الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وأنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِمْ﴾ أيْ ذَلِكَ الإضْلالُ والإبْطالُ بِسَبَبِ اتِّباعِهِمُ الباطِلَ، وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في الباطِلِ وجُوهٌ:
الأوَّلُ: ما لا يَجُوزُ وُجُودُهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُمُ اتَّبَعُوا إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ، وإلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ مُحالُ الوُجُودِ، وهو الباطِلُ وغايَةُ الباطِلِ؛ لِأنَّ الباطِلَ هو المَعْدُومُ، يُقالُ: بَطَلَ كَذا أيْ عَدُمَ، والمَعْدُومُ الَّذِي لا يَجُوزُ وُجُودُهُ ولا يُمْكِنُ أنْ يُوجَدَ، ولا يَجُوزُ أنْ يَصِيرَ حَقًّا مَوْجُودًا، فَهو في غايَةِ البُطْلانِ، فَعَلى هَذا فالحَقُّ هو الَّذِي لا يُمْكِنُ عَدَمُهُ وهو اللَّهُ تَعالى، وذَلِكَ لِأنَّ الحَقَّ هو المَوْجُودُ، يُقالُ: تَحَقَّقَ الأمْرُ، أيْ وُجِدَ وثَبَتَ، والمَوْجُودُ الَّذِي لا يَجُوزُ عَدَمُهُ هو في غايَةِ الثُّبُوتِ.
الثّانِي: الباطِلُ الشَّيْطانُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهم أجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥] فَبَيَّنَ أنَّ الشَّيْطانَ مَتْبُوعٌ وأتْباعُهُ هُمِ الكُفّارُ والفُجّارُ، وعَلى هَذا فالحَقُّ هو اللَّهُ؛ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ في مُقابَلَةِ حِزْبِ الشَّيْطانِ حِزْبَ اللَّهِ.
الثّالِثُ: الباطِلُ هو قَوْلُ كُبَرائِهِمْ ودِينُ آبائِهِمْ، كَما قالَ تَعالى عَنْهم: ﴿بَلْ قالُوا إنّا وجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وإنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٢] ومُقْتَدُونَ. فَعَلى هَذا الحَقُّ ما قالَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ اللَّهِ.
الرّابِعُ: الباطِلُ كُلُّ ما سِوى اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ الباطِلَ والهالِكَ بِمَعْنًى واحِدٍ. و﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القَصَصِ: ٨٨] وعَلى هَذا فالحَقُّ هو اللَّهُ تَعالى أيْضًا.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لَوْ قالَ قائِلٌ: مِن رَبِّهِمْ لا يُلائِمُ إلّا وجْهًا واحِدًا مِن أرْبَعَةِ أوْجُهٍ، وهو قَوْلُنا المُرادُ مِنَ الحَقِّ هو ما أنْزَلَ اللَّهُ وما قالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ اللَّهِ، فَأمّا عَلى قَوْلِنا الحَقُّ هو اللَّهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ: ﴿اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِمْ﴾ (p-٣٧)نَقُولُ عَلى هَذا: (مِن رَبِّهِمْ) لا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالحَقِّ، وإنَّما يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: (اتَّبَعُوا) أيْ: اتَّبَعُوا أمْرَ رَبِّهِمْ، أيْ مِن فَضْلِ اللَّهِ أوْ هِدايَةِ رَبِّهِمُ اتَّبَعُوا الحَقَّ، وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: إذا كانَ الباطِلُ هو المَعْدُومُ الَّذِي لا يَجُوزُ وُجُودُهُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ اتِّباعُهُ؟ نَقُولُ: لَمّا كانُوا يَقُولُونَ: إنَّما يَفْعَلُونَ لِلْأصْنامِ، وهي آلِهَةٌ وهي تُؤْجِرُهم بِذَلِكَ كانُوا مُتَّبَعِينَ في زَعْمِهِمْ، ولا مُتَّبِعَ هُناكَ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ: ﴿اتَّبَعُوا الحَقَّ مِن رَبِّهِمْ﴾ وقالَ في حَقِّ الكُفّارِ: ﴿اتَّبَعُوا الباطِلَ﴾ مِن آلِهَتِهِمْ أوِ الشَّيْطانِ، نَقُولُ: أمّا آلِهَتُهم فَلِأنَّهم لا كَلامَ لَهم ولا عَقْلَ، وحَيْثُ يُنْطِقُهُمُ اللَّهُ يُنْكِرُونَ فِعْلَهم، كَما قالَ تَعالى: ﴿ويَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطِرٍ: ١٤] وقالَ تَعالى: ﴿وكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ﴾ [الأحْقافِ: ٦] واللَّهُ تَعالى رَضِيَ بِفِعْلِهِمْ وثَبَّتَهم عَلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: قَوْلُهُ: (مِن رَبِّهِمْ) عائِدٌ إلى الأمْرَيْنِ جَمِيعًا، أيْ مِن رَبِّهِمُ اتَّبَعَ هَؤُلاءِ الباطِلَ وهَؤُلاءِ الحَقَّ، أيْ مِن حُكْمِ رَبِّهِمْ، ومِن عِنْدِ رَبِّهِمْ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ وفِيهِ أيْضًا مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أيُّ مَثَلٍ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعالى حَتّى يَقُولَ: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ ؟ نَقُولُ: فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: إضْلالُ أعْمالِ الكُفّارِ وتَكْفِيرُ سَيِّئاتِ الأبْرارِ.
الثّانِي: كَوْنُ الكافِرِ مُتَّبِعًا لِلْباطِلِ، وكَوْنُ المُؤْمِنِ مُتَّبِعًا لِلْحَقِّ.
ويَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:
أحَدُهُما: عَلى قَوْلِنا: (مِن رَبِّهِمْ) أيْ مِن عِنْدِ رَبِّهِمُ اتَّبَعَ هَؤُلاءِ الباطِلَ وهَؤُلاءِ الحَقَّ، نَقُولُ: هَذا مَثَلٌ يُضْرَبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الأمْثالِ، فَإنَّ الكُلَّ مِن عِنْدِ اللَّهِ الإضْلالُ وغَيْرُهُ والِاتِّباعُ وغَيْرُهُ.
وثانِيهِما: هو أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ الكافِرَ يُضِلُّ اللَّهُ عَمَلَهُ والمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِ، وكانَ بَيْنَ الكُفْرِ والإيمانِ مُبايَنَةٌ ظاهِرَةٌ فَإنَّهُما ضِدّانِ، نَبَّهَ عَلى أنَّ السَّبَبَ كَذا أيْ لَيْسَ الإضْلالُ والتَّكْفِيرُ بِسَبَبِ المُضادَّةِ والِاخْتِلافِ بَلْ بِسَبَبِ اتِّباعِ الحَقِّ والباطِلِ، وإذا عُلِمَ السَّبَبُ فالفِعْلانِ قَدْ يَتَّحِدانِ صُورَةً وحَقِيقَةً، وأحَدُهُما يُورِثُ إبْطالَ الأعْمالِ والآخَرُ يُورِثُ تَكْفِيرَ السَّيِّئاتِ بِسَبَبِ أنَّ أحَدَهُما يَكُونُ فِيهِ اتِّباعُ الحَقِّ والآخَرَ اتِّباعُ الباطِلِ، فَإنَّ مَن يُؤْمِنُ ظاهِرًا وقَلْبُهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الكُفْرِ، ومَن يُؤْمِنُ بِقَلْبِهِ وقَلْبُهُ مَمْلُوءٌ مِنَ الإيمانِ اتَّحَدَ فِعْلاهُما في الظّاهِرِ، وهُما مُخْتَلِفانِ بِسَبَبِ اتِّباعِ الحَقِّ واتِّباعِ الباطِلِ، لا بِدَعَ مِن ذَلِكَ، فَإنَّ مَن يُؤْمِن ظاهِرًا وهو يُسِرُّ الكُفْرَ، ومَن يَكْفُرْ ظاهِرًا بِالإكْراهِ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمانِ اخْتَلَفَ الفِعْلانِ في الظّاهِرِ، وإبْطالُ الأعْمالِ لِمَن أظْهَرَ الإيمانَ بِسَبَبِ أنَّ اتِّباعَ الباطِلِ مِن جانِبِهِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: الكُفْرُ والإيمانُ مِثْلانِ يَثْبُتُ فِيهِما حُكْمانِ، وعُلِمَ سَبَبُهُ وهو اتِّباعُ الحَقِّ والباطِلِ، فَكَذَلِكَ اعْلَمُوا أنَّ كُلَّ شَيْءٍ اتُّبِعَ فِيهِ الحَقُّ كانَ مَقْبُولًا مُثابًا عَلَيْهِ، وكُلُّ أمْرٍ اتُّبِعَ فِيهِ الباطِلُ كانَ مَرْدُودًا مُعاقَبًا عَلَيْهِ فَصارَ هَذا عامًّا في الأمْثالِ، عَلى أنّا نَقُولُ قَوْلُهُ: (كَذَلِكَ) لا يَسْتَدْعِي أنْ يَكُونَ هُناكَ مَثَلٌ مَضْرُوبٌ بَلْ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ حالَ الكافِرِ وإضْلالَ أعْمالِهِ وحالَ المُؤْمِنِ وتَكْفِيرَ سَيِّئاتِهِ وبَيَّنَ السَّبَبَ فِيهِما، كانَ ذَلِكَ غايَةَ الإيضاحِ فَقالَ: (كَذَلِكَ) أيْ مِثْلُ هَذا البَيانِ: ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ ويُبَيِّنُ لَهم أحْوالَهم.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿أمْثالَهُمْ﴾ عائِدٌ إلى مَن؟ فِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: إلى النّاسِ كافَّةً قالَ تَعالى: ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَهُمْ﴾ عَلى أنْفُسِهِمْ.
وثانِيهِما: إلى الفَرِيقَيْنِ السّابِقَيْنِ في الذِّكْرِ مَعْناهُ: يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنّاسِ أمْثالَ الفَرِيقَيْنِ السّابِقَيْنِ.
{"ayah":"ذَ ٰلِكَ بِأَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱتَّبَعُوا۟ ٱلۡبَـٰطِلَ وَأَنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبَعُوا۟ ٱلۡحَقَّ مِن رَّبِّهِمۡۚ كَذَ ٰلِكَ یَضۡرِبُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ أَمۡثَـٰلَهُمۡ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق