الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ . بَعْدَ ما ذَكَرَ مَن لَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ مِنَ المُبايِعِينَ ومِن لَهُ عَذابٌ ألِيمٌ مِنَ الظّانِّينَ الضّالِّينَ، أشارَ إلى أنَّهُ يَغْفِرُ لِلْأوَّلِينَ بِمَشِيئَتِهِ ويُعَذِّبُ الآخِرِينَ بِمَشِيئَتِهِ، وغُفْرانُهُ ورَحْمَتُهُ أعَمُّ وأشْمَلُ وأتَمُّ وأكْمَلُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ يُفِيدُ عَظَمَةَ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا لِأنَّ مِن عِظَمِ مُلْكِهِ يَكُونُ أجْرُهُ وهِبَتُهُ في غايَةِ العِظَمِ وعَذابُهُ وعُقُوبَتُهُ كَذَلِكَ في غايَةِ النَّكالِ والألَمِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إذا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ﴾ . أوْضَحَ اللَّهُ كَذِبَهم بِهَذا حَيْثُ كانُوا عِنْدَما يَكُونُ السَّيْرُ إلى مَغانِمَ يَتَوَقَّعُونَها يَقُولُونَ مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ: ﴿ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ﴾ فَإذا كانَ أمْوالُهم وأهْلُوهم شَغَلَتْهم يَوْمَ دَعْوَتِكم إيّاهم إلى أهْلِ مَكَّةَ، فَما بالُهم لا يَشْتَغِلُونَ بِأمْوالِهِمْ يَوْمَ الغَنِيمَةِ، والمُرادُ مِنَ المَغانِمِ مَغانِمُ أهْلِ خَيْبَرَ وفَتْحُها، وغَنِمَ المُسْلِمُونَ ولَمْ يَكُنْ مَعَهم إلّا مَن كانَ مَعَهُ في المَدِينَةِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ﴾ وعَدَ المُبايِعِينَ المُوافِقِينَ بِالغَنِيمَةِ والمُتَخَلِّفِينَ المُخالِفِينَ بِالحِرْمانِ. (p-٧٩)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ . يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: هو ما قالَ اللَّهُ إنَّ غَنِيمَةَ خَيْبَرَ لِمَن شَهِدَ الحُدَيْبِيَةَ وعاهَدَ بِها، لا غَيْرُ، وهو الأشْهَرُ عِنْدَ المُفَسِّرِينَ والأظْهَرُ؛ نَظَرًا إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ . ثانِيها: يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾؛ وذَلِكَ لِأنَّهم لَوِ اتَّبَعُوكم لَكانُوا في حُكْمِ بَيْعَةِ أهْلِ الرِّضْوانِ المَوْعُودِينَ بِالغَنِيمَةِ، فَيَكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: ١٨] فَلا يَكُونُونَ مِنَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُ تَبْدِيلُ كَلامِ اللَّهِ. ثالِثُها: هو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا تَخَلَّفَ القَوْمُ، أطْلَعَهُ اللَّهُ عَلى باطِنِهِمْ، وأظْهَرَ لَهُ نِفاقَهم وأنَّهُ يُرِيدُ أنْ يُعاقِبَهم، وقالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا ولَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ [التوبة: ٨٣] فَأرادُوا أنْ يُبَدِّلُوا ذَلِكَ الكَلامَ بِالخُرُوجِ مَعَهُ. لا يُقالُ: فالآيَةُ الَّتِي ذَكَرْتُمْ وارِدَةٌ في غَزْوَةِ تَبُوكَ لا في هَذِهِ الواقِعَةِ؛ لِأنّا نَقُولُ: قَدْ وُجِدَ هَهُنا بِقَوْلِهِ: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ عَلى صِيغَةِ النَّفْيِ بَدَلًا عَنْ قَوْلِهِ: ”لا تَتَّبِعُونا“ عَلى صِيغَةِ النَّهْيِ - مَعْنًى لَطِيفٌ، وهو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَنى عَلى إخْبارِ اللَّهِ تَعالى عَنْهُمُ النَّفْيَ لِوُثُوقِهِ وقَطْعِهِ بِصِدْقِهِ فَجَزَمَ وقالَ: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ يَعْنِي لَوْ أذِنْتُكم ولَوْ أرَدْتُمْ واخْتَرْتُمْ لا يَتِمُّ لَكم ذَلِكَ؛ لِما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا﴾ رَدًّا عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكم قالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ﴾ كَأنَّهم قالُوا: ما قالَ اللَّهُ كَذَلِكَ مِن قَبْلُ، بَلْ تَحْسُدُونَنا. و”بَلْ“ لِلْإضْرابِ، والمَضْرُوبُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ في المَوْضِعَيْنِ، أمّا هَهُنا فَهو بِتَقْدِيرِ ما قالَ اللَّهُ. وكَذَلِكَ فَإنْ قِيلَ: بِماذا كانَ الحَسَدُ في اعْتِقادِهِمْ ؟ نَقُولُ: كَأنَّهم قالُوا: نَحْنُ كُنّا مُصِيبِينَ في عَدَمِ الخُرُوجِ، حَيْثُ رَجَعُوا مِنَ الحُدَيْبِيَةِ مِن غَيْرِ حاصِلٍ ونَحْنُ اسْتَرَحْنا، فَإنْ خَرَجْنا مَعَهم ويَكُونُ فِيهِ غَنِيمَةٌ يَقُولُونَ هم غَنِمُوا مَعَنا ولَمْ يَتْعَبُوا مَعَنا. ثُمَّ قالَ تَعالى رَدًّا عَلَيْهِمْ كَما رَدُّوا: ﴿بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ أيْ لَمْ يَفْقَهُوا مِن قَوْلِكَ: لا تَخْرُجُوا، إلّا ظاهِرَ النَّهْيِ، ولَمْ يَفْهَمُوا مَن حُكْمِهِ إلّا قَلِيلًا، فَحَمَلُوهُ عَلى ما أرادُوهُ وعَلَّلُوهُ بِالحَسَدِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهم أوْ يُسْلِمُونَ فَإنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أجْرًا حَسَنًا وإنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِن قَبْلُ يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا﴾ . لَمّا قالَ النَّبِيُّ ﷺ: ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ وقالَ: ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا﴾ [التوبة: ٨٣] فَكانَ المُخَلَّفُونَ جَمْعًا كَثِيرًا مِن قَبائِلَ مُتَشَعِّبَةٍ، دَعَتِ الحاجَةُ إلى بَيانِ قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، فَإنَّهم لَمْ يَبْقَوْا عَلى ذَلِكَ ولَمْ يَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلى النِّفاقِ، بَلْ مِنهم مَن حَسُنَ حالُهُ وصَلَحَ بالُهُ، فَجَعَلَ لِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ عَلامَةً، وهو أنَّهم يُدْعَوْنَ إلى قِتالِ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ويُطِيعُونَ، بِخِلافِ حالِ ثَعْلَبَةَ حَيْثُ امْتَنَعَ مِن أداءِ الزَّكاةِ ثُمَّ أتى بِها، ولَمْ يَقْبَلْ مِنهُ النَّبِيُّ ﷺ واسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الحالُ ولَمْ يَقْبَلْ مِنهُ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ، كَذَلِكَ كانَ يَسْتَمِرُّ حالُ هَؤُلاءِ لَوْلا أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهم يُدْعَوْنَ، فَإنْ كانُوا يُطِيعُونَ يُؤْتَوْنَ الأجْرَ الحَسَنَ وما كانَ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ يَتْرُكُهم يَتَّبِعُونَهُ، والفَرْقُ بَيْنَ حالِ ثَعْلَبَةَ وبَيْنَ حالِ هَؤُلاءِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ ثَعْلَبَةَ جازَ أنْ يُقالَ: حالُهُ لَمْ يَكُنْ يَتَغَيَّرُ في عِلْمِ اللَّهِ، فَلَمْ يُبَيِّنْ لِتَوْبَتِهِ عَلامَةً، والأعْرابُ تَغَيَّرَتْ، فَإنَّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَبْقَ مِنَ المُنافِقِينَ عَلى النِّفاقِ أحَدٌ عَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ. وثانِيهِما: أنَّ الحاجَةَ إلى بَيانِ حالِ الجَمْعِ الكَثِيرِ والجَمِّ الغَفِيرِ أمَسُّ؛ لِأنَّهُ لَوْلا البَيانُ لَكانَ (p-٨٠)يُفْضِي الأمْرُ إلى قِيامِ الفِتْنَةِ بَيْنَ فِرَقِ المُسْلِمِينَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ وُجُوهٌ: أشْهَرُها وأظْهَرُها أنَّهم بَنُو حَنِيفَةَ حَيْثُ تابَعُوا مُسَيْلِمَةَ وغَزاهم أبُو بَكْرٍ. وثانِيها: هم فارِسُ والرُّومُ غَزاهم عُمَرُ. ثالِثُها: هَوازِنُ وثَقِيفٌ غَزاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ وأقْوى الوُجُوهِ هو أنَّ الدُّعاءَ كانَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ وإنْ كانَ الأظْهَرُ غَيْرَهُ، أمّا الدَّلِيلُ عَلى قُوَّةِ هَذا الوَجْهِ هو أنَّ أهْلَ السُّنَّةِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ أمْرَ العَرَبِ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ ظَهَرَ ولَمْ يَبْقَ إلّا كافِرٌ مُجاهِرٌ، أوْ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ طاهِرٌ، وامْتَنَعَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الصَّلاةِ عَلى مَوْتى المُنافِقِينَ، وتَرَكَ المُؤْمِنُونَ مُخالَطَتَهم، حَتّى إنَّ عُبادَةَ بْنَ كَعْبٍ مَعَ كَوْنِهِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ لَمْ يُكَلِّمْهُ المُؤْمِنُونَ مُدَّةً، وما ذَكَرَهُ اللَّهُ عَلامَةٌ لِظُهُورِ حالِ مَن كانَ مُنافِقًا، فَإنْ كانَ ظَهَرَ حالُهم بِغَيْرِ هَذا، فَلا مَعْنى لِجَعْلِ هَذا عَلامَةً، وإنْ ظَهَرَ بِهَذا الظُّهُورِ كانَ في زَمانِ النَّبِيِّ ﷺ لِأنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَوِ امْتَنَعَ مِن قَبُولِهِمْ لِاتِّباعِهِ لامْتَنَعَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وقَوْلُهُ: ﴿فاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران: ٣١] فَإنْ قِيلَ هَذا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ وقالَ: ﴿لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا﴾ [التوبة: ٨٣] فَكَيْفَ كانُوا يَتَّبِعُونَهُ مَعَ النَّفْيِ ؟ . الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ ولَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حَرْبُ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ؛ فَإنَّ الرُّعْبَ اسْتَوْلى عَلى قُلُوبِ النّاسِ ولَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ شِدَّةٌ وبَأْسٌ، واتِّفاقُ الجُمْهُورِ يَدُلُّ عَلى القُوَّةِ والظُّهُورِ، نَقُولُ: أمّا الجَوابُ عَنِ الأوَّلِ فَمِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا، تَقْدِيرُهُ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا وأنْتُمْ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ، ويَجِبُ هَذا التَّقْيِيدُ؛ لِأنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّ مِنهم مَن أسْلَمَ وحَسُنَ إسْلامُهُ بَلِ الأكْثَرُ ذَلِكَ، وما كانَ يَجُوزُ لِلنَّبِيِّ ﷺ أنْ يَقُولَ لَهم: لَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقُولُوا لِمَن ألْقى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا﴾ [النساء: ٩٤] ومَعَ القَوْلِ بِإسْلامِهِمْ ما كانَ يَجُوزُ أنْ يَمْنَعَهم ما كانَ مِنَ الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ وكانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا، وقَدْ تَبَيَّنَ حُسْنُ حالِهِمْ، فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعاهم إلى جِهادٍ، فَأطاعَهُ قَوْمٌ وامْتَنَعَ آخَرُونَ، وظَهَرَ أمْرُهم وعُلِمَ مَنِ اسْتَمَرَّ عَلى الكُفْرِ مِمَّنِ اسْتَقَرَّ قَلْبُهُ عَلى الإيمانِ. الثّانِي: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ في هَذا القِتالِ فَحَسْبُ، وقَوْلُهُ: ﴿لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ﴾ كانَ في غَيْرِ هَذا وهُمُ المُنافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا في غَزْوَةِ تَبُوكَ. وأمّا اتِّفاقُ الجُمْهُورِ فَنَقُولُ: لا مُخالَفَةَ بَيْنَنا وبَيْنَهم؛ لِأنّا نَقُولُ: النَّبِيُّ ﷺ دَعاهم أوَّلًا، وأبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيْضًا دَعاهم بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ جَوازَ ذَلِكَ مِن فِعْلِ النَّبِيِّ ﷺ إنَّما نَحْنُ نُثْبِتُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعاهم، فَإنْ قالُوا: أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعاهم، لَمْ يَكُنْ بَيْنَ القَوْلَيْنِ تَنافٍ، وإنْ قالُوا: لَمْ يَدْعُهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فالنَّفْيُ والجَزْمُ بِهِ في غايَةِ البُعْدِ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ وقَعَ، وكَيْفَ لا والنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ مِن كَلامِ اللَّهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران: ٣١] وقالَ: ﴿واتَّبِعُونِ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [الزخرف: ٦١] ومِنهم مَن أحَبَّ اللَّهَ، واخْتارَ اتِّباعَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ﷺ لِأنَّ بَقاءَ جَمْعِهِمْ عَلى النِّفاقِ والكُفْرِ بَعْدَما اتَّسَعَتْ دائِرَةُ الإسْلامِ واجْتَمَعَتِ العَرَبُ عَلى الإيمانِ بِعِيدٌ، ويَوْمَ قَوْلِهِ ﷺ: ﴿لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ كانَ أكْثَرُ العَرَبِ عَلى الكُفْرِ والنِّفاقِ؛ لِأنَّهُ كانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وقَبْلَ أخْذِ حُصُونٍ كَثِيرَةٍ. وأمّا قَوْلُهُ: لَمْ يَبْقَ لِلنَّبِيِّ ﷺ حَرْبٌ مَعَ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، قُلْنا: لا نُسَلِّمُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ عامَ الحُدَيْبِيَةِ دَعاهم إلى الحَرْبِ؛ لِأنَّهُ خَرَجَ مُحْرِمًا ومَعَهُ الهُدَيُ؛ لِيَعْلَمَ قُرَيْشٌ أنَّهُ لا يَطْلُبُ القِتالَ، وامْتَنَعُوا، فَقالَ: سَتُدْعَوْنَ إلى الحَرْبِ. ولا شَكَّ أنَّ مَن يَكُونُ خَصْمُهُ مُسَلَّحًا مُحارِبًا أكْثَرُ بَأْسًا مِمَّنْ يَكُونُ عَلى خِلافِ ذَلِكَ، فَكانَ قَدْ عَلِمَ مِن حالِ مَكَّةَ أنَّهم لا يُوَقِّرُونَ حاجًّا ولا مُعْتَمِرًا، فَقَوْلُهُ: ﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ يَعْنِي أُولِي سِلاحٍ مِن آلَةِ الحَدِيدِ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، ومَن قالَ بِأنَّ الدّاعِيَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ تَمَسَّكَ بِالآيَةِ عَلى خِلافَتِهِما، ودَلالَتُها ظاهِرَةٌ، وحِينَئِذٍ (p-٨١)أتُقاتِلُونَهم ﴿أوْ يُسْلِمُونَ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ أحَدَهُما يَقَعُ، وقُرِئَ ”أوْ يُسْلِمُوا“ بِالنَّصْبِ بِإضْمارِ ”أنْ“ عَلى مَعْنى ”تُقاتِلُونَهم“ إلى أنْ يُسْلِمُوا، والتَّحْقِيقُ فِيهِ هو أنَّ ”أوْ“ لا تَجِيءُ إلّا بَيْنَ المُتَغايِرَيْنِ، وتُنْبِئُ عَنِ الحَصْرِ فَيُقالُ: العَدَدُ زَوْجٌ أوْ فَرْدٌ؛ ولِهَذا لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: هو زَيْدٌ أوْ عَمْرٌو؛ ولِهَذا يُقالُ: العَدَدُ زَوْجٌ أوْ خَمْسَةٌ أوْ غَيْرُهُما، إذا عُلِمَ هَذا فَقالَ القائِلُ: لَألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي، يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ الزَّمانَ انْحَصَرَ في قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ المُلازَمَةُ، وقِسْمٌ يَكُونُ فِيهِ قَضاءُ الحَقُّ، فَلا يَكُونُ بَيْنَ المُلازَمَةِ وقَضاءِ الحَقِّ زَمانٌ لا يُوجَدُ فِيهِ المُلازَمَةُ ولا قَضاءُ الحَقِّ، فَيَكُونُ في قَوْلِهِ: لَألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي، كَما حَكى في قَوْلِ القائِلِ: لَألْزَمَنَّكَ إلى أنْ تَقْضِيَنِي؛ لِامْتِدادِ زَمانِ المُلازَمَةِ إلى القَضاءِ، وهَذا ما يُضْعِفُ قَوْلَ القائِلِ: الدّاعِي هو عُمَرُ، والقَوْمُ فارِسُ والرُّومُ؛ لِأنَّ الفَرِيقَيْنِ يُقِرّانِ بِالجِزْيَةِ، فالقِتالُ مَعَهم لا يَمْتَدُّ إلى الإسْلامِ لِجَوازِ أنْ يُؤَدُّوا الجِزْيَةَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أجْرًا حَسَنًا وإنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِن قَبْلُ﴾ فِيهِ فائِدَةٌ؛ لِأنَّ التَّوَلِّيَ إذا كانَ بِعُذْرٍ كَما قالَ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] لا يَكُونُ لِلْمُتَوَلِّي عَذابٌ ألِيمٌ، فَقالَ: ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ﴾ يَعْنِي إنْ كانَ تَوَلِّيكم بِناءً عَلى الظَّنِّ الفاسِدِ والِاعْتِقادِ الباطِلِ كَما كانَ حَيْثُ قُلْتُمْ بِألْسِنَتِكم لا بِقُلُوبِكم ﴿شَغَلَتْنا أمْوالُنا﴾ فاللَّهُ يُعَذِّبُكم عَذابًا ألِيمًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب