الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ فَتَنّا قَبْلَهم قَوْمَ فِرْعَوْنَ وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ ﴿وأنْ لا تَعْلُوا عَلى اللَّهِ إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فاعْتَزِلُونِ﴾ ﴿فَدَعا رَبَّهُ أنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ﴾ ﴿فَأسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إنَّكم مُتَّبَعُونَ﴾ ﴿واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا إنَّهم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ﴾ ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ﴾ ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ ﴿فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ وما كانُوا مُنْظَرِينَ﴾ . (p-٢١٠)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ كَفّارَ مَكَّةَ مُصِرُّونَ عَلى كُفْرِهِمْ، بَيَّنَ أنَّ كَثِيرًا مِنَ المُتَقَدِّمِينَ أيْضًا كانُوا كَذَلِكَ، فَبَيَّنَ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَةِ في أكْثَرِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “ قُرِئَ: (ولَقَدْ فَتَّنّا) بِالتَّشْدِيدِ لِلتَّأْكِيدِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ابْتَلَيْنا، وقالَ الزَّجّاجُ: بَلَوْنا، والمَعْنى: عامَلْناهم مُعامَلَةَ المُخْتَبَرِ بِبَعْثِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ، ﴿وجاءَهم رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ وهو مُوسى، واخْتَلَفُوا في مَعْنى الكَرِيمِ هَهُنا فَقالَ الكَلْبِيُّ: كَرِيمٌ عَلى رَبِّهِ، يَعْنِي أنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلى رَبِّهِ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ الإكْرامِ، وقالَ مُقاتِلٌ: حَسَنُ الخُلُقِ، وقالَ الفَرّاءُ: يُقالُ: فُلانٌ كَرِيمُ قَوْمِهِ لِأنَّهُ قَلَّ ما بُعِثَ رَسُولٌ إلّا مِن أشْرافِ قَوْمِهِ وكِرامِهِمْ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿أنْ أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ﴾، وفي (أنْ) قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّها أنِ المُفَسِّرَةُ وذَلِكَ لِأنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ إلى مَن بُعِثَ إلَيْهِمْ مُتَضَمِّنٌ لِمَعْنى القَوْلِ، لِأنَّهُ لا يَجِيئُهم إلّا مُبَشِّرًا ونَذِيرًا وداعِيًا إلى اللَّهِ. الثّانِي: أنَّها المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، ومَعْناهُ: وجاءَهم بِأنَّ الشَّأْنَ والحَدِيثَ أدُّوا، وعِبادُ اللَّهِ مَفْعُولٌ بِهِ وهم بَنُو إسْرائِيلَ، يَقُولُ: أدُّوهم إلَيَّ وأرْسِلُوهم مَعِيَ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ ولا تُعَذِّبْهُمْ﴾ [طه: ٤٧]، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ نِداءً لَهم، والتَّقْدِيرُ: أدُّوا إلَيَّ عِبادَ اللَّهِ ما هو واجِبٌ عَلَيْكم مِنَ الإيمانِ، وقَبُولِ دَعْوَتِي، واتِّباعِ سَبِيلِي، وعَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّهُ ﴿رَسُولٌ أمِينٌ﴾ قَدِ ائْتَمَنَهُ اللَّهُ عَلى وحْيِهِ ورِسالَتِهِ. ﴿وأنْ لا تَعْلُوا﴾ أنْ هَذِهِ مِثْلُ الأُولى في وجْهَيْها، أيْ لا تَتَكَبَّرُوا عَلى اللَّهِ بِإهانَةِ وحْيِهِ ورَسُولِهِ، ﴿إنِّي آتِيكم بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ بِحُجَّةٍ بَيِّنَةٍ يَعْتَرِفُ بِصِحَّتِها كُلُّ عاقِلٍ، ﴿وإنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم أنْ تَرْجُمُونِ﴾ قِيلَ: المُرادُ أنْ تَقْتُلُونِ، وقِيلَ: ﴿أنْ تَرْجُمُونِ﴾ بِالقَوْلِ فَتَقُولُوا: ساحِرٌ كَذّابٌ، ﴿وإنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي﴾ أيْ إنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي ولَمْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ لِأجْلِ ما أتَيْتُكم بِهِ مِنَ الحُجَّةِ، فاللّامُ في لِي لامُ الأجَلِ، ﴿فاعْتَزِلُونِ﴾ أيْ أخْلُوا سَبِيلِي لا لِي ولا عَلَيَّ. قالَ مُصَنِّفُ الكُتّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: إنَّ المُعْتَزِلَةَ يَتَصَلَّفُونَ ويَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الِاعْتِزالِ أيْنَما جاءَ في القُرْآنِ كانَ المُرادُ مِنهُ الِاعْتِزالَ عَنِ الباطِلِ لا عَنِ الحَقِّ، فاتَّفَقَ حُضُورِي في بَعْضِ المَحافِلِ، وذَكَرَ بَعْضُهم هَذا الكَلامَ فَأوْرَدْتُ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ، وقُلْتُ: المُرادُ بِالِاعْتِزالِ في هَذِهِ الآيَةِ الِاعْتِزالُ عَنْ دِينِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وطَرِيقَتِهِ، وذَلِكَ لا شَكَّ أنَّهُ اعْتِزالٌ عَنِ الحَقِّ فانْقَطَعَ الرَّجُلُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَدَعا رَبَّهُ﴾ الفاءُ في فَدَعا تَدُلُّ عَلى أنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَحْذُوفٍ قَبْلَهُ، التَّأْوِيلُ أنَّهم كَفَرُوا ولَمْ يُؤْمِنُوا فَدَعا مُوسى رَبَّهُ بِأنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، فَإنْ قالُوا: الكُفْرُ أعْظَمُ حالًا مِنَ الجُرْمِ، فَما السَّبَبُ في أنْ جَعَلَ صِفَةَ الكُفّارِ كَوْنَهم مُجْرِمِينَ حالَ ما أرادَ المُبالَغَةَ في ذَمِّهِمْ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ الكافِرَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا في دِينِهِ، وقَدْ يَكُونُ مُجْرِمًا في دِينِهِ، وقَدْ يَكُونُ فاسِقًا في دِينِهِ أخَسَّ النّاسِ، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “: قُرِئَ (إنَّ هَؤُلاءِ) بِالكَسْرِ عَلى إضْمارِ القَوْلِ أيْ فَدَعا رَبَّهُ فَقالَ: (إنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿فَأسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ (فاسْرِ) مَوْصُولَةَ الألِفِ والباقُونَ مَقْطُوعَةَ الألِفِ، سَرى وأسْرى لُغَتانِ، أيْ أوْحَيْنا إلى مُوسى أنْ أسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إنَّكم مُتَّبَعُونَ، أيْ يَتْبَعُكم فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ ذَلِكَ سَبَبًا (p-٢١١)لِهَلاكِهِمْ، ﴿واتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا﴾، وفي الرَّهْوِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ السّاكِنُ، يُقالُ: عَيْشٌ راهٍ إذا كانَ خافِضًا وادِعًا، وافْعَلْ ذَلِكَ سَهْوًا رَهْوًا أيْ ساكِنًا بِغَيْرِ تَشَدُّدٍ، أرادَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا جاوَزَ البَحْرَ أنْ يَضْرِبَهُ بِعَصاهُ فَيَنْطَبِقَ كَما كانَ، فَأمَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِأنْ يَتْرُكَهُ ساكِنًا عَلى هَيْئَتِهِ قارًّا عَلى حالِهِ في انْفِلاقِ الماءِ وبَقاءِ الطَّرِيقِ يَبَسًا حَتّى تَدْخُلَهُ القِبْطُ فَإذا حَصَلُوا فِيهِ أطْبَقَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. والثّانِي: أنَّ الرَّهْوَ هو الفُرْجَةُ الواسِعَةُ، والمَعْنى: ذا رَهْوٍ أيْ ذا فُرْجَةٍ يَعْنِي الطَّرِيقَ الَّذِي أظْهَرَهُ اللَّهُ فِيما بَيْنَ البَحْرِ (أنَّهم جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) يَعْنِي اتْرُكِ الطَّرِيقَ كَما كانَ يَدْخُلُوا فَيَغْرَقُوا، وإنَّما أخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ حَتّى يَبْقى فارِغَ القَلْبِ عَنْ شَرِّهِمْ وإيذائِهِمْ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ﴾ ﴿وزُرُوعٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ تَعالى أغْرَقَهم، ثُمَّ قالَ بَعْدَ غَرَقِهِمْ هَذا الكَلامَ، وبَيَّنَ تَعالى أنَّهم تَرَكُوا هَذِهِ الأشْياءَ الخَمْسَةَ، وهي الجَنّاتُ والعُيُونُ والزُّرُوعُ والمَقامُ الكَرِيمُ، والمُرادُ بِالمَقامِ الكَرِيمِ: ما كانَ لَهم مِنَ المَجالِسِ والمَنازِلِ الحَسَنَةِ، وقِيلَ: المَنابِرُ الَّتِي كانُوا يَمْدَحُونَ فِرْعَوْنَ عَلَيْها، ﴿ونَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ﴾ قالَ عُلَماءُ اللُّغَةِ: نَعْمَةُ العَيْشِ، بِفَتْحِ النُّونِ، حُسْنُهُ ونَضارَتُهُ، ونِعْمَةُ اللَّهِ إحْسانُهُ وعَطاؤُهُ، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “: النَّعْمَةُ بِالفَتْحِ مِنَ التَّنَعُّمِ وبِالكَسْرِ مِنَ الإنْعامِ، وقُرِئَ فاكِهِينَ وفَكِهِينَ، (كَذَلِكَ) الكافُ مَنصُوبَةٌ عَلى مَعْنى مِثْلِ ذَلِكَ الإخْراجِ أخْرَجْناهم مِنها وأوْرَثْناها، أوْ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ الأمْرَ ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها قَوْمًا آخَرِينَ﴾ لَيْسُوا مِنهم في شَيْءٍ مِن قَرابَةٍ ولا دِينٍ ولا ولاءٍ، وهم بَنُو إسْرائِيلَ كانُوا مُسْتَعْبَدِينَ في أيْدِيهِمْ فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ عَلى أيْدِيهِمْ وأوْرَثَهم مُلْكَهم ودِيارَهم. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ﴾، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الواحِدِيُّ في “ البَسِيطِ “: رَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: («ما مِن عَبْدٍ إلّا ولَهُ في السَّماءِ بابانِ: بابٌ يَخْرُجُ مِنهُ رِزْقُهُ، وبابٌ يَدْخُلُ فِيهِ عَمَلُهُ، فَإذا ماتَ فَقَداهُ وبَكَيا عَلَيْهِ» )، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ، قالَ: وذَلِكَ لِأنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَ عَلى الأرْضِ عَمَلًا صالِحًا فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَصْعَدْ لَهم إلى السَّماءِ كَلامٌ طَيِّبٌ ولا عَمَلٌ صالِحٌ فَتَبْكِيَ عَلَيْهِمْ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ. القَوْلُ الثّانِي: التَّقْدِيرُ: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمْ أهْلُ السَّماءِ وأهْلُ الأرْضِ، فَحُذِفَ المُضافُ، والمَعْنى: ما بَكَتْ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ ولا المُؤْمِنُونَ، بَلْ كانُوا بِهَلاكِهِمْ مَسْرُورِينَ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ عادَةَ النّاسِ جَرَتْ بِأنْ يَقُولُوا في هَلاكِ الرَّجُلِ العَظِيمِ الشَّأْنِ: إنَّهُ أظْلَمَتْ لَهُ الدُّنْيا، وكَسَفَتِ الشَّمْسُ والقَمَرُ لِأجْلِهِ، وبَكَتِ الرِّيحُ والسَّماءُ والأرْضُ، ويُرِيدُونَ المُبالَغَةَ في تَعْظِيمِ تِلْكَ المُصِيبَةِ لا نَفْسَ هَذا الكَذِبِ. ونَقَلَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: («ما مِن مُؤْمِنٍ ماتَ في غُرْبَةٍ غابَتْ فِيها بَواكِيهِ إلّا بَكَتْ عَلَيْهِ السَّماءُ والأرْضُ» ) . وقالَ جَرِيرٌ: ؎الشَّمْسُ طالِعَةٌ لَيْسَتْ بِكاسِفَةٍ تُبْكِي عَلَيْكَ نُجُومَ اللَّيْلِ والقَمَرا وفِيهِ ما يُشْبِهُ السُّخْرِيَةَ بِهِمْ، يَعْنِي أنَّهم كانُوا يَسْتَعْظِمُونَ أنْفُسَهم، وكانُوا يَعْتَقِدُونَ في أنْفُسِهِمْ أنَّهم لَوْ ماتُوا لَبَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ والأرْضُ، فَما كانُوا في هَذا الحَدِّ، بَلْ كانُوا دُونَ ذَلِكَ، وهَذا إنَّما يُذْكَرُ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ. (p-٢١٢)ثُمَّ قالَ: ﴿وما كانُوا مُنْظَرِينَ﴾ أيْ لَمّا جاءَ وقْتُ هَلاكِهِمْ لَمْ يُنْظَرُوا إلى وقْتٍ آخَرَ لِتَوْبَةٍ وتَدارُكٍ وتَقْصِيرٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب