الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ومَن أوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ . لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ مُرْسَلٌ ذَكَرَ أنَّ مَن بايَعَهُ فَقَدْ بايَعَ اللَّهَ، وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، وذَلِكَ أنَّ اليَدَ في المَوْضِعَيْنِ إمّا أنْ تَكُونَ بِمَعْنًى واحِدٍ، وإمّا أنْ تَكُونَ بِمَعْنَيَيْنِ، فَإنْ قُلْنا إنَّها بِمَعْنًى واحِدٍ، فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: ﴿يَدُ اللَّهِ﴾ بِمَعْنى: نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَوْقَ إحْسانِهِمْ إلى اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكم أنْ هَداكم لِلْإيمانِ﴾ [الحُجُراتِ: ١٧] وثانِيهِما: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ نُصْرَتُهُ إيّاهم أقْوى وأعْلى مِن نُصْرَتِهِمْ إيّاهُ، يُقالُ: اليَدُ لِفُلانٍ، أيِ الغَلَبَةُ والنُّصْرَةُ والقَهْرُ. وأمّا إنْ قُلْنا: إنَّها بِمَعْنَيَيْنِ، فَنَقُولُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى (p-٧٦)بِمَعْنى الحِفْظِ، وفي حَقِّ المُبايِعِينَ بِمَعْنى الجارِحَةِ، واليَدُ كِنايَةٌ عَنِ الحِفْظِ مَأْخُوذٌ مِن حالِ المُتَبايِعِينَ إذا مَدَّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَدَهُ إلى صاحِبِهِ في البَيْعِ والشِّراءِ، وبَيْنَهُما ثالِثٌ مُتَوَسِّطٍ لا يُرِيدُ أنْ يَتَفاسَخا العَقْدَ مِن غَيْرِ إتْمامِ البَيْعِ، فَيَضَعُ يَدَهُ عَلى يَدَيْهِما، ويَحْفَظُ أيْدِيَهُما إلى أنْ يَتِمَّ العَقْدُ، ولا يَتْرُكَ أحَدَهُما يَتْرُكُ يَدَ الآخَرِ، فَوَضْعُ اليَدِ فَوْقَ الأيْدِي صارَ سَبَبًا لِلْحِفْظِ عَلى البَيْعَةِ، فَقالَ تَعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ﴾ يَحْفَظُهم عَلى البَيْعَةِ كَما يَحْفَظُ ذَلِكَ المُتَوَسِّطُ أيْدِيَ المُتَبايِعِينَ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن نَكَثَ فَإنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ﴾ أمّا عَلى قَوْلِنا المُرادُ مِنَ اليَدِ النِّعْمَةُ أوِ الغَلَبَةُ والقُوَّةُ، فَلِأنَّ مَن نَكَثَ فَوَّتَ عَلى نَفْسِهِ الإحْسانَ الجَزِيلَ في مُقابَلَةِ العَمَلِ القَلِيلِ، فَقَدْ خَسِرَ ونَكْثُهُ عَلى نَفْسِهِ، وأمّا عَلى قَوْلِنا المُرادُ الحِفْظُ، فَهو عائِدٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ يَعْنِي مَن يُبايِعُكُ أيُّها النَّبِيُّ إذا نَكَثَ لا يَكُونُ نَكْثُهُ عائِدًا إلَيْكَ؛ لِأنَّ البَيْعَةَ مَعَ اللَّهِ ولا إلى اللَّهِ، لِأنَّهُ لا يَتَضَرَّرُ بِشَيْءٍ، فَضَرَرُهُ لا يَعُودُ إلّا إلَيْهِ. قالَ: ﴿ومَن أوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أجْرًا عَظِيمًا﴾ وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ العِظَمَ في الأجْرامِ لا يُقالُ إلّا إذا اجْتَمَعَ فِيهِ الطُّولُ البالِغُ والعَرْضُ الواسِعُ والسُّمْكُ الغَلِيظُ، فَيُقالُ في الجَبَلِ الَّذِي هو مُرْتَفِعٌ، ولا اتِّساعَ لِعَرْضِهِ جَبَلٌ عالٍ أوْ مُرْتَفِعٌ أوْ شاهِقٌ، فَإذا انْضَمَّ إلَيْهِ الِاتِّساعُ في الجَوانِبِ يُقالُ عَظِيمٌ، والأجْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّ مَآكِلَ الجَنَّةِ تَكُونُ مِن أرْفَعِ الأجْناسِ، وتَكُونُ في غايَةِ الكَثْرَةِ، وتَكُونُ مُمْتَدَّةً إلى الأبَدِ لا انْقِطاعَ لَها، فَحَصَلَ فِيهِ ما يُناسِبُ أنْ يُقالَ لَهُ عَظِيمٌ، والعَظِيمُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى إشارَةٌ إلى كَمالِهِ في صِفاتِهِ، كَما أنَّهُ في الجِسْمِ إشارَةٌ إلى كَمالِهِ في جِهاتِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب