَحْصُلُ الِانْتِفاعُ في الطَّلَبِ والهَرَبِ. وأمّا الأُذُنُ والأنْفُ واللِّسانُ وغَيْرُها مِنَ الأعْضاءِ، فَلا مَدْخَلَ لَها في شَيْءٍ مِنَ الأمْرَيْنِ. بَقِيَتِ اليَدُ، فَإنَّ المَقْطُوعَ اليَدَيْنِ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وهو عُذْرٌ واضِحٌ ولَمْ يَذْكُرْهُ، نَقُولُ: لِأنَّ فائِدَةَ الرِّجْلِ وهي الِانْتِقالُ تَبْطُلُ بِالخَلَلِ في إحْداهُما، وفائِدَةُ اليَدِ وهي الضِّرابُ والبَطْشُ لا تَبْطُلُ إلّا بِبُطْلانِ اليَدَيْنِ جَمِيعًا، ومَقْطُوعُ اليَدَيْنِ لا يُوجَدُ إلّا نادِرًا، ولَعَلَّ في جَماعَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مَقْطُوعَ اليَدَيْنِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، أوْ لِأنَّ المَقْطُوعَ يُنْتَفَعُ بِهِ في الجِهادِ، فَإنَّهُ يُنْظَرُ ولَوْلاهُ لاسْتَقَلَّ بِهِ مُقاتِلٌ، فَيُمْكِنُ أنْ يُقاتِلَ، وهو غَيْرُ مَعْذُورٍ في التَّخَلُّفِ؛ لِأنَّ المُجاهِدِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ بِخِلافِ الأعْمى، فَإنْ قِيلَ: كَما أنَّ مَقْطُوعَ اليَدِ الواحِدَةِ لا تَبْطُلُ مَنفَعَةُ بَطْشِهِ، كَذَلِكَ الأعْوَرُ لا تَبْطُلُ مَنفَعَةُ رُؤْيَتِهِ، وقَدْ ذَكَرَ الأعْمى، وما ذَكَرَ الأشَلَّ وأقْطَعَ اليَدَيْنِ ؟ قُلْنا: لِما بَيَّنّا أنَّ مَقْطُوعَ اليَدَيْنِ نادِرُ الوُجُودِ، والآفَةُ النّازِلَةُ بِإحْدى اليَدَيْنِ لا تَعُمُّهُما، والآفَةُ النّازِلَةُ بِالعَيْنِ الواحِدَةِ تَعُمُّ العَيْنَيْنِ؛ لِأنَّ مَنبَعَ النُّورِ واحِدٌ وهُما مُتَجاذِبانِ، والوُجُودُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُما، فَإنَّ الأعْمى كَثِيرُ الوُجُودِ، ومَقْطُوعَ اليَدَيْنِ نادِرٌ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَدَّمَ الآفَةَ في الآلَةِ عَلى الآفَةِ في القُوَّةِ؛ لِأنَّ الآفَةَ في القُوَّةِ تَزُولُ وتَطْرَأُ، والآفَةَ في الآلَةِ إذا طَرَأتْ لا تَزُولُ، فَإنَّ الأعْمى لا يَعُودُ بَصِيرًا فالعُذْرُ في مَحَلِّ الآلَةِ أتَمُّ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَدَّمَ الأعْمى عَلى الأعْرَجِ؛ لِأنَّ عُذْرَ الأعْمى يَسْتَمِرُّ ولَوْ حَضَرَ القِتالَ، والأعْرَجُ إنْ حَضَرَ راكِبًا أوْ بِطْرِيقٍ آخَرَ يَقْدِرُ عَلى القِتالِ بِالرَّمْيِ وغَيْرِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ومَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذابًا ألِيمًا﴾ ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأثابَهم فَتْحًا قَرِيبًا﴾ ﴿ومَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وكانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ اعْلَمْ أنَّ طاعَةَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما طاعَةٌ لِلْآخَرِ، فَجُمِعَ بَيْنَهُما بَيانًا لِطاعَةِ اللَّهِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ قالَ: ومَن يُطِعِ اللَّهَ كانَ لِبَعْضِ النّاسِ أنْ يَقُولَ: نَحْنُ لا نَرى اللَّهَ ولا نَسْمَعُ كَلامَهُ، فَمِن أيْنَ نَعْلَمُ أمْرَهُ حَتّى نُطِيعَهُ ؟ فَقالَ: طاعَتُهُ في طاعَةِ رَسُولِهِ، وكَلامُهُ يُسْمَعُ مِن رَسُولِهِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ومَن يَتَوَلَّ﴾ أيْ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ حالَ المُخَلَّفِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: ١٠] عادَ إلى بَيانِ حالِهِمْ، وقالَ: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ﴾ مِنَ الصِّدْقِ كَما عَلِمَ ما في قُلُوبِ المُنافِقِينَ مِنَ المَرَضِ ﴿فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ حَتّى بايَعُوا عَلى المَوْتِ، وفِيهِ مَعْنًى لَطِيفٌ وهو أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ﴾ فَجَعَلَ طاعَةَ اللَّهِ والرَّسُولِ عَلامَةً لِإدْخالِ اللَّهِ الجَنَّةَ في تِلْكَ الآيَةِ، وفي هَذِهِ الآيَةِ بَيَّنَ أنَّ طاعَةَ اللَّهِ والرَّسُولِ وُجِدَتْ مِن أهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوانِ، أمّا طاعَةُ اللَّهِ فالإشارَةُ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ﴾ وأمّا طاعَةُ الرَّسُولِ فَبِقَوْلِهِ: ﴿إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ بَقِيَ المَوْعُودُ بِهِ وهو إدْخالُ الجَنَّةِ، أشارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ﴾ لِأنَّ الرِّضا يَكُونُ مَعَهُ إدْخالُ الجَنَّةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿ويُدْخِلُهم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ [المجادلة: ٢٢] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ﴾ والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وعِلْمُ اللَّهِ قَبْلَ الرِّضا لِأنَّهُ عَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ مِنَ (p-٨٣)الصِّدْقِ، فَرَضِيَ عَنْهم فَكَيْفَ يُفْهَمُ التَّعْقِيبُ في العِلْمِ ؟ نَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ كَما يَقُولُ القائِلُ: فَرِحْتُ أمْسِ إذْ كَلَّمْتُ زَيْدًا فَقامَ إلَيَّ، أوْ إذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأكْرَمَنِي، فَيَكُونُ الفَرَحُ بَعْدَ الإكْرامِ تَرْتِيبًا، كَذَلِكَ هَهُنا قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما في قُلُوبِهِمْ﴾ مِنَ الصِّدْقِ، إشارَةً إلى أنَّ الرِّضا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ المُبايَعَةِ فَحَسْبُ، بَلْ عِنْدَ المُبايَعَةِ الَّتِي كانَ مَعَها عِلْمُ اللَّهِ بِصِدْقِهِمْ، والفاءُ في قَوْلِهِ: ﴿فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ لِلتَّعْقِيبِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ فَإنَّهُ تَعالى رَضِيَ عَنْهم، فَأنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وفي ”عَلِمَ“ بَيانُ وصْفِ المُبايِعَةِ بِكَوْنِها مُعَقَّبَةً بِالعِلْمِ بِالصِّدْقِ الَّذِي في قُلُوبِهِمْ، وهَذا تَوْفِيقٌ لا يَتَأتّى إلّا لِمَن هَداهُ اللَّهُ تَعالى إلى مَعانِي كِتابِهِ الكَرِيمِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأثابَهم فَتْحًا قَرِيبًا﴾ هو فَتْحُ خَيْبَرَ ﴿ومَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها﴾ مَغانِمُها، وقِيلَ: مَغانِمُ هَجَرَ ﴿وكانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ كامِلَ القُدْرَةِ غَنِيًّا عَنْ إعانَتِكم إيّاهُ (حَكِيمًا) حَيْثُ جَعَلَ هَلاكَ أعْدائِهِ عَلى أيْدِيكم لِيُثِيبَكم عَلَيْهِ، أوْ لِأنَّ في ذَلِكَ إعْزازَ قَوْمٍ وإذْلالَ آخَرِينَ، فَإنَّهُ يُذِلُّ مَن يَشاءُ بِعِزَّتِهِ ويُعِزُّ مَن يَشاءُ بِحِكْمَتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب