الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وشاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وسَيُحْبِطُ أعْمالَهُمْ﴾ . وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: هم أهْلُ الكِتابِ قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ. والثّانِي: كُفّارُ قُرَيْشٍ يَدُلُّ عَلى الأوَّلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدى﴾ قِيلَ: أهْلُ الكِتابِ تَبَيَّنَ لَهم صِدْقُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقَوْلُهُ: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ تَهْدِيدٌ مَعْناهُ هم يَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ الشِّقاقَ مَعَ الرَّسُولِ وهم بِهِ يُشاقُّونَهُ ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الشِّقاقُ مَعَ اللَّهِ، فَإنَّمُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ما عَلَيْهِ إلّا البَلاغُ فَإنْ ضَرُّوا يَضُرُّوا الرُّسُلَ لَكِنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ يَتَضَرَّرَ بِكُفْرِ كافِرٍ وفِسْقِ فاسِقٍ، وقَوْلُهُ: ﴿وسَيُحْبِطُ أعْمالَهُمْ﴾ قَدْ عُلِمَ مَعْناهُ. فَإنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أحْبَطَ أعْمالَهم فَكَيْفَ يُحْبَطُ في المُسْتَقْبَلِ ؟ فَنَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في أوَّلِ السُّورَةِ المُشْرِكُونَ، ومِن أوَّلِ الأمْرِ كانُوا مُبْطِلِينَ، وأعْمالُهم كانَتْ عَلى غَيْرِ شَرِيعَةٍ، والمُرادُ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَهُنا أهْلُ الكِتابِ وكانَتْ لَهم أعْمالٌ قَبْلَ الرَّسُولِ فَأحْبَطَها اللَّهُ تَعالى بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ ولا يَنْفَعُهم إيمانُهم بِالحَشْرِ والرُّسُلِ والتَّوْحِيدِ، والكافِرُ المُشْرِكُ أُحْبِطَ عَمَلُهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَلى شَرْعٍ أصْلًا ولا كانَ مُعْتَرِفًا بِالحَشْرِ. الثّانِي: هو أنَّ المُرادَ بِالأعْمالِ هَهُنا مَكايِدُهم في القِتالِ وذَلِكَ في تَحَقُّقٍ مِنهم واللَّهُ سَيُبْطِلُهُ حَيْثُ يَكُونُ النَّصْرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، والمُرادُ بِالأعْمالِ في أوَّلِ السُّورَةِ هو ما ظَنُّوهُ حَسَنَةً. ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ ولا تُبْطِلُوا أعْمالَكُمْ﴾ العَطْفُ هَهُنا مِن بابِ عَطْفِ المُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ يُقالُ: اجْلِسْ واسْتَرِحْ وقُمْ وامْشِ لِأنَّ طاعَةَ اللَّهِ تُحْمَلُ عَلى طاعَةِ الرَّسُولِ، وهَذا إشارَةٌ إلى العَمَلِ بَعْدَ حُصُولِ العِلْمِ، كَأنَّهُ تَعالى قالَ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلِمْتُمُ الحَقَّ فافْعَلُوا الخَيْرَ، وقَوْلُهُ: ﴿ولا تُبْطِلُوا أعْمالَكُمْ﴾ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحُدُها: دُومُوا عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ ولا تُشْرِكُوا فَتَبْطُلَ أعْمالُكم، قالَ تَعالى: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٥] الوَجْهُ الثّانِي: ﴿ولا تُبْطِلُوا أعْمالَكُمْ﴾ (p-٦٣)بِتَرْكِ طاعَةِ الرَّسُولِ كَما أبْطَلَ أهْلُ الكِتابِ أعْمالَهم بِتَكْذِيبِ الرَّسُولِ وعِصْيانِهِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أصْواتَكُمْ﴾ [الحُجُراتِ: ٢] إلى أنْ قالَ: ﴿أنْ تَحْبَطَ أعْمالُكم وأنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحُجُراتِ: ٢] . الثّالِثُ: ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ [البَقَرَةِ: ٢٦٤] كَما قالَ تَعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلامَكُمْ﴾ [الحُجُراتِ: ١٧] وذَلِكَ أنَّ مَن يَمُنُّ بِالطّاعَةِ عَلى الرَّسُولِ كَأنَّهُ يَقُولُ هَذا فَعَلْتُهُ لِأجْلِ قَلْبِكَ، ولَوْلا رِضاكَ بِهِ لَما فَعَلْتُ، وهو مُنافٍ لِلْإخْلاصِ، واللَّهُ لا يَقْبَلُ إلّا العَمَلَ الخالِصَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب