الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ﴾ ﴿وتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إلى كِتابِها اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكم بِالحَقِّ إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُدْخِلُهم رَبُّهم في رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هو الفَوْزُ المُبِينُ﴾ ﴿وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا أفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكم فاسْتَكْبَرْتُمْ وكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا احْتَجَّ بِكَوْنِهِ قادِرًا عَلى الإحْياءِ في المَرَّةِ الأُولى، وعَلى كَوْنِهِ قادِرًا عَلى الإحْياءِ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ عَمَّمَ الدَّلِيلَ فَقالَ: ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ لِلَّهِ القُدْرَةُ عَلى جَمِيعِ المُمْكِناتِ سَواءً كانَتْ مِنَ السَّماواتِ أوْ مِنَ الأرْضِ، وإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، وثَبَتَ أنَّ حُصُولَ الحَياةِ في هَذِهِ الذّاتِ مُمْكِنٌ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا لَما حَصَلَ في المَرَّةِ الأُولى؛ فَيَلْزَمُ مِن هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ كَوْنُهُ تَعالى قادِرًا عَلى الإحْياءِ في المَرَّةِ الثّانِيَةِ. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى إمْكانَ القَوْلِ بِالحَشْرِ والنَّشْرِ بِهَذَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ ذَكَرَ تَفاصِيلَ أحْوالِ القِيامَةِ فَأوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ﴾، وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: عامِلُ النَّصْبِ في يَوْمَ تَقُومُ يَخْسَرُ، ويَوْمَئِذِ بَدَلٌ مِن يَوْمَ تَقُومُ. البَحْثُ الثّانِي: قَدْ ذَكَرْنا في مَواضِعَ مِن هَذا الكِتابِ أنَّ الحَياةَ والعَقْلَ والصِّحَّةَ كَأنَّها رَأْسُ المالِ، والتَّصَرُّفُ فِيها لِطَلَبِ سَعادَةِ الآخَرِ يَجْرِي مَجْرى تَصَرُّفِ التّاجِرِ في رَأْسِ المالِ لِطَلَبِ الرِّبْحِ، والكُفّارُ قَدْ أتْعَبُوا أنْفُسَهم في هَذِهِ التَّصَرُّفاتِ وما وجَدُوا مِنها إلّا الحِرْمانَ والخِذْلانَ فَكانَ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ نِهايَةَ الخُسْرانِ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً﴾ قالَ اللَّيْثُ: الجُثُوُّ الجُلُوسُ عَلى الرُّكَبِ، كَما يَجْثِي بَيْنَ يَدَيِ الحاكِمِ، قالَ الزَّجّاجُ: ومِثْلُهُ جَذا يَجْذُو، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “: وقُرِئَ جاذِيَةً، قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: والجُذُوُّ أشَدُّ اسْتِيفازًا مِنَ الجُثُوِّ، لِأنَّ الجاذِيَ هو الَّذِي يَجْلِسُ عَلى أطْرافِ أصابِعِهِ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: جاثِيَةٌ مُجْتَمِعَةٌ مُرْتَقِبَةٌ لِما يُعْمَلُ بِها. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إلى كِتابِها﴾ عَلى الِابْتِداءِ، وكُلَّ أُمَّةٍ عَلى الإبْدالِ مِن كُلِّ أُمَّةٍ، وقَوْلُهُ: ﴿إلى كِتابِها﴾ أيْ إلى صَحائِفِ أعْمالِها، فاكْتَفى بِاسْمِ الجِنْسِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ووُضِعَ الكِتابُ فَتَرى المُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ﴾ (p-٢٣٤)[الكهف: ٤٩]، والظّاهِرُ أنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ المُؤْمِنُونَ والكافِرُونَ لِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَإنْ قِيلَ: الجُثُوُّ عَلى الرُّكْبَةِ إنَّما يَلِيقُ بِالخائِفِ والمُؤْمِنُونَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ، قُلْنا: إنَّ المُحِقَّ الآمِنَ قَدْ يُشارِكُ المُبْطِلَ في مِثْلِ هَذِهِ الحالَةِ إلى أنْ يَظْهَرَ كَوْنُهُ مُحِقًّا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿اليَوْمَ تُجْزَوْنَ﴾ والتَّقْدِيرُ: يُقالُ لَهم: اليَوْمَ تُجْزَوْنَ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ أُضِيفَ الكِتابُ إلَيْهِمْ وإلى اللَّهِ تَعالى ؟ قُلْنا: لا مُنافاةَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ لِأنَّهُ كِتابُهم بِمَعْنى أنَّهُ الكِتابُ المُشْتَمِلُ عَلى أعْمالِهِمْ، وكِتابُ اللَّهِ بِمَعْنى أنَّهُ هو الَّذِي أمَرَ المَلائِكَةَ بِكَتْبِهِ، ﴿يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ يَشْهَدُ عَلَيْكم بِما عَمِلْتُمْ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانَ، ﴿إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ﴾ المَلائِكَةُ ﴿ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أيْ نَسْتَكْتِبُهم أعْمالَكم. ثُمَّ بَيَّنَ أحْوالَ المُطِيعِينَ فَقالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُدْخِلُهم رَبُّهم في رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هو الفَوْزُ المُبِينُ﴾، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ بَعْدَ وصْفِهِمْ بِالإيمانِ كَوْنَهم عامِلِينَ لِلصّالِحاتِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ عَمَلُ الصّالِحاتِ مُغايِرًا لِلْإيمانِ زائِدًا عَلَيْهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: عَلَّقَ الدُّخُولَ في رَحْمَةِ اللَّهِ عَلى كَوْنِهِ آتِيًا بِالإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحَةِ، والمُعَلَّقِ عَلى مَجْمُوعِ أمْرَيْنِ يَكُونُ عَدَمًا عِنْدَ عَدَمِ أحَدِهِما، فَعِنْدَ عَدَمِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ وجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ الفَوْزُ بِالجَنَّةِ، وجَوابُنا: أنَّ تَعْلِيقَ الحُكْمِ عَلى الوَصْفِ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الوَصْفِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: سَمّى الثَّوابَ رَحْمَةً، والرَّحْمَةُ إنَّما تَصِحُّ تَسْمِيَتُها بِهَذا الِاسْمِ إذا لَمْ تَكُنْ واجِبَةً، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ الثَّوابُ واجِبًا عَلى اللَّهِ تَعالى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا أفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكم فاسْتَكْبَرْتُمْ وكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ ولَمْ يُذْكَرْ قِسْمًا ثالِثًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مَذْهَبَ المُعْتَزِلَةِ إثْباتَ المَنزِلَتَيْنِ باطِلٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى عَلَّلَ أنَّ اسْتِحْقاقَ العُقُوبَةِ بِأنَّ آياتِهِ تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فاسْتَكْبَرُوا عَنْ قَبُولِها، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ اسْتِحْقاقَ العُقُوبَةِ لا يَحْصُلُ إلّا بَعْدَ مَجِيءِ الشَّرْعِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الواجِباتِ لا تَجِبُ إلّا بِالشَّرْعِ، خِلافًا لِما يَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ مِن أنَّ بَعْضَ الواجِباتِ قَدْ يَجِبُ بِالعَقْلِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: جَوابُ ﴿أمّا﴾ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: وأمّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيُقالُ لَهم: ﴿أفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكم فاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ ﴿وكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ ؟ فَإنْ قالُوا: كَيْفَ يَحْسُنُ وصْفُ الكافِرِ بِكَوْنِهِ مُجْرِمًا في مَعْرِضِ الطَّعْنِ فِيهِ والذَّمِّ لَهُ ؟ قُلْنا: مَعْناهُ أنَّهم مَعَ كَوْنِهِمْ كُفّارًا ما كانُوا عُدُولًا في أدْيانِ أنْفُسِهِمْ، بَلْ كانُوا فُسّاقًا في ذَلِكَ الدِّينِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا قِيلَ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والسّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي ما السّاعَةُ إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ ﴿وبَدا لَهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿وقِيلَ اليَوْمَ نَنْساكم كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا ومَأْواكُمُ النّارُ وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾ ﴿ذَلِكم بِأنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا وغَرَّتْكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا فاليَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنها ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ﴿فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ ورَبِّ الأرْضِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿ولَهُ الكِبْرِياءُ في السَّماواتِ والأرْضِ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قُرِئَ والسّاعَةُ رَفْعًا ونَصْبًا، قالَ الزَّجّاجُ: مَن نَصَبَ عَطَفَ عَلى الوَعْدِ، ومَن رَفَعَ فَعَلى مَعْنى وقِيلَ: (السّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها)، قالَ الأخْفَشُ: الرَّفْعُ أجْوَدُ في المَعْنى وأكْثَرُ في كَلامِ العَرَبِ، إذا جاءَ بَعْدَ خَبَرِ إنَّ لِأنَّهُ كَلامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَجِيءِ الكَلامِ الأوَّلِ بِتَمامِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: حَكى اللَّهُ تَعالى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم إذا قِيلَ: إنَّ وعْدَ اللَّهِ بِالثَّوابِ والعِقابِ حَقٌّ وإنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها قالُوا: ﴿ما نَدْرِي ما السّاعَةُ إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا وما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ . أقُولُ: الأغْلَبُ عَلى الظَّنِّ أنَّ القَوْمَ كانُوا في هَذِهِ المَسْألَةِ عَلى قَوْلَيْنِ: مِنهم مَن كانَ قاطِعًا بِنَفْيِ البَعْثِ والقِيامَةِ، وهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿وقالُوا ما هي إلّا حَياتُنا الدُّنْيا﴾، ومِنهم مَن كانَ شاكًّا مُتَحَيِّرًا فِيهِ، لِأنَّهم لِكَثْرَةِ ما سَمِعُوهُ مِنَ الرَّسُولِ ﷺ، ولِكَثْرَةِ ما سَمِعُوهُ مِن دَلائِلَ القَوْلِ بِصِحَّتِهِ صارُوا شاكِّينَ فِيهِ، وهُمُ الَّذِينَ أرادَهم بِهَذِهِ الآيَةِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى حَكى مَذْهَبَ أُولَئِكَ القاطِعِينَ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِحِكايَةِ قَوْلِ هَؤُلاءِ؛ فَوَجَبَ كَوْنُ هَؤُلاءِ مُغايِرِينَ لِلْفَرِيقِ الأوَّلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وبَدا لَهُمْ﴾ أيْ في الآخِرَةِ، ﴿سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا﴾ وقَدْ كانُوا مِن قَبْلُ يَعُدُّونَها حَسَناتٍ؛ فَصارَ ذَلِكَ أوَّلَ خُسْرانِهِمْ، ﴿وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وهَذا كالدَّلِيلِ عَلى أنَّ هَذِهِ الفِرْقَةَ لَمّا قالُوا: ﴿إنْ نَظُنُّ إلّا ظَنًّا﴾ إنَّما ذَكَرُوهُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فَهَذا الفَرِيقُ شَرٌّ مِنَ الفَرِيقِ الأوَّلِ، لِأنَّ الأوَّلِينَ كانُوا مُنْكِرِينَ وما كانُوا مُسْتَهْزِئِينَ، وهَذا الفَرِيقُ ضَمُّوا إلى الإصْرارِ عَلى الإنْكارِ الِاسْتِهْزاءَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقِيلَ اليَوْمَ نَنْساكم كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا﴾ وفي تَفْسِيرِ هَذا النِّسْيانِ وجْهانِ: الأوَّلُ: نَتْرُكُكم في العَذابِ كَما تَرَكْتُمُ الطّاعَةَ الَّتِي هي الزّادُ لِيَوْمِ المَعادِ. الثّانِي: نَجْعَلُكم بِمَنزِلَةِ الشَّيْءِ المَنسِيِّ غَيْرِ المُبالى بِهِ، كَما لَمْ تُبالُوا أنْتُمْ بِلِقاءِ يَوْمِكم ولَمْ تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ بَلْ جَعَلْتُمُوهُ كالشَّيْءِ الَّذِي يُطْرَحُ نَسْيًا (p-٢٣٦)مَنسِيًّا. فَجَمَعَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ مِن وُجُوهِ العَذابِ الشَّدِيدِ ثَلاثَةَ أشْياءَ: فَأوَّلُها: قَطْعُ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى عَنْهم بِالكُلِّيَّةِ. وثانِيها: أنَّهُ يَصِيرُ مَأْواهُمُ النّارَ. وثالِثُها: أنْ لا يَحْصُلَ لَهم أجْرٌ مِنَ الأعْوانِ والأنْصارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ يُقالُ لَهم: إنَّكم إنَّما صِرْتُمْ مُسْتَحِقِّينَ لِهَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ مِنَ العَذابِ الشَّدِيدِ لِأجْلِ أنَّكم أتَيْتُمْ بِثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ الأعْمالِ القَبِيحَةِ: فَأوَّلُها: الإصْرارُ عَلى إنْكارِ الدِّينِ الحَقِّ. وثانِيها: الِاسْتِهْزاءُ بِهِ والسُّخْرِيَةُ مِنهُ. وهَذانِ الوَجْهانِ داخِلانِ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكم بِأنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُوًا﴾ . وثالِثُها: الِاسْتِغْراقُ في حُبِّ الدُّنْيا والإعْراضُ بِالكُلِّيَّةِ عَنِ الآخِرَةِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وغَرَّتْكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاليَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنها﴾ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ (يَخْرُجُونَ) بِفَتْحِ الياءِ، والباقُونَ بِضَمِّها، ﴿ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أيْ ولا يُطْلَبُ مِنهم أنْ يَعْتِبُوا رَبَّهم، أيْ يُرْضُوهُ. ولَمّا تَمَّ الكَلامُ في هَذِهِ المَباحِثِ الشَّرِيفَةِ الرُّوحانِيَّةِ خَتَمَ السُّورَةَ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ تَعالى فَقالَ: ﴿فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ ورَبِّ الأرْضِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ أيْ فاحْمِدُوا اللَّهَ الَّذِي هو خالِقُ السَّماواتِ والأرْضِ، بَلْ خالِقُ كُلِّ العالَمِينَ مِنَ الأجْسامِ والأرْواحِ والذَّواتِ والصِّفاتِ، فَإنَّ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةَ تُوجِبُ الحَمْدَ والثَّناءَ عَلى كُلِّ أحَدٍ مِنَ المَخْلُوقِينَ والمَرْبُوبِينَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَهُ الكِبْرِياءُ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وهَذا مُشْعِرٌ بِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ التَّكْبِيرَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بَعْدَ التَّحْمِيدِ، والإشارَةُ إلى أنَّ الحامِدِينَ إذا حَمِدُوهُ وجَبَ أنْ يَعْرِفُوا أنَّهُ أعْلى وأكْبَرُ مِن أنْ يَكُونَ الحَمْدُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لائِقًا بِإنْعامِهِ، بَلْ هو أكْبَرُ مِن حَمْدِ الحامِدِينَ، وأيادِيهِ أعْلى وأجَلُّ مِن شُكْرِ الشّاكِرِينَ. والثّانِي: أنَّ هَذا الكِبْرِياءَ لَهُ لا لِغَيْرِهِ لِأنَّ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ لَيْسَ إلّا هو. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ يَعْنِي أنَّهُ لِكَمالِ قُدْرَتِهِ يَقْدِرُ عَلى خَلْقِ أيِّ شَيْءٍ أرادَ، ولِكَمالِ حِكْمَتِهِ يَخُصُّ كُلَّ نَوْعٍ مِن مَخْلُوقاتِهِ بِآثارِ الحِكْمَةِ والرَّحْمَةِ والفَضْلِ والكَرَمِ، وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ يُفِيدُ الحَصْرَ، فَهَذا يُفِيدُ أنَّ الكامِلَ في القُدْرَةِ وفي الحِكْمَةِ وفي الرَّحْمَةِ لَيْسَ إلّا هو، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا إلَهَ لِلْخَلْقِ إلّا هو، ولا مُحْسِنَ ولا مُتَفَضِّلَ إلّا هو. قالَ مَوْلانا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ الخامِسَ عَشَرَ مِن ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وسِتِّمِائَةٍ، والحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا مُبارَكًا مُخَلَّدًا مُؤَبَّدًا، كَما يَلِيقُ بِعُلُوِّ شَأْنِهِ وباهِرِ بُرْهانِهِ وعَظِيمِ إحْسانِهِ، والصَّلاةُ عَلى الأرْواحِ الطّاهِرَةِ المُقَدَّسَةِ مِن ساكِنِي أعالِي السَّماواتِ وتُخُومِ الأرْضِينَ مِنَ المَلائِكَةِ والأنْبِياءِ والأوْلِياءِ والمُوَحِّدِينَ، خُصُوصًا عَلى سَيِّدِنا ونَبِيِّنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب