الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى بَيانًا لِما قالَهُ ﴿هاأنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكم مَن يَبْخَلُ ومَن يَبْخَلْ فَإنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ واللَّهُ الغَنِيُّ وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ [يَعْنِي] قَدْ طَلَبْتُ مِنكُمُ اليَسِيرَ فَبَخِلْتُمْ فَكَيْفَ لَوْ طَلَبْتُ مِنكُمُ الكُلَّ وقَوْلُهُ: (هَؤُلاءِ) يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً كَأنَّهُ قالَ: أنْتُمْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا في سَبِيلِ اللَّهِ. وثانِيهِما: (هَؤُلاءِ) وحْدَها خَبَرُ ”أنْتَ“ كَما يُقالُ: أنْتَ هَذا تَحْقِيقًا لِلشُّهْرَةِ والظُّهُورِ أيْ ظَهَرَ أثَرُكم بِحَيْثُ لا حاجَةَ إلى الإخْبارِ عَنْكم بِأمْرٍ مُغايِرٍ ثُمَّ يَبْتَدِئُ ”تُدْعَوْنَ“ وقَوْلُهُ: (تُدْعَوْنَ) أيْ إلى الإنْفاقِ إمّا في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى بِالجِهادِ، وإمّا في صَرْفِهِ إلى المُسْتَحِقِّينَ مِن إخْوانِكم، وبِالجُمْلَةِ فَفي الجِهَتَيْنِ تَخْذِيلُ الأعْداءِ ونُصْرَةُ الأوْلِياءِ: ﴿فَمِنكم مَن يَبْخَلُ﴾، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ البُخْلَ ضَرَرٌ عائِدٌ إلَيْهِ فَلا تَظُنُّوا أنَّهم لا يُنْفِقُونَهُ عَلى غَيْرِهِمْ بَلْ لا يُنْفِقُونَهُ عَلى أنْفُسِهِمْ فَإنَّ مَن يَبْخَلْ بِأُجْرَةِ الطَّبِيبِ وثَمَنِ الدَّواءِ وهو مَرِيضٌ فَلا يَبْخَلُ إلّا عَلى نَفْسِهِ، ثُمَّ حَقَّقَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ الغَنِيُّ﴾ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى مالِكم وأتَمَّهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْتُمُ الفُقَراءُ﴾ حَتّى لا تَقُولُوا إنّا أيْضًا أغْنِياءُ عَنِ القِتالِ ودَفْعِ حاجَةِ الفُقَراءِ، فَإنَّهم لا غِنى لَهم عَنْ ذَلِكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، أمّا في الدُّنْيا فَلِأنَّهُ لَوْلا القِتالُ لَقُتِلُوا، فَإنَّ الكافِرَ إنْ يَغْزُ يُغْزَ، والمُحْتاجُ إنْ لَمْ يَدْفَعْ حاجَتَهُ يَقْصِدْهُ، لا سِيَّما أباحَ الشّارِعُ لِلْمُضْطَرِّ ذَلِكَ، وأمّا في الآخِرَةِ فَظاهِرٌ فَكَيْفَ لا يَكُونُ فَقِيرًا وهو مَوْقُوفٌ مَسْئُولٌ: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ ولا بَنُونَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٨٨] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ بَيانُ التَّرْتِيبِ مِن وجْهَيْنِ: (p-٦٦)أحَدُهُما: أنَّهُ ذَكَرَهُ بَيانًا لِلِاسْتِغْناءِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [إبْراهِيمَ: ١٩] وقَدْ ذَكَرَ أنَّ هَذا تَقْرِيرٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: اللَّهُ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِ بِأسْرِهِ فَلا حاجَةَ لَهُ إلَيْكم. فَإنْ كانَ ذاهِبٌ يَذْهَبُ إلى أنَّ مُلْكَهُ بِالعالَمِ وجَبَرُوتَهُ يَظْهَرُ بِهِ وعَظَمَتَهُ بِعِبادِهِ، فَنَقُولُ هَبْ أنَّ هَذا الباطِلَ حَقٌّ لَكِنَّكم غَيْرُ مُتَعَيِّنِينَ لَهُ، بَلِ اللَّهُ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ خَلْقًا غَيْرَكم يَفْتَخِرُونَ بِعِبادَتِهِ، وعالَمًا غَيْرَ هَذا يَشْهَدُ بِعَظَمَتِهِ وكِبْرِيائِهِ. وثانِيهِما: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الأُمُورَ وأقامَ عَلَيْها البَراهِينَ وأوْضَحَها بِالأمْثِلَةِ قالَ إنْ أطَعْتُمْ فَلَكم أُجُورُكم وزِيادَةٌ، وإنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ يَبْقَ لَكم إلّا الإهْلاكُ، فَإنَّ ما مِن نَبِيٍّ أنْذَرَ قَوْمَهُ وأصَرُّوا عَلى تَكْذِيبِهِ إلّا وقَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ بِالإهْلاكِ وطَهَّرَ اللَّهُ الأرْضَ مِنهم وأتى بِقَوْمٍ آخَرِينَ طاهِرِينَ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ فِيهِ مَسْألَةٌ نَحْوِيَّةٌ يَتَبَيَّنُ مِنها فَوائِدَ عَزِيزَةً وهي أنَّ النُّحاةَ قالُوا: يَجُوزُ في المَعْطُوفِ عَلى جَوابِ الشَّرْطِ بِالواوِ والفاءِ وثُمَّ، الجَزْمُ والرَّفْعُ جَمِيعًا، قالَ اللَّهُ تَعالى هَهُنا: ﴿وإنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكم ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ بِالجَزْمِ، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿وإنْ يُقاتِلُوكم يُوَلُّوكُمُ الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١١١] بِالرَّفْعِ بِإثْباتِ النُّونِ وهو مَعَ الجَوازِ، فَفِيهِ تَدْقِيقٌ: وهو أنَّ هَهُنا لا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّوَلِّي لِأنَّهم إنْ لَمْ يَتَوَلَّوْا يَكُونُونَ مِمَّنْ يَأْتِي بِهِمُ اللَّهُ عَلى الطّاعَةِ وإنْ تَوَلَّوْا لا يَكُونُونَ مِثْلَهم لِكَوْنِهِمْ عاصِينَ، كَوْنُ مَن يَأْتِي بِهِمْ مُطِيعِينَ، وأمّا هُناكَ سَواءٌ قاتَلُوا أوْ لَمْ يُقاتِلُوا لا يُنْصَرُونَ، فَلَمْ يَكُنْ لِلتَّعْلِيقِ هُناكَ وجْهٌ فَرُفِعَ بِالِابْتِداءِ، وهَهُنا جُزِمَ لِلتَّعْلِيقِ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ: ﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أمْثالَكُمْ﴾ في الوَصْفِ ولا في الجِنْسِ وهو لائِقٌ. الوَجْهُ الثّانِي: وفِيهِ وُجُوهٌ أحَدُها: قَوْمٌ مِنَ العَجَمِ. ثانِيها: قَوْمٌ مِن فارِسَ، رُوِيَ أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَمَّنْ يُسْتَبْدَلُ بِهِمْ إنْ تَوَلَّوْا وسَلْمانُ إلى جَنْبِهِ فَقالَ: ”هَذا وقَوْمُهُ“ ثُمَّ قالَ: ”لَوْ كانَ الإيمانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيّا لَنالَهُ رِجالٌ مِن فارِسَ» “ . وثالِثُها: قَوْمٌ مِنَ الأنْصارِ واللَّهُ أعْلَمُ. والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وصَلاتُهُ عَلى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وآلِهِ وصَحْبِهِ وعِتْرَتِهِ وآلِ بَيْتِهِ أجْمَعِينَ وسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا آمِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب