الباحث القرآني

(p-١٩٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهم وهم فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾ ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ ﴿ونادَوْا يامالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إنَّكم ماكِثُونَ﴾ ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾ ﴿أمْ أبْرَمُوا أمْرًا فَإنّا مُبْرِمُونَ﴾ ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْواهم بَلى ورُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الوَعْدَ أرْدَفَهُ بِالوَعِيدِ عَلى التَّرْتِيبِ المُسْتَمِرِّ في القُرْآنِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ القاضِي عَلى القَطْعِ بِوَعِيدِ الفُسّاقِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهم وهم فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾، ولَفْظُ المُجْرِمِ يَتَناوَلُ الكافِرَ والفاسِقَ، فَوَجَبَ كَوْنُ الكُلِّ في عَذابِ جَهَنَّمَ، وقَوْلُهُ: ﴿خالِدُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى الخُلُودِ، وقَوْلُهُ أيْضًا: ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ يَدُلُّ عَلى الخُلُودِ والدَّوامِ أيْضًا. والجَوابُ: أنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وما بَعْدَها يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِن لَفْظِ (المُجْرِمِينَ) هَهُنا الكُفّارُ، أمّا ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ فَلِأنَّهُ قالَ: ﴿ياعِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ﴾ [الزخرف: ٦٨، ٦٩]، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مَن آمَنَ بِآياتِ اللَّهِ وكانُوا مُسْلِمِينَ فَإنَّهم يَدْخُلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿ياعِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وكانُوا مُسْلِمِينَ﴾، والفاسِقُ مِن أهْلِ الصَّلاةِ آمَنَ بِاللَّهِ تَعالى وبِآياتِهِ وأسْلَمَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ داخِلًا تَحْتَ ذَلِكَ الوَعْدِ، ووَجَبَ أنْ يَكُونَ خارِجًا عَنْ هَذا الوَعِيدِ، وأمّا ما بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ فَهو قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾، والمُرادُ بِالحَقِّ هَهُنا إمّا الإسْلامُ وإمّا القُرْآنُ، والرَّجُلُ المُسْلِمُ لا يَكْرَهُ الإسْلامَ ولا القُرْآنَ، فَثَبَتَ أنَّ ما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ وما بَعْدَها يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ المُجْرِمِينَ الكُفّارُ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَ عَذابَ جَهَنَّمَ في حَقِّ المُجْرِمِينَ بِصِفاتٍ ثَلاثٍ: إحْداها: الخُلُودُ، وقَدْ ذَكَرْنا في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ أنَّهُ عِبارَةٌ عَنْ طُولِ المُكْثِ، ولا يُفِيدُ الدَّوامَ. وثانِيها: قَوْلُهُ: ﴿لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾ أيْ لا يُخَفَّفُ ولا يَنْقُصُ مِن قَوْلِهِمْ: فَتَرَتْ عَنْهُ الحُمّى إذا سَكَنَتْ ونَقَصَ حَرُّها. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وهم فِيهِ مُبْلِسُونَ﴾، والمُبْلِسُ اليائِسُ السّاكِتُ سُكُوتَ يائِسٍ مِن فَرَجٍ، عَنِ الضَّحّاكِ: يُجْعَلُ المُجْرِمُ في تابُوتٍ مِن نارٍ، ثُمَّ يُقْفَلُ عَلَيْهِ فَيَبْقى فِيهِ خالِدًا لا يُرى، قالَ صاحِبُ “ الكَشّافِ “: وقُرِئَ (وهم فِيها) أيْ: وهم في النّارِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ القاضِي بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِينَ﴾ فَقالَ: إنْ كانَ خَلَقَ فِيهِمُ الكُفْرَ لِيُدْخِلَهُمُ النّارَ فَما الَّذِي نَفاهُ بِقَوْلِهِ: ﴿وما ظَلَمْناهُمْ﴾، وما الَّذِي نَسَبَهُ إلَيْهِمْ مِمّا نَفاهُ عَنْ نَفْسِهِ ؟ أوَلَيْسَ لَوْ أثْبَتْناهُ ظُلْمًا لَهم كانَ لا يَزِيدُ عَلى ما يَقُولُهُ القَوْمُ، فَإنْ قالُوا: ذَلِكَ الفِعْلُ لَمْ يَقَعْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَقَطْ، بَلْ إنَّما وقَعَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مَعَ قُدْرَةِ العَبْدِ مَعًا، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ. قُلْنا: عِنْدَكم أنَّ القُدْرَةَ عَلى الظُّلْمِ مُوجِبَةٌ لِلظُّلْمِ، وخالِقُ تِلْكَ القُدْرَةِ هو اللَّهُ تَعالى، فَكَأنَّهُ تَعالى لَمّا فَعَلَ مَعَ خَلْقِ الكُفْرِ قُدْرَةً عَلى الكُفْرِ خَرَجَ عَنْ أنْ يَكُونَ ظالِمًا لَهم، وذَلِكَ مُحالٌ لِأنَّ مَن يَكُونُ ظالِمًا في فِعْلٍ، فَإذا فَعَلَ مَعَهُ ما يُوجِبُ ذَلِكَ الفِعْلَ يَكُونُ بِذَلِكَ أحَقُّ، فَيُقالُ لِلْقاضِي: قُدْرَةُ العَبْدِ هَلْ هي صالِحَةٌ لِلطَّرَفَيْنِ أوْ هي مُتَعَيَّنَةٌ لِأحَدِ الطَّرَفَيْنِ ؟ فَإنْ كانَتْ صالِحَةً لِكِلا الطَّرَفَيْنِ فالتَّرْجِيحُ إنْ وقَعَ لا لِمُرَجِّحٍ لَزِمَ نَفْيُ الصّانِعِ، وإنِ افْتَقَرَ إلى مُرَجِّحٍ عادَ التَّقْسِيمُ الأوَّلُ فِيهِ، ولا بُدَّ وأنْ يَنْتَهِيَ إلى داعِيَةٍ مُرَجِّحَةٍ يَخْلُقُها اللَّهُ في العَبْدِ، وإنْ كانَتْ مُتَعَيِّنَةً لِأحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُكَ ما أوْرَدْتَهُ عَلَيْنا. (p-١٩٥)واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ الرَّجُلُ مَن يَرى وجْهَ الِاسْتِدْلالِ فَيَذْكُرُهُ، إنَّما الرَّجُلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِيما قَبْلَ الكَلامِ وفِيما بَعْدَهُ، فَإنْ رَآهُ وارِدًا عَلى مَذْهَبِهِ بِعَيْنِهِ لَمْ يَذْكُرْهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ (يا مالِ) بِحَذْفِ الكافِ لِلتَّرْخِيمِ، فَقِيلَ لِابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأ: (ونادَوْا يا مالِ) فَقالَ: ما أشْغَلَ أهْلَ النّارِ عَنْ هَذا التَّرْخِيمِ ! وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّهُ إنَّما حَسُنَ هَذا التَّرْخِيمُ لِأنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهم بَلَغُوا في الضَّعْفِ والنَّحافَةِ إلى حَيْثُ لا يُمْكِنُهم أنْ يَذْكُرُوا مِنَ الكَلِمَةِ إلّا بَعْضَها. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ قَوْلَهم: ﴿يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ﴾ عَلى أيِّ وجْهٍ طَلَبُوا، فَقالَ بَعْضُهم: عَلى التَّمَنِّي، وقالَ آخَرُونَ: عَلى وجْهِ الِاسْتِغاثَةِ، وإلّا فَهم عالِمُونَ بِأنَّهُ لا خَلاصَ لَهم عَنْ ذَلِكَ العِقابِ، وقِيلَ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهم لِشِدَّةِ ما هم فِيهِ مِنَ العَذابِ نَسُوا تِلْكَ المَسْألَةَ فَذَكَرُوهُ عَلى وجْهِ الطَّلَبِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ مالِكًا يَقُولُ لَهم: ﴿إنَّكم ماكِثُونَ﴾، ولَيْسَ في القُرْآنِ مَتى أجابَهم، هَلْ أجابَهم في الحالِ أوْ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ؟ وإنْ كانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَلْ حَصَلَ ذَلِكَ الجَوابُ بَعْدَ ذَلِكَ السُّؤالِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ أوْ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ؟ فَلا يَمْتَنِعُ أنْ تُؤَخَّرَ الإجابَةُ اسْتِخْفافًا بِهِمْ وزِيادَةً في غَمِّهِمْ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بَعْدَ أرْبَعِينَ سَنَةً، وعَنْ غَيْرِهِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بَعْدَ ألْفِ سَنَةٍ، واللَّهُ أعْلَمُ بِذَلِكَ المِقْدارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ مالِكًا لَمّا أجابَهم بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكم ماكِثُونَ﴾ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما هو كالعِلَّةِ لِذَلِكَ الجَوابِ فَقالَ: ﴿لَقَدْ جِئْناكم بِالحَقِّ ولَكِنَّ أكْثَرَكم لِلْحَقِّ كارِهُونَ﴾، والمُرادُ نَفْرَتُهم عَنْ مُحَمَّدٍ وعَنِ القُرْآنِ، وشَدَّةُ بُغْضِهِمْ لِقَبُولِ الدِّينِ الحَقِّ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قالَ: ﴿ونادَوْا يامالِكُ﴾ بَعْدَ ما وصَفَهم بِالإبْلاسِ ؟ قُلْنا: تِلْكَ أزْمِنَةٌ مُتَطاوِلَةٌ وأحْقابٌ مُمْتَدَّةٌ، فَتَخْتَلِفُ بِهِمُ الأحْوالُ فَيَسْكُتُونَ أوْقاتًا لِغَلَبَةِ اليَأْسِ عَلَيْهِمْ، ويَسْتَغِيثُونَ أوْقاتًا لِشِدَّةِ ما بِهِمْ، رُوِيَ أنَّهُ يُلْقى عَلى أهْلِ النّارِ الجُوعُ حَتّى يَعْدِلَ ما هم فِيهِ مِنَ العَذابِ، فَيَقُولُونَ: ادْعُوا مالِكًا فَيَدْعُونَ: ﴿ونادَوْا يامالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ﴾، ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى كَيْفِيَّةَ عَذابِهِمْ في الآخِرَةِ ذَكَرَ بَعْدَهُ كَيْفِيَّةَ مَكْرِهِمْ وفَسادَ باطِنِهِمْ في الدُّنْيا فَقالَ: ﴿أمْ أبْرَمُوا أمْرًا فَإنّا مُبْرِمُونَ﴾، والمَعْنى: أمْ أبْرَمُوا أيْ مُشْرِكُو مَكَّةَ أمْرًا مِن كَيْدِهِمْ ومَكْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ، فَإنّا مُبْرِمُونَ كَيْدَنا كَما أبْرَمُوا كَيْدَهم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ المَكِيدُونَ﴾ [الطور: ٤٢]، قالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في تَدْبِيرِهِمْ في المَكْرِ بِهِ في دارِ النَّدْوَةِ، وهو ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقَدْ ذَكَرْنا القِصَّةَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿أمْ يَحْسَبُونَ أنّا لا نَسْمَعُ سِرَّهم ونَجْواهُمْ﴾، السِّرُّ ما حَدَّثَ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ أوْ غَيْرَهُ في مَكانٍ خالٍ، والنَّجْوى ما تَكَلَّمُوا بِهِ فِيما بَيْنَهم، ﴿بَلى﴾ نَسْمَعُها ونَطَّلِعُ عَلَيْها، ﴿ورُسُلُنا﴾ يُرِيدُ الحَفَظَةَ، ﴿يَكْتُبُونَ﴾ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الأحْوالَ، وعَنْ يَحْيى بْنِ مُعاذٍ: مَن سَتَرَ مِنَ النّاسِ ذُنُوبَهُ، وأبْداها لِلَّذِي لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ في السَّماواتِ فَقَدْ جَعَلَهُ أهْوَنَ النّاظِرِينَ إلَيْهِ، وهو مِن عَلاماتِ النِّفاقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب