الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويْلٌ لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ ﴿يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿وإذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿هَذا هُدًى والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ ألِيمٌ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيْنَ الآياتِ لِلْكَفّارِ وبَيَّنَ أنَّهم بِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ إذا لَمْ يُؤْمِنُوا بِها مَعَ ظُهُورِها، أتْبَعَهُ بِوَعِيدٍ عَظِيمٍ لَهم فَقالَ: ﴿ويْلٌ لِكُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾، الأفّاكُ الكَذّابُ، والأثِيمُ المُبالِغُ في اقْتِرافِ الآثامِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الأثِيمَ لَهُ مَقامانِ: المَقامُ الأوَّلُ: أنْ يَبْقى مُصِرًّا عَلى الإنْكارِ والِاسْتِكْبارِ، فَقالَ تَعالى: ﴿يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ﴾ أيْ يُقِيمُ عَلى كُفْرِهِ إقامَةً بِقُوَّةٍ وشِدَّةٍ ﴿مُسْتَكْبِرًا﴾ عَنِ الإيمانِ بِالآياتِ مُعْجَبًا بِما عِنْدَهُ، قِيلَ: نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ وما كانَ يَشْتَرِي مِن أحادِيثِ الأعاجِمِ ويَشْغَلُ بِها النّاسَ عَنِ اسْتِماعِ القُرْآنِ، والآيَةُ عامَّةٌ في كُلِّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِالصِّفَةِ المَذْكُورَةِ، فَإنْ قالُوا: ما مَعْنى ثُمَّ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا﴾ ؟، قُلْنا: نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١]، ومَعْناهُ أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ كانَ مِنَ المُسْتَبْعَدِ جَعْلُ هَذِهِ الأصْنامِ مُساوِيَةً لَهُ في المَعْبُودِيَّةِ، كَذا هَهُنا سَماعُ آياتِ اللَّهِ عَلى قُوَّتِها وظُهُورِها مِنَ المُسْتَبْعَدِ أنْ يُقابَلَ بِالإنْكارِ والإعْراضِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها﴾، الأصْلُ: كَأنَّهُ لَمْ يَسْمَعْها، والضَّمِيرُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، ومَحَلُّ الجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلى الحالِ، أيْ: يَصِيرُ مِثْلَ غَيْرِ السّامِعِ. المَقامُ الثّانِي: أنْ يَنْتَقِلَ مِن مَقامِ الإصْرارِ والِاسْتِكْبارِ إلى مَقامِ الِاسْتِهْزاءِ فَقالَ: ﴿وإذا عَلِمَ مِن آياتِنا شَيْئًا اتَّخَذَها هُزُوًا﴾، وكانَ مِن حَقِّ الكَلامِ أنْ يُقالَ: اتَّخَذَهُ هُزُوًا أيِ اتَّخَذَ ذَلِكَ الشَّيْءَ هُزُوًا إلّا أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿اتَّخَذَها﴾ لِلْإشْعارِ بِأنَّ هَذا الرَّجُلَ إذا أحَسَّ بِشَيْءٍ مِنَ الكَلامِ أنَّهُ مِن جُمْلَةِ الآياتِ الَّتِي أنْزَلَها اللَّهُ تَعالى عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ خاضَ في الِاسْتِهْزاءِ بِجَمِيعِ الآياتِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى الِاسْتِهْزاءِ بِذَلِكَ الواحِدِ. (p-٢٢٥)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ أُولَئِكَ إشارَةٌ إلى ﴿كُلِّ أفّاكٍ أثِيمٍ﴾ لِشُمُولِهِ جَمِيعَ الأفّاكِينَ، ثُمَّ وصَفَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ العَذابِ المُهِينِ فَقالَ: ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ أيْ مِن قُدّامِهِمْ جَهَنَّمُ، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “: الوَراءُ اسْمٌ لِلْجِهَةِ الَّتِي تَوارى بِها الشَّخْصُ مِن خَلْفٍ أوْ قُدّامٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ ما مَلَكُوهُ في الدُّنْيا لا يَنْفَعُهم فَقالَ: ﴿ولا يُغْنِي عَنْهم ما كَسَبُوا شَيْئًا﴾ . ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ أصْنامَهم لا تَنْفَعُهم فَقالَ: ﴿ولا ما اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أوْلِياءَ﴾، ثُمَّ قالَ: ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾، فَإنْ قالُوا: إنَّهُ قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ فَما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ؟ . قُلْنا: كَوْنُ العَذابِ مُهِينًا يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الإهانَةِ مَعَ العَذابِ، وكَوْنُهُ عَظِيمًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ بالِغًا إلى أقْصى الغاياتِ في كَوْنِهِ ضَرَرًا. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿هَذا هُدًى﴾ أيْ كامِلٌ في كَوْنِهِ هُدًى، ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ ألِيمٌ﴾ والرِّجْزُ أشَدُّ العَذابِ بِدَلالَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأنْزَلْنا عَلى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّماءِ﴾ [البقرة: ٥٩]، وقَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرِّجْزَ﴾ [الأعراف: ١٣٤]، وقُرِئَ (ألِيمٍ) بِالجَرِّ والرَّفْعِ، أمّا الجَرُّ فَتَقْدِيرُهُ: لَهم عَذابٌ مِن عَذابٍ ألِيمٍ، وإذا كانَ عَذابُهم مِن عَذابٍ ألِيمٍ كانَ عَذابُهم ألِيمًا، ومَن رَفَعَ كانَ المَعْنى: لَهم عَذابٌ ألِيمٌ، ويَكُونُ المُرادُ مِنَ الرِّجْزِ الرِّجْسَ الَّذِي هو النَّجاسَةُ ومَعْنى النَّجاسَةِ فِيهِ قَوْلُهُ: ﴿ويُسْقى مِن ماءٍ صَدِيدٍ﴾ [إبراهيم: ١٦]، وكانَ المَعْنى: لَهم عَذابٌ مِن تَجَرُّعِ رِجْسٍ أوْ شُرْبِ رِجْسٍ فَتَكُونُ مِن تَبْيِينًا لِلْعَذابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب