الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرابِ شَغَلَتْنا أمْوالُنا وأهْلُونا فاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أرادَ بِكم ضَرًّا أوْ أرادَ بِكم نَفْعًا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ . لَمّا بَيَّنَ حالَ المُنافِقِينَ ذَكَرَ المُتَخَلِّفِينَ، فَإنَّ قَوْمًا مِنَ الأعْرابِ امْتَنَعُوا عَنِ الخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِظَنِّهِمْ أنَّهُ يُهْزَمُ، فَإنَّهم قالُوا: أهْلُ مَكَّةَ يُقاتِلُونَ عَنْ بابِ المَدِينَةِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حالُهم إذا دَخَلُوا بِلادَهم وأحاطَ بِهِمُ العَدُوُّ فاعْتَذَرُوا، وقَوْلُهم: ﴿شَغَلَتْنا أمْوالُنا وأهْلُونا﴾ فِيهِ أمْرانِ يُفِيدانِ وُضُوحَ العُذْرِ أحَدُهُما: [قَوْلُهُمْ]: (أمْوالُنا) ولَمْ يَقُولُوا شَغَلَتْنا الأمْوالُ، وذَلِكَ لِأنَّ جَمْعَ المالِ لا يَصْلُحُ عُذْرًا [لِأنَّهُ] لا نِهايَةَ لَهُ، وأمّا حِفْظُ ما جُمِعَ مِنَ الشَّتاتِ ومَنعُ الحاصِلَ مِنَ الفَواتِ يَصْلُحُ عُذْرًا، فَقالُوا: ﴿شَغَلَتْنا أمْوالُنا﴾ أيْ ما صارَ مالًا لَنا لا مُطْلَقَ الأمْوالِ. وثانِيهِما: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأهْلُونا﴾ وذَلِكَ لَوْ أنَّ قائِلًا قالَ لَهم: المالُ لا يَنْبَغِي أنْ يَبْلُغَ إلى دَرَجَةٍ يَمْنَعُكم حِفْظُهُ مِن مُتابَعَةِ الرَّسُولِ ﷺ لَكانَ لَهم أنْ يَقُولُوا: فالأهْلُ يَمْنَعُ الِاشْتِغالُ بِهِمْ وحِفْظُهم عَنْ أهَمِّ الأُمُورِ، ثُمَّ إنَّهم مَعَ العُذْرِ تَضَرَّعُوا وقالُوا: ﴿فاسْتَغْفِرْ لَنا﴾ يَعْنِي فَنَحْنُ مَعَ إقامَةِ العُذْرِ مُعْتَرِفُونَ بِالإساءَةِ، فاسْتَغْفِرْ لَنا واعْفُ عَنّا في أمْرِ الخُرُوجِ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: ﴿يَقُولُونَ بِألْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾ وهَذا (p-٧٧)يَحْتَمِلُ أمْرَيْنِ أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ التَّكْذِيبُ راجِعًا إلى قَوْلِهِمْ: ﴿فاسْتَغْفِرْ لَنا﴾ وتَحْقِيقُهُ هو أنَّهم أظْهَرُوا أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهم مُسِيئُونَ بِالتَّخَلُّفِ حَتّى اسْتَغْفَرُوا، ولَمْ يَكُنْ في اعْتِقادِهِمْ ذَلِكَ، بَلْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّهم بِالتَّخَلُّفِ مُحْسِنُونَ. ثانِيهِما: قالُوا: ﴿شَغَلَتْنا﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ امْتِناعَنا لِهَذا لا غَيْرُ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ في اعْتِقادِهِمْ، بَلْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ امْتِناعَهم لِاعْتِقادِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ والمُؤْمِنِينَ يُقْهَرُونَ ويُغْلَبُونَ، كَما قالَ بَعْدَهُ: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ إلى أهْلِيهِمْ أبَدًا﴾ [الفَتْحِ: ١٢] وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إنْ أرادَ بِكم ضَرًّا أوْ أرادَ بِكم نَفْعًا﴾ مَعْناهُ أنَّكم تَحْتَرِزُونَ عَنِ الضُّرِّ، وتَتْرُكُونَ أمْرَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وتَقْعُدُونَ طَلَبًا لِلسَّلامَةِ، ولَوْ أرادَ بِكُمُ الضَّرَرَ لا يَنْفَعُكم قُعُودُكم مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، أوْ مَعْناهُ أنَّكم تَحْتَرِزُونَ عَنْ ضَرَرِ القِتالِ والمُقاتِلِينَ وتَعْتَقِدُونَ أنَّ أهْلِيكم وبِلادَكم تَحْفَظُكم مِنَ العَدُوِّ، فَهَبْ أنَّكم حَفِظْتُمْ أنْفُسَكم عَنْ ذَلِكَ، فَمَن يَدْفَعُ عَنْكم عَذابَ اللَّهِ في الآخِرَةِ، مَعَ أنَّ ذَلِكَ أوْلى بِالِاحْتِرازِ، وقَدْ ذَكَرْنا في سُورَةِ يس في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ﴾ [يس: ٢٣] أنَّهُ في صُورَةِ كَوْنِ الكَلامِ مَعَ المُؤْمِنِ، أدْخَلَ الباءَ عَلى الضُّرِّ فَقالَ: ﴿إنْ أرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ [الزُّمَرِ: ٣٨] وقالَ: ﴿وإنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ [الأنْعامِ: ١٧] وفي صُورَةِ كَوْنِ الكَلامِ مَعَ الكافِرِ أدْخَلَ الباءَ عَلى الكافِرِ، فَقالَ هَهُنا: ﴿إنْ أرادَ بِكم ضَرًّا﴾ وقالَ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكم مِنَ اللَّهِ إنْ أرادَ بِكم سُوءًا﴾ [الأحْزابِ: ١٧] وقَدْ ذَكَرْنا الفَرْقَ الفائِقَ هُناكَ، ولا نُعِيدُهُ لِيَكُونَ هَذا باعِثًا عَلى مُطالَعَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ يس، فَإنَّها دُرْجُ الدُّرَرِ اليَتِيمَةِ.: ﴿بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أيْ بِما تَعْمَلُونَ مِن إظْهارِ الحَرْبِ وإضْمارِ غَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب