الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أتَعِدانِنِي أنْ أُخْرَجَ وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي وهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ ويْلَكَ آمِن إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هَذا إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ ﴿ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا ولِيُوَفِّيَهم أعْمالَهم وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها فاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ الوَلَدَ البارَّ بِوالِدَيْهِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وصَفَ الوَلَدَ العاقَّ لِوالِدَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: ﴿والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما﴾ وفي هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ، قالُوا: كانَ أبَواهُ يَدْعُوانِهِ إلى الإسْلامِ فَيَأْبى، ويَقُولُ: ﴿أُفٍّ لَكُما﴾ واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ عَلى صِحَّتِهِ، بِأنَّهُ لَمّا كَتَبَ مُعاوِيَةُ إلى مَرْوانَ يُبايِعُ النّاسَ لِيَزِيدَ، قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرٍ: لَقَدْ جِئْتُمْ بِها هِرَقْلِيَّةَ، أتُبايَعُونَ لِأبْنائِكم ؟ فَقالَ مَرْوانُ: يا أيُّها النّاسُ هو الَّذِي قالَ اللَّهُ فِيهِ: ﴿والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما﴾ . والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ، بَلِ المُرادُ مِنهُ كُلُّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وهو كُلُّ مَن دَعاهُ أبَواهُ إلى (p-٢١)الدِّينِ الحَقِّ فَأباهُ وأنْكَرَهُ، وهَذا القَوْلُ هو الصَّحِيحُ عِنْدَنا، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ هَذا الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ: ”﴿أُفٍّ لَكُما أتَعِدانِنِي﴾“ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ ولا شَكَّ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ آمَنَ وحَسُنَ إسْلامُهُ، وكانَ مِن ساداتِ المُسْلِمِينَ، فَبَطَلَ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ، فَإنْ قالُوا: رُوِيَ أنَّهُ لَمّا دَعاهُ أبَواهُ إلى الإسْلامِ وأخْبَراهُ بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، قالَ: ﴿أتَعِدانِنِي أنْ أُخْرَجَ﴾ مِنَ القَبْرِ، يَعْنِي: أُبْعَثُ بَعْدَ المَوْتِ ﴿وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي﴾ يَعْنِي: الأُمَمُ الخالِيَةُ، فَلَمْ أرَ أحَدًا مِنهم بُعِثَ، فَأيْنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعانَ، وأيْنَ فُلانٌ وفُلانٌ؟ إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ المُرادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهم عَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ ماتُوا قَبْلَهُ، وهُمُ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ، وبِالجُمْلَةِ فَهو عائِدٌ إلى المُشارِ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي﴾ لا إلى المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما﴾ هَذا ما ذَكَرَهُ الكَلْبِيُّ في دَفْعِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وهو حَسَنٌ.
والوَجْهُ الثّانِي: في إبْطالِ ذَلِكَ القَوْلِ، ما رُوِيَ أنَّ مَرْوانَ لَمّا خاطَبَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أبِي بَكْرٍ بِذَلِكَ الكَلامِ سَمِعَتْ عائِشَةُ ذَلِكَ فَغَضِبَتْ وقالَتْ: واللَّهِ ما هو بِهِ، ولَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أباكَ وأنْتَ في صُلْبِهِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ وهو الأقْوى: أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى وصَفَ الوَلَدَ البارَّ بِأبَوَيْهِ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ووَصَفَ الوَلَدَ العاقَّ لِأبَوَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ، وذَكَرَ مِن صِفاتِ ذَلِكَ الوَلَدِ أنَّهُ بَلَغَ في العُقُوقِ إلى حَيْثُ لَمّا دَعاهُ أبَواهُ إلى الدِّينِ الحَقِّ، وهو الإقْرارُ بِالبَعْثِ والقِيامَةِ أصَرَّ عَلى الإنْكارِ وأبى واسْتَكْبَرَ، وعَوَّلَ في ذَلِكَ الإنْكارِ عَلى شُبُهاتٍ خَسِيسَةٍ وكَلِماتٍ واهِيَةٍ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ المُرادُ كُلُّ ولَدٍ اتَّصَفَ بِالصِّفاتِ المَذْكُورَةِ ولا حاجَةَ البَتَّةَ إلى تَخْصِيصِ اللَّفْظِ المُطْلَقِ بِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”أفِّ“ بِالفَتْحِ والكَسْرِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وبِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ مَعَ التَّنْوِينِ، وهو صَوْتٌ إذا صَوَّتَ بِهِ الإنْسانُ عُلِمَ أنَّهُ مُتَضَجِّرٌ، كَما إذا قالَ: حَسِّ، عُلِمَ أنَّهُ مُتَوَجِّعٌ، واللّامُ لِلْبَيانِ مَعْناهُ هَذا التَّأْفِيفُ لَكُما خاصَّةً، ولِأجْلِكُما دُونَ غَيْرِكُما، وقُرِئَ ”أتَعِدانِنِي“ بِنُونَيْنِ، و”أتَعِدانِي“ بِأحَدِهِما و”أتَعِدانِّي“ بِالإدْغامِ، وقَرَأ بَعْضُهم: ”أتَعِدانَنِي“ بِفَتْحِ النُّونِ كَأنَّهُ اسْتَثْقَلَ اجْتِماعُ النُّونَيْنِ والكَسْرَيْنِ والياءِ، فَفَتْحَ الأُولى تَحَرِّيًا لِلتَّخْفِيفِ كَما تَحَرّاهُ مَن أدْغَمَ ومَن طَرَحَ أحَدَهُما.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿أنْ أُخْرَجَ﴾ أيْ: أنْ أُبْعَثَ وأُخْرَجَ مِنَ الأرْضِ، وقُرِئَ: ”أخْرُجَ وقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي“ يَعْنِي ولَمْ يُبْعَثْ مِنهم أحَدٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ﴾ أيْ: الوالِدانِ يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ، فَإنْ قالُوا: كانَ الواجِبُ أنْ يُقالَ: يَسْتَغِيثانِ بِاللَّهِ؟ قُلْنا: الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى أنَّهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ مَن كُفْرِهِ وإنْكارِهِ، فَلَمّا حُذِفَ الجارُّ وُصِلَ الفِعْلُ.
الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الباءُ حُذِفَ؛ لِأنَّهُ أُرِيدَ بِالِاسْتِغاثَةِ هَهُنا الدُّعاءُ عَلى ما قالَهُ المُفَسِّرُونَ ”يَدْعُوانِ اللَّهَ“ فَلَمّا أُرِيدَ بِالِاسْتِغاثَةِ الدُّعاءُ حُذِفَ الجارُّ؛ لِأنَّ الدُّعاءَ لا يَقْتَضِيهِ، وقَوْلُهُ: ﴿ويْلَكَ﴾ أيْ: يَقُولانِ لَهُ ويْلَكَ، ﴿آمِن﴾ وصَدِّقْ بِالبَعْثِ وهو دُعاءٌ عَلَيْهِ بِالثُّبُورِ، والمُرادُ بِهِ الحَثُّ، والتَّحْرِيضُ عَلى الإيمانِ لا حَقِيقَةَ الهَلاكِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ وعْدَ اللَّهِ﴾ بِالبَعْثِ حَقٌّ، فَيَقُولُ لَهُما: ما هَذا الَّذِي تَقُولانِ مِن أمْرِ البَعْثِ وتَدْعُوانِنِي إلَيْهِ ﴿إلّا أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيْ: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العَذابِ، ثُمَّ هَهُنا قَوْلانِ: (p-٢٢)فالَّذِينَ يَقُولُونَ المُرادُ بِنُزُولِ الآيَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرٍ، قالُوا: المُرادُ بِهَؤُلاءِ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العَذابِ هُمُ القُرُونُ الَّذِينَ خَلَوْا مَن قَبْلِهِ، والَّذِينَ قالُوا: المُرادُ بِهِ لَيْسَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، بَلْ كُلُّ ولَدٍ كانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ المَذْكُورَةِ، قالُوا: هَذا الوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، وقَوْلُهُ: ﴿فِي أُمَمٍ﴾ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فِي أصْحابِ الجَنَّةِ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا أنَّهُ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ: أكْرَمَنِي الأمِيرُ في أُناسٍ مِن أصْحابِهِ، يُرِيدُ أكْرَمَنِي في جُمْلَةِ مَن أكْرَمَ مِنهم.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهم كانُوا خاسِرِينَ﴾ وقُرِئَ ”أنَّ“ بِالفَتْحِ عَلى مَعْنى آمَنَ بِأنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ الوَلَدَ البارَّ، ثُمَّ أرْدَفَهُ بِذِكْرِ الوَلَدِ العاقِّ، فَقَوْلُهُ: ﴿ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا﴾ خاصٌّ بِالمُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ لِأنَّ المُؤْمِنَ البارَّ بِوالِدَيْهِ لَهُ دَرَجاتٌ مُتَفاوِتَةٌ، ومَراتِبُ مُخْتَلِفَةٌ في هَذا البابِ.
والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمّا عَمِلُوا﴾ عائِدٌ إلى الفَرِيقَيْنِ، والمَعْنى ولِكُلِّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ دَرَجاتٌ في الإيمانِ والكُفْرِ والطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ، فَإنْ قالُوا: كَيْفَ يَجُوزُ ذِكْرُ لَفْظِ الدَّرَجاتِ في أهْلِ النّارِ، وقَدْ جاءَ في الأثَرِ: الجَنَّةُ دَرَجاتٌ، والنّارُ دَرَكاتٌ، قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ ذَلِكَ عَلى جِهَةِ التَّغْلِيبِ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ زَيْدٌ: دَرَجُ أهْلِ الجَنَّةِ يَذْهَبُ عُلُوًّا، ودَرَجُ أهْلِ النّارِ يَنْزِلُ هُبُوطًا.
الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِالدَّرَجاتِ المَراتِبُ المُتَزايِدَةُ، إلّا أنَّ زِياداتِ أهْلِ الجَنَّةِ في الخَيْراتِ والطّاعاتِ، وزِياداتِ أهْلِ النّارِ في المَعاصِي والسَّيِّئاتِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولِيُوَفِّيَهُمْ﴾ وقُرِئَ بِالنُّونِ وهَذا تَعْلِيلٌ مُعَلَّلُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ كَأنَّهُ ولِيُوَفِّيَهم أعْمالَهم ولا يَظْلِمَهم حُقُوقَهم قَدَّرَ جَزاءَهم عَلى مَقادِيرِ أعْمالِهِمْ، فَجَعَلَ الثَّوابَ دَرَجاتٍ والعِقابَ دَرَكاتٍ، ولَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ يُوَصِّلُ حَقَّ كُلِّ أحَدٍ إلَيْهِ بَيَّنَ أحْوالَ أهْلِ العِقابِ أوَّلًا، فَقالَ: ﴿ويَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ﴾ قِيلَ: يَدْخُلُونَ النّارَ، وقِيلَ: تُعْرَضُ عَلَيْهِمُ النّارَ لِيَرَوْا أهْوالَها: ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: ”آذَهَبْتُمْ“ اسْتِفْهامٌ بِهَمْزَةٍ ومَدَّةٍ، وابْنُ عامِرٍ اسْتِفْهامٌ بِهَمْزَتَيْنِ بِلا مَدَّةٍ والباقُونَ ”أذْهَبْتُمْ“ بِلَفْظِ الخَبَرِ والمَعْنى أنَّ كُلَّ ما قُدِّرَ لَكم مِنَ الطَّيِّباتِ والرّاحاتِ فَقَدِ اسْتَوْفَيْتُمُوهُ في الدُّنْيا وأخَذْتُمُوهُ، فَلَمْ يَبْقَ لَكم بَعْدَ اسْتِيفاءِ حَظِّكم شَيْءٌ مِنها، وعَنْ عُمَرَ: ”لَوْ شِئْتُ لَكُنْتُ أطْيَبُكم طَعامًا وأحْسَنُكم لِباسًا، ولَكِنِّي أسْتَبْقِي طَيِّباتِي. «وعَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ دَخَلَ عَلى أهْلِ الصُّفَّةِ وهم يُرَقِّعُونَ ثِيابَهم بِالأدَمِ ما يَجِدُونَ لَها رِقاعًا فَقالَ:“ أنْتُمُ اليَوْمَ خَيْرٌ أمْ يَوْمَ يَغْدُو أحَدُكم في حُلَّةٍ ويَرُوحُ في أُخْرى، ويُغْدى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ ويُراحُ عَلَيْهِ بِأُخْرى ويُسْتَرُ بَيْتُهُ كَما تُسْتَرُ الكَعْبَةُ، قالُوا: نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ، قالَ: بَلْ أنْتُمُ اليَوْمَ خَيْرٌ ؟ ”»، رَواهُ صاحِبُ“الكَشّافِ”. قالَ الواحِدِيُّ: إنَّ الصّالِحِينَ يُؤْثِرُونَ التَّقَشُّفَ والزُّهْدَ في الدُّنْيا رَجاءَ أنْ يَكُونَ ثَوابُهم في الآخِرَةِ أكْمَلَ، إلّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى المَنعِ مِنَ التَّنَعُّمِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ ورَدَتْ في حَقِّ الكافِرِ، وإنَّما وبَّخَ اللَّهُ الكافِرَ لِأنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالدُّنْيا ولَمْ يُؤَدِّ شُكْرَ المُنْعِمِ بِطاعَتِهِ والإيمانِ بِهِ، وأمّا المُؤْمِنُ فَإنَّهُ يُؤَدِّي بِإيمانِهِ شُكْرَ المُنْعِمِ فَلا يُوَبَّخُ بِتَمَتُّعِهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعْرافِ: ٣٢] نَعَمْ لا يُنْكَرُ أنَّ الِاحْتِرازَ عَنِ التَّنَعُّمِ أوْلى؛ لِأنَّ النَّفْسَ إذا اعْتادَتِ التَّنَعُّمَ صَعُبَ عَلَيْها الِاحْتِرازُ والِانْقِباضُ، وحِينَئِذٍ فَرُبَّما حَمَلَهُ المَيْلُ إلى تِلْكَ الطَّيِّباتِ عَلى فِعْلِ ما لا يَنْبَغِي، وذَلِكَ مِمّا يَجُرُّ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ ويَقَعُ في البُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِسَبَبِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ﴾ أيِ الهَوانِ، وقُرِئَ“عَذابَ الهَوانِ " (p-٢٣)﴿بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ فَعَلَّلَ تَعالى ذَلِكَ العَذابَ بِأمْرَيْنِ:
أوَّلُهُما: الِاسْتِكْبارُ والتَّرَفُّعُ وهو ذَنْبُ القَلْبِ.
الثّانِي: الفِسْقُ وهو ذَنْبُ الجَوارِحِ، وقَدَّمَ الأوَّلَ عَلى الثّانِي لِأنَّ أحْوالَ القُلُوبِ أعْظَمُ وقْعًا مِن أعْمالِ الجَوارِحِ، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن الِاسْتِكْبارِ أنَّهم يَتَكَبَّرُونَ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الحَقِّ، ويَسْتَنْكِفُونَ عَنِ الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأمّا الفِسْقُ فَهو المَعاصِي واحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرائِعِ، قالُوا: لِأنَّهُ تَعالى عَلَّلَ عَذابَهم بِأمْرَيْنِ: أوَّلُهُما: الكُفْرُ.
وثانِيهِما: الفِسْقُ، وهَذا الفِسْقُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِذَلِكَ الكُفْرِ؛ لِأنَّ العَطْفَ يُوجِبُ المُغايَرَةَ، فَثَبَتَ أنَّ فِسْقَ الكُفّارِ يُوجِبُ العِقابَ في حَقِّهِمْ، ولا مَعْنى لِلْفِسْقِ إلّا تَرْكُ المَأْمُوراتِ وفِعْلُ المَنهِيّاتِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":17,"ayahs":["وَٱلَّذِی قَالَ لِوَ ٰلِدَیۡهِ أُفࣲّ لَّكُمَاۤ أَتَعِدَانِنِیۤ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِی وَهُمَا یَسۡتَغِیثَانِ ٱللَّهَ وَیۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ فَیَقُولُ مَا هَـٰذَاۤ إِلَّاۤ أَسَـٰطِیرُ ٱلۡأَوَّلِینَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِیۤ أُمَمࣲ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ خَـٰسِرِینَ","وَلِكُلࣲّ دَرَجَـٰتࣱ مِّمَّا عَمِلُوا۟ۖ وَلِیُوَفِّیَهُمۡ أَعۡمَـٰلَهُمۡ وَهُمۡ لَا یُظۡلَمُونَ","وَیَوۡمَ یُعۡرَضُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ أَذۡهَبۡتُمۡ طَیِّبَـٰتِكُمۡ فِی حَیَاتِكُمُ ٱلدُّنۡیَا وَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهَا فَٱلۡیَوۡمَ تُجۡزَوۡنَ عَذَابَ ٱلۡهُونِ بِمَا كُنتُمۡ تَسۡتَكۡبِرُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّ وَبِمَا كُنتُمۡ تَفۡسُقُونَ"],"ayah":"أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ حَقَّ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَوۡلُ فِیۤ أُمَمࣲ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ خَـٰسِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق