الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ أخا عادٍ إذْ أنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقافِ وقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿قالُوا أجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وأُبَلِّغُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ ﴿فَلَمّا رَأوْهُ عارِضًا مُسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأمْرِ رَبِّها فَأصْبَحُوا لا يُرى إلّا مَساكِنُهم كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ ﴿ولَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ وجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْرَدَ أنْواعَ الدَّلائِلِ في إثْباتِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ، وكانَ أهْلُ مَكَّةَ بِسَبَبِ اسْتِغْراقِهِمْ في لَذّاتِ الدُّنْيا واشْتِغالِهِمْ بِطَلَبِها أعْرَضُوا عَنْها، ولَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْها، ولِهَذا السَّبَبِ قالَ تَعالى في حَقِّهِمْ: ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا﴾ فَلَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ بَيَّنَ أنَّ قَوْمَ عادٍ كانُوا أكْثَرَ أمْوالًا وقُوَّةً وجاهًا مِنهم، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى سَلَّطَ العَذابَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ شُؤْمِ كُفْرِهِمْ فَذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ هَهُنا (p-٢٤)لِيَعْتَبِرَ بِها أهْلُ مَكَّةَ، فَيَتْرُكُوا الِاغْتِرارَ بِما وجَدُوهُ مِنَ الدُّنْيا ويُقْبِلُوا عَلى طَلَبِ الدِّينِ، فَلِهَذا المَعْنى ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ القِصَّةَ في هَذا المَوْضِعِ، وهو مُناسِبٌ لِما تَقَدَّمَ؛ لِأنَّ مَن أرادَ تَقْبِيحَ طَرِيقَةٍ عِنْدَ قَوْمٍ كانَ الطَّرِيقُ فِيهِ ضَرْبَ الأمْثالِ، وتَقْدِيرُهُ: أنَّ مَن واظَبَ عَلى تِلْكَ الطَّرِيقَةِ نَزَلَ بِهِ مِنَ البَلاءِ كَذا وكَذا، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرْ أخا عادٍ﴾ أيْ: واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ أهْلَ مَكَّةَ هُودًا عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إذْ أنْذَرَ قَوْمَهُ﴾ أيْ: حَذَّرَهم عَذابَ اللَّهِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، وقَوْلُهُ: ﴿بِالأحْقافِ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الحِقْفُ الرَّمْلُ المُعْوَجُّ، ومِنهُ قِيلَ لِلْمُعْوَجِّ: مَحْقُوفٌ، وقالَ الفَرّاءُ: الأحْقافُ واحِدُها حِقْفٌ وهو الكَثِيبُ المُكَسَّرُ غَيْرُ العَظِيمِ وفِيهِ اعْوِجاجٌ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ”الأحْقافُ“ وادٍ بَيْنَ عُمانَ ومَهْرَةَ، و”النُّذُرُ“ جَمْعُ نَذِيرٍ بِمَعْنى المُنْذِرُ ﴿مِن بَيْنِ يَدَيْهِ﴾ مِن قِبَلِهِ ﴿ومِن خَلْفِهِ﴾ مِن بَعْدِهِ والمَعْنى: أنَّ هُودًا عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ أنْذَرَهم وقالَ لَهم: ﴿ألّا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ . واعْلَمْ أنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ بُعِثُوا قَبْلَهُ والَّذِينَ سَيُبْعَثُونَ بَعْدَهُ كُلُّهم مُنْذِرُونَ نَحْوَ إنْذارِهِ. ثُمَّ حَكى تَعالى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم: ﴿قالُوا أجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا﴾ الإفْكُ الصَّرْفُ، يُقالُ: أفَكَهُ عَنْ رَأْيِهِ أيْ صَرَفَهُ، وقِيلَ: بَلِ المُرادُ لَتُزِيلَنا بِضَرْبٍ مِنَ الكَذِبِ: ﴿عَنْ آلِهَتِنا﴾ وعَنْ عِبادَتِها ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ مُعاجَلَةُ العَذابِ عَلى الشِّرْكِ ﴿إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ في وعْدِكَ، فَعِنْدَ هَذا قالَ هُودٌ: ﴿إنَّما العِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ وإنَّما صَلَحَ هَذا الكَلامُ جَوابًا لِقَوْلِهِمْ: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ لِأنَّ قَوْلَهم: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ اسْتِعْجالٌ مِنهم لِذَلِكَ العَذابِ، فَقالَ لَهم هُودٌ: لا عِلْمَ عِنْدِي بِالوَقْتِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ ذَلِكَ العَذابُ، إنَّما عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى: ﴿وأُبَلِّغُكم ما أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ وهو التَّحْذِيرُ عَنِ العَذابِ، وأمّا العِلْمُ بِوَقْتِهِ فَما أوْحاهُ اللَّهُ إلَيَّ ﴿ولَكِنِّي أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ وهَذا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الأوَّلُ: المُرادُ أنَّكم لا تَعْلَمُونَ أنَّ الرُّسُلَ لَمْ يُبْعَثُوا سائِلِينَ عَنْ غَيْرِ ما أُذِنَ لَهم فِيهِ وإنَّما بُعِثُوا مُبَلِّغِينَ. الثّانِي: أراكم قَوْمًا تَجْهَلُونَ مِن حَيْثُ إنَّكم بَقِيتُمْ مُصِرِّينَ عَلى كُفْرِكم وجَهْلِكم فَيَغْلِبُ عَلى ظَنِّي أنَّهُ قُرُبَ الوَقْتُ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ العَذابُ بِسَبَبِ هَذا الجَهْلِ المُفْرِطِ والوَقاحَةِ التّامَّةِ. الثّالِثُ: إنِّي أراكم قَوُمًا تَجْهَلُونَ حَيْثُ تُصِرُّونَ عَلى طَلَبِ العَذابِ، وهَبْ أنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَكم كَوْنِي صادِقًا، ولَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ أيْضًا لَكم كَوْنِي كاذِبًا فالإقْدامُ عَلى الطَّلَبِ الشَّدِيدِ لِهَذا العَذابِ جَهْلٌ عَظِيمٌ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا رَأوْهُ﴾ ذَكَرَ المُبَرِّدُ في الضَّمِيرِ في رَأوْهُ قَوْلَيْنِ أحَدُهُما: أنَّهُ عائِدٌ إلى غَيْرِ مَذْكُورٍ وبَيَّنَهُ قَوْلُهُ: ﴿عارِضًا﴾ كَما قالَ: ﴿ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِن دابَّةٍ﴾ [فاطِرٍ: ٤٥] ولَمْ يَذْكُرِ الأرْضَ لِكَوْنِها مَعْلُومَةً فَكَذا هَهُنا الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى السَّحابِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَمّا رَأوُا السَّحابَ عارِضًا وهَذا اخْتِيارُ الزَّجّاجِ ويَكُونُ مِن بابِ الإضْمارِ لا عَلى شَرِيطَةِ التَّفْسِيرِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا إلى ما في قَوْلِهِ: ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ أيْ: فَلَمّا رَأوْا ما يُوعَدُونَ بِهِ عارِضًا، قالَ أبُو زَيْدٍ: العارِضُ السَّحابَةُ الَّتِي تُرى في ناحِيَةِ السَّماءِ ثُمَّ تَطْبِقُ، وقَوْلُهُ: ﴿مُسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: كانَتْ عادٌ قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ المَطَرُ أيّامًا فَساقَ اللَّهُ إلَيْهِمْ سَحابَةً سَوْداءَ فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ مِن وادٍ يُقالُ لَهُ: المُغِيثُ فَلَمّا رَأوْهُ مُسْتَقْبِلَ أوْدِيَتِهِمْ اسْتَبْشَرُوا و﴿قالُوا هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا﴾ والمَعْنى مُمْطِرُ إيّانا، قِيلَ كانَ هُودٌ قاعِدًا في قَوْمِهِ فَجاءَ سَحابٌ مُكْثِرٌ فَقالُوا: ﴿هَذا عارِضٌ مُمْطِرُنا﴾ فَقالَ: ﴿بَلْ هو ما اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ مِنَ العَذابِ ثُمَّ بَيَّنَ ماهِيَّتَهُ فَقالَ: ﴿رِيحٌ فِيها عَذابٌ ألِيمٌ﴾ . ثُمَّ وصَفَ تِلْكَ الرِّيحَ فَقالَ: ﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ أيْ تُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ النّاسِ والحَيَوانِ والنَّباتِ ﴿بِأمْرِ رَبِّها﴾ والمَعْنى أنَّ هَذا لَيْسَ مِن بابِ تَأْثِيراتِ الكَواكِبِ والقِراناتِ، بَلْ هو أمْرٌ حَدَثَ ابْتِداءً بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى لِأجْلِ تَعْذِيبِكم (p-٢٥)﴿فَأصْبَحُوا﴾ يَعْنِي: عادًا ﴿لا يُرى إلّا مَساكِنُهُمْ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: رُوِيَ أنَّ الرِّيحَ كانَتْ تَحْمِلُ الفُسْطاطَ فَتَرْفَعُها في الجَوِّ حَتّى يُرى كَأنَّها جَرادَةٌ، وقِيلَ: أوَّلُ مَن أبْصَرَ العَذابَ امْرَأةٌ مِنهم قالَتْ: رَأيْتُ رِيحًا فِيها كَشُهُبِ النّارِ، ورُوِيَ أنَّ أوَّلَ ما عَرَفُوا بِهِ أنَّهُ عَذابٌ ألِيمٌ أنَّهم رَأوْا ما كانَ في الصَّحْراءِ مِن رِجالِهِمْ ومَواشِيهِمْ يَطِيرُ بِهِ الرِّيحُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ فَدَخَلُوا بُيُوتَهم وغَلَّقُوا أبْوابَهم فَعَلَّقَتِ الرِّيحُ الأبْوابَ وصَرَعَتْهم، وأحالَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الأحْقافَ، فَكانُوا تَحْتَها سَبْعَ لَيالٍ وثَمانِيَةَ أيّامٍ لَهم أنِينٌ، ثُمَّ كَشَفَتِ الرِّيحُ عَنْهم فاحْتَمَلَتْهم فَطَرَحَتْهم في البَحْرِ، ورُوِيَ أنَّ هُودًا لَمّا أحَسَّ بِالرِّيحِ خَطَّ عَلى نَفْسِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ خَطًّا إلى جَنْبِ عَيْنٍ تَنْبُعُ فَكانَتِ الرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُهم رِيحًا لَيِّنَةً هادِئَةً طَيِّبَةً، والرِّيحُ الَّتِي تُصِيبُ قَوْمَ عادٍ تَرْفَعُهم مِنَ الأرْضِ وتُطَيِّرُهم إلى السَّماءِ وتَضْرِبُهم عَلى الأرْضِ، وأثَرُ المُعْجِزَةِ إنَّما ظَهَرَ في تِلْكَ الرِّيحِ مِن هَذا الوَجْهِ، وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«ما أمَرَ اللَّهُ خازِنَ الرِّياحِ أنْ يُرْسِلَ عَلى عادٍ إلّا مِثْلَ مِقْدارِ الخاتَمِ» “ ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ القَدْرَ أهْلَكَهم بِكُلِّيَّتِهِمْ، والمَقْصُودُ مِن هَذا الكَلامِ إظْهارُ كَمالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، «وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ كانَ إذا رَأى الرِّيحَ فَزِعَ وقالَ: ”اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ خَيْرَها وخَيْرَ ما أُرْسِلَتْ بِهِ، وأعُوذُ بِكَ مِن شَرِّها ومِن شَرِّ ما أُرْسِلَتْ بِهِ“» . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ: ”لا يُرى“ بِالياءِ وضَمِّها ”مَساكِنُهُمْ“ بِضَمِّ النُّونِ، قالَ الكِسائِيُّ: مَعْناهُ لا يُرى شَيْءٌ إلّا مَساكِنُهم وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ: ”لا نَرى“ عَلى الخِطابِ أيْ لا تَرى أنْتَ أيُّها المُخاطَبُ، وفي بَعْضِ الرِّواياتِ عَنْ عاصِمٍ ”لا تُرى“ بِالتّاءِ مَساكِنُهم بِضَمِّ النُّونِ وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، والتَّأْوِيلُ لا تُرى مِن بَقايا عادٍ أشْياءُ إلّا مَساكِنُهم. وقالَ الجُمْهُورُ هَذِهِ القِراءَةُ لَيْسَتْ بِالقَوِيَّةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ تَخْوِيفُ كَفّارِ مَكَّةَ، فَإنْ قِيلَ: لِما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ فَكَيْفَ يَبْقى التَّخْوِيفُ حاصِلًا؟ قُلْنا: قَوْلُهُ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ إنَّما أُنْزِلَ في آخِرِ الأمْرِ فَكانَ التَّخْوِيفُ حاصِلًا قَبْلَ نُزُولِهِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى خَوَّفَ كُفّارَ مَكَّةَ، وذَكَرَ فَضْلَ عادٍ بِالقُوَّةِ والجِسْمِ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ﴾ قالَ المُبَرِّدُ ”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿فِيما﴾ بِمَنزِلَةِ الَّذِي. و: ﴿إنْ﴾ بِمَنزِلَةِ ما والتَّقْدِيرُ: ولَقَدْ مَكَّنّاهم في الَّذِي ما مَكَّنّاكم فِيهِ، والمَعْنى أنَّهم كانُوا أشَدَّ مِنكم قُوَّةً وأكْثَرَ مِنكم أمْوالًا، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةُ: كَلِمَةُ ”إنْ“ زائِدَةٌ. والتَّقْدِيرُ: ولَقَدْ مَكَّنّاهم فِيما إنْ مَكَّنّاكم فِيهِ، وهَذا غَلَطٌ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الحُكْمَ بِأنَّ حَرْفًا مِن كِتابِ اللَّهِ عَبَثٌ لا يَقُولُ بِهِ عاقِلٌ. والثّانِي: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ أنَّهم كانُوا أقْوى مِنكم قُوَّةً، ثُمَّ إنَّهم مَعَ زِيادَةِ القُوَّةِ ما نَجَوْا مِن عِقابِ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ حالُكم، وهَذا المَقْصُودُ إنَّما يَتِمُّ لَوْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهم كانُوا أقْوى مِن قَوْمِ مَكَّةَ. الثّالِثُ: أنَّ سائِرَ الآياتِ تُفِيدُ هَذا المَعْنى، قالَ تَعالى: ﴿هم أحْسَنُ أثاثًا﴾ [مَرْيَمَ: ٧٤] وقالَ: ﴿كانُوا أكْثَرَ مِنهم وأشَدَّ قُوَّةً وآثارًا في الأرْضِ﴾ [غافِرٍ: ٨٢] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً﴾ والمَعْنى أنّا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أبْوابَ النِّعَمِ وأعْطَيْناهم سَمْعًا فَما اسْتَعْمَلُوهُ في سَماعِ الدَّلائِلِ، وأعْطَيْناهم أبْصارًا فَما اسْتَعْمَلُوها في تَأمُّلِ العِبَرِ، وأعْطَيْناهم أفْئِدَةً فَما اسْتَعْمَلُوها في طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى، بَلْ صَرَفُوا كُلَّ هَذِهِ القُوى إلى طَلَبِ الدُّنْيا ولَذّاتِها، فَلا جَرَمَ ما أغْنى سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن عَذابِ اللَّهِ شَيْئًا. (p-٢٦)ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما لَمْ يُغْنِ عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم لِأجْلِ أنَّهم كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ﴾ بِمَنزِلَةِ التَّعْلِيلِ، ولَفْظُ ”إذْ“ قَدْ يُذْكَرُ لِإفادَةِ التَّعْلِيلِ تَقُولُ: ضَرَبْتُهُ إذْ أساءَ، والمَعْنى ضَرَبْتُهُ لِأنَّهُ أساءَ، وفي هَذِهِ الآيَةِ تَخْوِيفٌ لِأهْلِ مَكَّةَ فَإنَّ قَوْمَ عادٍ لَمّا اغْتَرُّوا بِدُنْياهم وأعْرَضُوا عَنْ قَبُولِ الدَّلِيلِ والحُجَّةِ نَزَلَ بِهِمْ عَذابُ اللَّهِ، ولَمْ تُغْنِ عَنْهم قُوَّتُهم ولا كَثْرَتُهم، فَأهْلُ مَكَّةَ مَعَ عَجْزِهِمْ وضَعْفِهِمْ أوْلى بِأنْ يَحْذَرُوا مِن عَذابِ اللَّهِ تَعالى ويَخافُوا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يَعْنِي أنَّهم كانُوا يَطْلُبُونَ نُزُولَ العَذابِ وإنَّما كانُوا يَطْلُبُونَهُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب