الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ أهْلَكْنا ما حَوْلَكم مِنَ القُرى وصَرَّفْنا الآياتِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهم وذَلِكَ إفْكُهم وما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ المُرادَ ولَقَدْ أهْلَكْنا ما حَوْلَكم يا كَفّارَ مَكَّةَ مِنَ القُرى، وهي قُرى عادٍ وثَمُودَ بِاليَمَنِ والشّامِ ﴿وصَرَّفْنا الآياتِ﴾ بَيَّنّاها لَهم (لَعَلَّهم) أيْ لَعَلَّ أهْلَ القُرى يَرْجِعُونَ، فالمُرادُ بِالتَّصْرِيفِ الأحْوالُ الهائِلَةُ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَ الإهْلاكِ. قالَ الجُبّائِيُّ: قَوْلُهُ: ﴿لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ مَعْناهُ لِكَيْ يَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، دَلَّ بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ تَعالى أرادَ رُجُوعَهم ولَمْ يَرِدْ إصْرارَهم. ”والجَوابُ“: أنَّهُ فَعَلَ ما لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ لَكانَ ذَلِكَ لِأجْلِ الإرادَةِ المَذْكُورَةِ، وإنَّما ذَهَبْنا إلى هَذا التَّأْوِيلِ لِلدَّلائِلِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الكائِناتِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبانًا آلِهَةً﴾ القُرْبانُ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ إلى اللَّهِ تَعالى، أيِ اتَّخَذُوهم شُفَعاءَ مُتَقَرَّبًا بِهِمْ إلى اللَّهِ حَيْثُ قالُوا: ﴿هَؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يُونُسَ: ١٨] وقالُوا: ﴿ما نَعْبُدُهم إلّا لِيُقَرِّبُونا إلى اللَّهِ زُلْفى﴾ [الزُّمَرِ: ٣] وفي إعْرابِ الآيَةِ وجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: أحَدُ مَفْعُولَيِّ اتَّخَذَ الرّاجِعُ إلى الَّذِينَ هو مَحْذُوفٌ. والثّانِي: آلِهَةً وقُرْبانًا حالٌ، وقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ الفِعْلَ المُتَعَدِّيَ إلى مَفْعُولَيْنِ لا يَتِمُّ إلّا بِذِكْرِهِما لَفْظًا، والحالُ مُشْعِرٌ بِتَمامِ الكَلامِ، ولا شَكَّ أنَّ إتْيانَ الحالِ بَيْنَ المَفْعُولَيْنِ عَلى خِلافِ الأصْلِ. الثّانِي: قالَ بَعْضُهم: ﴿قُرْبانًا﴾ مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّمَ عَلى المَفْعُولِ الأوَّلِ وهو ”آلِهَةً“ فَقِيلَ عَلَيْهِ: إنَّهُ يُؤَدِّي إلى خُلُوِّ الكَلامِ عَنِ الرّاجِعِ إلى الَّذِينَ. والثّالِثُ: قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: يُضْمَرُ أحَدُ مَفْعُولَيِ اتَّخَذُوا وهو الرّاجِعُ إلى الَّذِينَ، ويُجْعَلُ قُرْبانًا مَفْعُولًا ثانِيًا، وآلِهَةً عَطْفُ بَيانٍ، إذا عَرَفْتَ الكَلامَ في الإعْرابِ، فَنَقُولُ المَقْصُودُ أنْ يُقالَ: إنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ أهْلَكَهُمُ اللَّهُ هَلّا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ عَبَدُوهم، وزَعَمُوا أنَّهم مُتَقَرِّبُونَ بِعِبادَتِهِمْ إلى اللَّهِ لِيَشْفَعُوا لَهم ﴿بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ﴾ أيْ: غابُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى أنَّ كَوْنَ آلِهَتِهِمْ ناصِرِينَ لَهم أمْرٌ مُمْتَنِعٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وذَلِكَ إفْكُهُمْ﴾ أيْ: وذَلِكَ الِامْتِناعُ أثَرُ إفْكِهِمُ الَّذِي هو اتِّخاذُهم إيّاها آلِهَةً، وثَمَرَةُ شِرْكِهِمْ وافْتِرائِهِمْ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ في إثْباتِ الشُّرَكاءِ لَهُ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وقُرِئَ ”إفْكُهم“ والإفْكُ (p-٢٧)والأفْكُ كالحِذْرِ والحَذْرِ، وقُرِئَ ”وذَلِكَ أفَكَهم“ بِفَتْحِ الفاءِ والكافِ، أيْ ذَلِكَ الِاتِّخاذُ الَّذِي هَذا أثَرُهُ وثَمَرَتُهُ صَرَفَهم عَنِ الحَقِّ، وقُرِئَ ”أفَّكَهُمْ“ عَلى التَّشْدِيدِ لِلْمُبالَغَةِ، أفَّكَهم جَعَلَهم آفِكِينَ، وآفَكُهم أيْ قَوْلُهُمِ الإفْكَ، أيْ ذُو الإفْكِ كَما تَقُولُ قَوْلٌ كاذِبٌ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وما كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ والتَّقْدِيرُ وذَلِكَ إفْكُهم وافْتِراؤُهم في إثْباتِ الشُّرَكاءِ لِلَّهِ تَعالى، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب