الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إلى فِرْعَوْنَ﴾ ﴿ومَلَئِهِ فَقالَ إنِّي رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿فَلَمّا جاءَهم بِآياتِنا إذا هم مِنها يَضْحَكُونَ﴾ ﴿وما نُرِيهِمْ مِن آيَةٍ إلّا هي أكْبَرُ مِن أُخْتِها وأخَذْناهم بِالعَذابِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ ﴿وقالُوا ياأيُّها السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ ﴿فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العَذابَ إذا هم يَنْكُثُونَ﴾ ﴿ونادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ قالَ ياقَوْمِ ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿أمْ أنا خَيْرٌ مِن هَذا الَّذِي هو مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ﴾ ﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِن ذَهَبٍ أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ ﴿فاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ ﴿فَلَمّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنهم فَأغْرَقْناهم أجْمَعِينَ﴾
وفِي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن إعادَةِ قِصَّةِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وفِرْعَوْنَ في هَذا المَقامِ تَقْرِيرُ الكَلامِ الَّذِي تَقَدَّمَ، وذَلِكَ لِأنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ طَعَنُوا في نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِسَبَبِ كَوْنِهِ فَقِيرًا عَدِيمَ المالِ والجاهِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - بَعْدَ أنْ أوْرَدَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةَ الباهِرَةَ الَّتِي لا يَشُكُّ في صِحَّتِها عاقِلٌ أوْرَدَ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرَها كُفّارُ قُرَيْشٍ، فَقالَ: إنِّي غَنِيٌّ كَثِيرُ المالِ والجاهِ، ألا تَرَوْنَ أنَّهُ حَصَلَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي، وأمّا مُوسى فَإنَّهُ فَقِيرٌ مَهِينٌ ولَيْسَ لَهُ بَيانٌ ولِسانٌ، والرَّجُلُ الفَقِيرُ كَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا مِن عِنْدِ اللَّهِ إلى المَلِكِ الكَبِيرِ الغَنِيِّ، فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ الَّتِي ذَكَرَها كُفّارُ مَكَّةَ، وهي قَوْلُهم ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣١] وقَدْ أوْرَدَها بِعَيْنِها فِرْعَوْنُ عَلى مُوسى، ثُمَّ إنّا انْتَقَمْنا مِنهم فَأغْرَقْناهم، والمَقْصُودُ مِن إيرادِ هَذِهِ القِصَّةِ - تَقْرِيرُ أمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ الكُفّارَ والجُهّالَ أبَدًا يَحْتَجُّونَ عَلى الأنْبِياءِ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ الرَّكِيكَةِ فَلا يُبالى بِها ولا يُلْتَفَتُ إلَيْها.
والثّانِي: أنَّ فِرْعَوْنَ عَلى غايَةِ كَمالِ حالِهِ في الدُّنْيا صارَ مَقْهُورًا باطِلًا، فَيَكُونُ الأمْرُ في حَقِّ أعْدائِكَ هَكَذا، فَثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِن إعادَةِ هَذِهِ القِصَّةِ عَيْنَ هَذِهِ القِصَّةِ، بَلِ المَقْصُودُ تَقْرِيرُ الجَوابِ عَنِ الشُّبْهَةِ المَذْكُورَةِ، وعَلى هَذا (p-١٨٧)فَلا يَكُونُ هَذا تَقْرِيرًا لِلْقِصَّةِ البَتَّةَ، وهَذا مِن نَفائِسِ الأبْحاثِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ في تَفْسِيرِ الألْفاظِ: ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ أرْسَلَ مُوسى بِآياتِهِ، وهي المُعْجِزاتُ الَّتِي كانَتْ مَعَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ، أيْ قَوْمِهِ، فَقالَ مُوسى: إنِّي رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ، فَلَمّا جاءَهم بِتِلْكَ الآياتِ إذا هم مِنها يَضْحَكُونَ، قِيلَ: إنَّهُ لَمّا ألْقى عَصاهُ صارَ ثُعْبانًا ثُمَّ أخَذَهُ فَعادَ عَصًا كَما كانَ - ضَحِكُوا، ولَمّا عَرَضَ عَلَيْهِمُ اليَدَ البَيْضاءَ ثُمَّ عادَتْ كَما كانَتْ - ضَحِكُوا، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ جازَ أنْ يُجابَ عَنْ ”لَمّا“ بِـ ”إذا“ الَّذِي يُفِيدُ المُفاجَأةَ ؟ قُلْنا: لِأنَّ فِعْلَ المُفاجَأةِ مَعَها مُقَدَّرٌ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: فَلَمّا جاءَهم بِآياتِنا فاجَئُوا وقْتَ ضَحِكِهِمْ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وما نُرِيهِمْ مِن آيَةٍ إلّا هي أكْبَرُ مِن أُخْتِها﴾ فَإنْ قِيلَ: ظاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنها أفْضَلَ مِنَ التّالِي، وذَلِكَ مُحالٌ، قُلْنا: إذا أُرِيدَ المُبالَغَةُ في كَوْنِ كُلٍّ مِن تِلْكَ الأشْياءِ بالِغًا إلى أقْصى الدَّرَجاتِ في الفَضِيلَةِ، فَقَدْ يُذْكَرُ هَذا الكَلامُ بِمَعْنى أنَّهُ لا يَبْعُدُ في أُناسٍ يَنْظُرُونَ إلَيْها أنْ يَقُولَ هَذا: إنَّ هَذا أفْضَلُ مِنَ الثّانِي، وأنْ يَقُولَ الثّانِي: لا بَلِ الثّانِي أفْضَلُ، وأنْ يَقُولَ الثّالِثُ: لا بَلِ الثّالِثُ أفْضَلُ، وحِينَئِذٍ يَصِيرُ كُلُّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأشْياءِ مَقُولًا فِيهِ: إنَّهُ أفْضَلُ مِن غَيْرِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأخَذْناهم بِالعَذابِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ أيْ عَنِ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُرِيدُ الإيمانَ مِنَ الكُلِّ وأنَّهُ إنَّما أظْهَرَ تِلْكَ المُعْجِزاتِ القاهِرَةَ لِإرادَةِ أنْ يَرْجِعُوا مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، قالَ المُفَسِّرُونَ: ومَعْنى قَوْلِهِ ﴿وأخَذْناهم بِالعَذابِ﴾ أيْ بِالأشْياءِ الَّتِي سَلَّطَها عَلَيْها كالطُّوفانِ والجَرادِ والقُمَّلِ والضَّفادِعِ والدَّمِ والطَّمْسِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا ياأيُّها السّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ سَمَّوْهُ بِالسّاحِرِ مَعَ قَوْلِهِمْ ﴿إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ ؟ قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ لِلْعالِمِ الماهِرِ ساحِرٌ، لِأنَّهم كانُوا يَسْتَعْظِمُونَ السِّحْرَ، وكَما يُقالُ في زَمانِنا في العامِلِ العَجِيبِ الكامِلِ إنَّهُ أتى بِالسِّحْرِ.
الثّانِي: ﴿ياأيُّها السّاحِرُ﴾ في زَعْمِ النّاسِ ومُتَعارَفِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَقَوْلِهِ ﴿وقالُوا ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحِجْرِ: ٦] أيْ نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ في اعْتِقادِهِ وزَعْمِهِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهم ﴿إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ وقَدْ كانُوا عازِمِينَ عَلى خِلافِهِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ ﴿فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العَذابَ إذا هم يَنْكُثُونَ﴾ فَتَسْمِيَتُهم إيّاهُ بِالسِّحْرِ لا يُنافِي قَوْلَهم ﴿إنَّنا لَمُهْتَدُونَ﴾ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ لَمّا كَشَفَ عَنْهُمُ العَذابَ نَكَثُوا ذَلِكَ العَهْدَ.
ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى مُعامَلَةَ فِرْعَوْنَ مَعَ مُوسى، حَكى أيْضًا مُعامَلَةَ فِرْعَوْنَ مَعَهُ فَقالَ: ﴿ونادى فِرْعَوْنُ في قَوْمِهِ﴾ والمَعْنى أنَّهُ أظْهَرَ هَذا القَوْلَ، فَقالَ: ﴿ياقَوْمِ ألَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهَذِهِ الأنْهارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي﴾ يَعْنِي الأنْهارَ الَّتِي فَصَلُوها مِنَ النِّيلِ، ومُعْظَمُها أرْبَعَةٌ: نَهْرُ المَلِكِ ونَهْرُ طُولُونَ ونَهْرُ دِمْياطَ ونَهْرُ تِنِّيسَ، قِيلَ: كانَتْ تَجْرِي تَحْتَ قَصْرِهِ، وحاصِلُ الأمْرِ أنَّهُ احْتَجَّ بِكَثْرَةِ أمْوالِهِ وقُوَّةِ جاهِهِ عَلى فَضِيلَةِ نَفْسِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿أمْ أنا خَيْرٌ مِن هَذا الَّذِي هو مَهِينٌ ولا يَكادُ يُبِينُ﴾ وعَنى بِكَوْنِهِ مَهِينًا كَوْنَهُ فَقِيرًا ضَعِيفَ الحالِ، وبِقَوْلِهِ ﴿ولا يَكادُ يُبِينُ﴾ حَبْسَةً كانَتْ في لِسانِهِ، واخْتَلَفُوا في مَعْنى ”أمْ“ هَهُنا، فَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَجازُها: بَلْ أنا خَيْرٌ، وعَلى هَذا فَقَدَ تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ثُمَّ ابْتَدَأ فَقالَ: ﴿أمْ أنا خَيْرٌ﴾ بِمَعْنى بَلْ أنا خَيْرٌ، وقالَ الباقُونَ: ”أمْ“ هَذِهِ مُتَّصِلَةٌ؛ لِأنَّ المَعْنى ﴿أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ أمْ تُبْصِرُونَ، إلّا أنَّهُ وضَعَ قَوْلَهُ ﴿أنا خَيْرٌ﴾ مَوْضِعَ ”تُبْصِرُونَ“، لِأنَّهم إذا قالُوا لَهُ: أنْتَ خَيْرٌ، فَهم عِنْدَهُ بُصَراءُ، وقالَ آخَرُونَ: إنَّ تَمامَ الكَلامِ عِنْدَ قَوْلِهِ ”أمْ“، وقَوْلُهُ (p-١٨٨)﴿أنا خَيْرٌ﴾ ابْتِداءُ الكَلامِ، والتَّقْدِيرُ: ﴿أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ أمْ تُبْصِرُونَ، لَكِنَّهُ اكْتَفى فِيهِ بِذِكْرِ ”أمْ“ كَما تَقُولُ لِغَيْرِكَ: أتَأْكُلُ أمْ. أيْ: أتَأْكُلُ أمْ لا تَأْكُلُ، تَقْتَصِرُ عَلى ذِكْرِ كَلِمَةِ ”أمْ“ إيثارًا لِلِاخْتِصارِ، فَكَذا هَهُنا، فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَألَ اللَّهَ تَعالى أنْ يُزِيلَ الرَّتَّةَ عَنْ لِسانِهِ بِقَوْلِهِ ﴿واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي﴾ ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: ٢٧] فَأعْطاهُ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسى﴾ فَكَيْفَ عابَهُ فِرْعَوْنُ بِتِلْكَ الرَّتَّةِ ؟ والجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ فِرْعَوْنَ أرادَ بِقَوْلِهِ ﴿ولا يَكادُ يُبِينُ﴾ حُجَّتَهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلى صِدْقِهِ فِيما يَدَّعِي، ولَمْ يُرِدْ أنَّهُ لا قُدْرَةَ لَهُ عَلى الكَلامِ.
والثّانِي: أنَّهُ عابَهُ بِما كانَ عَلَيْهِ أوَّلًا، وذَلِكَ أنَّ مُوسى كانَ عِنْدَ فِرْعَوْنَ زَمانًا طَوِيلًا وفي لِسانِهِ حَبْسَةٌ، فَنَسَبَهُ فِرْعَوْنُ إلى ما عَهِدَهُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّتَّةِ لِأنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى أزالَ ذَلِكَ العَيْبَ عَنْهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أسْوِرَةٌ مِن ذَهَبٍ﴾ والمُرادُ أنَّ عادَةَ القَوْمِ جَرَتْ بِأنَّهم إذا جَعَلُوا واحِدًا مِنهم رَئِيسًا لَهم سَوَّرُوهُ بِسِوارٍ مَن ذَهَبٍ وطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِن ذَهَبٍ، فَطَلَبَ فِرْعَوْنُ مِن مُوسى مِثْلَ هَذِهِ الحالَةِ، واخْتَلَفَ القُرّاءُ في ”أسْوِرَةٌ“، فَبَعْضُهم قَرَأ: ”أسْوِرَةٌ“، وآخَرُونَ: ”أساوِرَةٌ“، فَأسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوارٍ لِأدْنى العَدَدِ، كَقَوْلِكَ حِمارٌ وأحْمِرَةٌ وغُرابٌ وأغْرِبَةٌ، ومَن قَرَأ ”أساوِرَةٌ“ فَذاكَ لِأنَّ أساوِيرَ جَمْعُ أسْوارٍ، وهو السُّوارُ، فَأساوِرَةٌ تَكُونُ الهاءُ عِوَضًا عَنِ الياءِ، نَحْوَ بِطْرِيقٍ وبَطارِقَةٍ وزِنْدِيقٍ وزَنادِقَةٍ وفِرْزِينٍ وفَرازِنَةٍ، فَتَكُونُ أساوِرَةٌ جَمْعَ أسْوارٍ، وحاصِلُ الكَلامِ يَرْجِعُ إلى حَرْفٍ واحِدٍ، وهو أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ يَقُولُ أنا أكْثَرُ مالًا وجاهًا، فَوَجَبَ أنْ أكُونَ أفْضَلَ مِنهُ، فَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ رَسُولًا مِنَ اللَّهِ، لِأنَّ مَنصِبَ النُّبُوَّةِ يَقْتَضِي المَخْدُومِيَّةَ، والأخَسُّ لا يَكُونُ مَخْدُومًا لِلْأشْرَفِ، ثُمَّ المُقَدِّمَةُ الفاسِدَةُ هي قَوْلُهُ: مَن كانَ أكْثَرَ مالًا وجاهًا فَهو أفْضَلُ، وهي عَيْنُ المُقَدِّمَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِها كُفّارُ قُرَيْشٍ في قَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿أوْ جاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مُقْرِنِينَ بِهِ، مِن قَوْلِكَ: قَرَنْتُهُ بِهِ فاقْتَرَنَ، وأنْ يَكُونَ مِن قَوْلِهِمُ: اقْتَرَنُوا بِمَعْنى تَقارَنُوا، قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ يَمْشُونَ مَعَهُ فَيَدُلُّونَ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأطاعُوهُ﴾ أيْ طَلَبَ مِنهُمُ الخِفَّةَ في الإتْيانِ بِما كانَ يَأْمُرُهم بِهِ فَأطاعُوهُ ﴿إنَّهم كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ﴾ حَيْثُ أطاعُوا ذَلِكَ الجاهِلَ الفاسِقَ ﴿فَلَمّا آسَفُونا﴾ أغْضَبُونا، حُكِيَ أنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ غَضِبَ في شَيْءٍ، فَقِيلَ لَهُ: أتَغْضَبُ يا أبا خالِدٍ ؟ فَقالَ: قَدْ غَضِبَ الَّذِي خَلَقَ الأحْلامَ، إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَلَمّا آسَفُونا﴾ أيْ أغْضَبُونا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿انْتَقَمْنا مِنهُمْ﴾ واعْلَمْ أنَّ ذِكْرَ لَفْظِ الأسَفِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ، وذِكْرُ لَفْظِ الِانْتِقامِ وكُلِّ واحِدٍ مِنهُما مِنَ المُتَشابِهاتِ الَّتِي يَجِبُ أنْ يُصارَ فِيها إلى التَّأْوِيلِ، ومَعْنى الغَضَبِ في حَقِّ اللَّهِ إرادَةُ العِقابِ، ومَعْنى الِانْتِقامِ إرادَةُ العِقابِ لِجُرْمٍ سابِقٍ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَجَعَلْناهم سَلَفًا ومَثَلًا﴾ السَّلَفُ كُلُّ شَيْءٍ قَدَّمْتَهُ مِن عَمَلٍ صالِحٍ أوْ قَرْضٍ فَهو سَلَفٌ، والسَّلَفُ أيْضًا مَن تَقَدَّمَ مِن آبائِكَ وأقارِبِكَ، واحِدُهم سالِفٌ، ومِنهُ قَوْلُ طُفَيْلٍ يَرْثِي قَوْمَهُ:
؎مَضَوْا سَلَفًا قَصْدَ السَّبِيلِ عَلَيْهِمُ وصَرْفُ المَنايا بِالرِّجالِ تُقَلَّبُ
فَعَلى هَذا قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: يَقُولُ: جَعَلْناهم مُتَقَدِّمِينَ لِيَتَّعِظَ بِهِمُ الآخَرُونَ، أيْ: جَعَلْناهم سَلَفًا لِكُفّارِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ. وأكْثَرُ القُرّاءِ قَرَءُوا بِالفَتْحِ، وهو جَمْعُ سالِفٍ كَما ذَكَرْناهُ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ”سُلَفًا“ (p-١٨٩)بِالضَّمِّ، وهو جَمْعُ سَلَفٍ، قالَ اللَّيْثُ: يُقالُ سَلُفَ - بِضَمِّ اللّامِ - يَسْلُفُ سُلُوفًا، فَهو سُلُفٌ، أيْ: مُتَقَدِّمٌ، وقَوْلُهُ ﴿ومَثَلًا لِلْآخِرِينَ﴾ يُرِيدُ عِظَةً لِمَن بَقِيَ بَعْدَهم وآيَةً وعِبْرَةً، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: المَثَلُ واحِدٌ يُرادُ بِهِ الجَمْعَ، ومِن ثَمَّ عُطِفَ عَلى سَلَفٍ، والدَّلِيلُ عَلى وُقُوعِهِ عَلى أكْثَرَ مِن واحِدٍ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ومَن رَزَقْناهُ﴾ [النَّحْلِ: ٧٥] فَأدْخَلَ تَحْتَ المَثَلِ شَيْئَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* *
قَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذا قَوْمُكَ مِنهُ يَصِدُّونَ﴾ ﴿وقالُوا أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هو ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا بَلْ هم قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ ﴿إنْ هو إلّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ وجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿ولَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنكم مَلائِكَةً في الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ ﴿وإنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها واتَّبِعُونِ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ ﴿ولا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ ٥٠ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنْواعًا كَثِيرَةً مَن كُفْرِيّاتِهِمْ في هَذِهِ السُّورَةِ، وأجابَ عَنْها بِالوُجُوهِ الكَثِيرَةِ:
فَأوَّلُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا لَهُ مِن عِبادِهِ جُزْءًا﴾ .
وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ .
وثالِثُها: قَوْلُهُ ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهُمْ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٠] .
ورابِعُها: قَوْلُهُ ﴿وقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٣١] .
وخامِسُها: هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ الآنَ في تَفْسِيرِها، ولَفْظُ الآيَةِ لا يَدُلُّ إلّا عَلى أنَّهُ لَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أخَذَ القَوْمُ يَضِجُّونَ ويَرْفَعُونَ أصْواتَهم، فَأمّا أنَّ ذَلِكَ المَثَلَ كَيْفَ كانَ، وفي أيِّ شَيْءٍ كانَ، فاللَّفْظُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ، والمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا، كُلُّها مُحْتَمَلَةٌ:
فالأوَّلُ: أنَّ الكُفّارَ لَمّا سَمِعُوا أنَّ النَّصارى يَعْبُدُونَ عِيسى، قالُوا: إذا عَبَدُوا عِيسى فَآلِهَتُنا خَيْرٌ مِن عِيسى، وإنَّما قالُوا ذَلِكَ لِأنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ.
الثّانِي: رُوِيَ أنَّهُ «لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩٨] قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرى: هَذا خاصَّةٌ لَنا ولِآلِهَتِنا أمْ لِجَمِيعِ الأُمَمِ ؟ فَقالَ ﷺ: بَلْ لِجَمِيعِ الأُمَمِ فَقالَ: خَصَمْتُكَ ورَبِّ الكَعْبَةِ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ نَبِيٌّ وتُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا وعَلى أُمِّهِ، وقَدْ عَلِمْتُ أنَّ النَّصارى يَعْبُدُونَهُما واليَهُودَ يَعْبُدُونَ عُزَيْرًا، والمَلائِكَةُ يُعْبَدُونَ، فَإذا كانَ هَؤُلاءِ في النّارِ فَقَدْ رَضِينا أنْ نَكُونَ نَحْنُ وآلِهَتُنا مَعَهم، فَسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ وفَرِحَ القَوْمُ وضَحِكُوا وضَجُّوا، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم مِنّا الحُسْنى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ»﴾ [الأنْبِياءِ: ١٠١] ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ أيْضًا، والمَعْنى: ولَمّا ضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرى عِيسى ﴿ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا﴾ وجادَلَ رَسُولَ اللَّهِ بِعِبادَةِ النَّصارى إيّاهُ (p-١٩٠)﴿إذا قَوْمُكَ﴾ قُرَيْشٌ (مِنهَ) أيْ مِن هَذا المَثَلِ ﴿يَصِدُّونَ﴾ أيْ يَرْتَفِعُ لَهم ضَجِيجٌ وجَلَبَةٌ فَرَحًا وجَدَلًا وضَحِكًا بِسَبَبِ ما رَأوْا مِن إسْكاتِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإنَّهُ قَدْ جَرَتِ العادَةُ بِأنَّ أحَدَ الخَصْمَيْنِ إذا انْقَطَعَ أظْهَرَ الخَصْمُ الثّانِي الفَرَحَ والضَّجِيجَ، ﴿وقالُوا أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هُوَ﴾ يَعْنُونَ أنَّ آلِهَتَنا عِنْدَكَ لَيْسَتْ خَيْرًا مِن عِيسى، فَإذا كانَ عِيسى مِن حَصَبِ جَهَنَّمَ كانَ أمْرُ آلِهَتِنا أهْوَنَ.
الوَجْهُ الثّالِثُ في التَّأْوِيلِ: وهو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا حَكى أنَّ النَّصارى عَبَدُوا المَسِيحَ وجَعَلُوهُ إلَهًا لِأنْفُسِهِمْ، قالَ كُفّارُ مَكَّةَ: إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أنْ يَجْعَلَ لَنا إلَهًا كَما جَعَلَ النَّصارى المَسِيحَ إلَهًا لِأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ عِنْدَ هَذا قالُوا ﴿أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ هُوَ﴾ يَعْنِي أآلِهَتُنا خَيْرٌ أمْ مُحَمَّدٌ، وذَكَرُوا ذَلِكَ لِأجْلِ أنَّهم قالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُونا إلى عِبادَةِ نَفْسِهِ، وآباؤُنا زَعَمُوا أنَّهُ يَجِبُ عِبادَةُ هَذِهِ الأصْنامِ، وإذا كانَ لا بُدَّ مِن أحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ فَعِبادَةُ هَذِهِ الأصْنامِ أوْلى، لِأنَّ آباءَنا وأسْلافَنا كانُوا مُتَطابِقِينَ عَلَيْهِ، وأمّا مُحَمَّدٌ فَإنَّهُ مُتَّهَمٌ في أمْرِنا بِعِبادَتِهِ، فَكانَ الِاشْتِغالُ بِعِبادَةِ الأصْنامِ أوْلى، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنّا لَمْ نَقُلْ إنَّ الِاشْتِغالَ بِعِبادَةِ المَسِيحِ طَرِيقٌ حَسَنٌ، بَلْ هو كَلامٌ باطِلٌ، فَإنَّ عِيسى لَيْسَ إلّا عَبْدًا أنْعَمْنا عَلَيْهِ، فَإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَقَدْ زالَتْ شُبْهَتُهم في قَوْلِهِمْ: إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أنْ يَأْمُرَنا بِعِبادَةِ نَفْسِهِ، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الثَّلاثَةُ مِمّا يَحْتَمِلُ كُلُّ واحِدٍ مِنها لَفْظَ الآيَةِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: ”يَصُدُّونَ“ بِضَمِّ الصّادِ، وهو قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والباقُونَ بِكَسْرِ الصّادِ وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، واخْتَلَفُوا فَقالَ الكِسائِيُّ: هُما بِمَعْنًى، نَحْوَ يَعْرِشُونَ ويَعْرُشُونَ، ويَعْكِفُونَ، ويَعْكُفُونَ، ومِنهم مَن فَرَّقَ، أمّا القِراءَةُ بِالضَّمِّ فَمِنَ الصُّدُودِ، أيْ مِن أجْلِ هَذا المَثَلِ يَصُدُّونَ عَنِ الحَقِّ ويُعْرِضُونَ عَنْهُ، وأمّا بِالكَسْرِ فَمَعْناهُ يَضِجُّونَ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ”أآلِهَتُنا“ اسْتِفْهامًا بِهَمْزَتَيْنِ، الثّانِيَةُ مُطَوَّلَةٌ، والباقُونَ اسْتِفْهامًا بِهَمْزَةٍ ومَدَّةٍ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلّا جَدَلًا﴾ أيْ ما ضَرَبُوا لَكَ هَذا المَثَلَ إلّا لِأجْلِ الجَدَلِ والغَلَبَةِ في القَوْلِ، لا لِطَلَبِ الفَرْقِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ ﴿بَلْ هم قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ مُبالِغُونَ في الخُصُومَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩٨] لا يَتَناوَلُ المَلائِكَةَ وعِيسى، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ كَلِمَةَ ”ما“ لا تَتَناوَلُ العُقَلاءَ البَتَّةَ.
والثّانِي: أنَّ كَلِمَةَ ”ما“ لَيْسَتْ صَرِيحَةً في الِاسْتِغْراقِ بِدَلِيلِ أنَّهُ يَصِحُّ إدْخالُ لَفْظَتَيِ الكُلِّ والبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيُقالُ: إنَّكم وكُلَّ ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ، أوْ إنَّكم وبَعْضَ ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: إنَّكم وكُلَّ ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أوْ وبَعْضَ ما تَعْبُدُونَ - خِطابُ مُشافَهَةٍ، فَلَعَلَّهُ ما كانَ فِيهِمْ أحَدٌ يَعْبُدُ المَسِيحَ والمَلائِكَةَ.
الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هَبْ أنَّهُ عامٌّ إلّا أنَّ النُّصُوصَ الدّالَّةَ عَلى تَعْظِيمِ المَلائِكَةِ وعِيسى أخَصُّ مِنهُ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: القائِلُونَ بِذَمِّ الجَدَلِ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ إلّا أنّا قَدْ ذَكَرْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يُجادِلُ في آياتِ اللَّهِ إلّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أنَّ الآياتِ الكَثِيرَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ الجَدَلَ مُوجِبٌ لِلْمَدْحِ والثَّناءِ، وطَرِيقُ التَّوْفِيقِ أنْ تُصْرَفَ تِلْكَ الآياتُ إلى الجَدَلِ الَّذِي يُفِيدُ تَقْرِيرَ الحَقِّ، وأنْ تُصْرَفَ هَذِهِ الآيَةُ إلى الجَدَلِ الَّذِي يُوجِبُ تَقْرِيرَ الباطِلِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ هو إلّا عَبْدٌ أنْعَمْنا عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي: ما عِيسى إلّا عَبْدٌ كَسائِرِ العَبِيدِ، أنْعَمْنا عَلَيْهِ حَيْثُ جَعَلْناهُ آيَةً بِأنْ خَلَقْناهُ مِن غَيْرِ أبٍ كَما خَلَقْنا آدَمَ، وشَرَّفْناهُ بِالنُّبُوَّةِ وصَيَّرْناهُ عِبْرَةً عَجِيبَةً كالمَثَلِ السّائِرِ ﴿ولَوْ نَشاءُ﴾ (p-١٩١)﴿لَجَعَلْنا مِنكُمْ﴾ لَوَلَّدْنا مِنكم يا رِجالُ ﴿مَلائِكَةً في الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ كَما يَخْلُفُكم أوْلادُكم؛ كَما ولَّدْنا عِيسى مِن أُنْثى مِن غَيْرِ فَحْلٍ؛ لِتَعْرِفُوا تَمَيُّزَنا بِالقُدْرَةِ الباهِرَةِ، ولِتَعْرِفُوا أنَّ دُخُولَ التَّوْلِيدِ والتَّوَلُّدِ في المَلائِكَةِ أمْرٌ مُمْكِنٌ، وذاتُ اللَّهِ مُتَعالِيَةٌ عَنْ ذَلِكَ (وأنَّهُ) أيْ عِيسى ﴿لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ﴾ شَرْطٌ مِن أشْراطِها تُعْلَمُ بِهِ، فَسُمِّيَ الشَّرْطُ الدّالُّ عَلى الشَّيْءِ عِلْمًا لِحُصُولِ العِلْمِ بِهِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ: ”لَعَلَمٌ“ وهو العَلامَةُ، وقُرِئَ: ”لَلْعِلْمُ“ وقَرَأ أُبَيٌّ: ”لَذِكْرٌ“، وفي الحَدِيثِ: «أنَّ عِيسى يَنْزِلُ عَلى ثَنِيَّةٍ في الأرْضِ المُقَدَّسَةِ يُقالُ لَها أفِيقُ، وبِيَدِهِ حَرْبَةٌ، وبِها يَقْتُلُ الدَّجّالَ، فَيَأْتِي بِبَيْتِ المَقْدِسِ في صَلاةِ الصُّبْحِ والإمامُ يَؤُمُّ بِهِمْ فَيَتَأخَّرُ الإمامُ فَيُقَدِّمُهُ عِيسى ويُصَلِّي خَلْفَهُ عَلى شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ثُمَّ يَقْتُلُ الخَنازِيرَ ويَكْسِرُ الصَّلِيبَ ويُخَرِّبُ البِيَعَ والكَنائِسَ ويَقْتُلُ النَّصارى إلّا مَن آمَنَ بِهِ» ﴿فَلا تَمْتَرُنَّ بِها﴾ مِنَ المِرْيَةِ وهو الشَّكُّ ﴿واتَّبِعُونِ﴾ واتَّبِعُوا هُدايَ وشَرْعِي ﴿هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أيْ هَذا الَّذِي أدْعُوكم إلَيْهِ صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿ولا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إنَّهُ لَكم عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ قَدْ بانَتْ عَداواتُهُ لَكم لِأجْلِ أنَّهُ هو الَّذِي أخْرَجَ أباكم مِنَ الجَنَّةِ ونَزَعَ عَنْهُ لِباسَ النُّورِ.
{"ayahs_start":48,"ayahs":["وَمَا نُرِیهِم مِّنۡ ءَایَةٍ إِلَّا هِیَ أَكۡبَرُ مِنۡ أُخۡتِهَاۖ وَأَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡعَذَابِ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ","وَقَالُوا۟ یَـٰۤأَیُّهَ ٱلسَّاحِرُ ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهۡتَدُونَ","فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِذَا هُمۡ یَنكُثُونَ","وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِی قَوۡمِهِۦ قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَلَیۡسَ لِی مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَـٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ تَجۡرِی مِن تَحۡتِیۤۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ","أَمۡ أَنَا۠ خَیۡرࣱ مِّنۡ هَـٰذَا ٱلَّذِی هُوَ مَهِینࣱ وَلَا یَكَادُ یُبِینُ","فَلَوۡلَاۤ أُلۡقِیَ عَلَیۡهِ أَسۡوِرَةࣱ مِّن ذَهَبٍ أَوۡ جَاۤءَ مَعَهُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ مُقۡتَرِنِینَ","فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ قَوۡمࣰا فَـٰسِقِینَ","فَلَمَّاۤ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَـٰهُمۡ أَجۡمَعِینَ","فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ سَلَفࣰا وَمَثَلࣰا لِّلۡـَٔاخِرِینَ","۞ وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبۡنُ مَرۡیَمَ مَثَلًا إِذَا قَوۡمُكَ مِنۡهُ یَصِدُّونَ","وَقَالُوۤا۟ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَیۡرٌ أَمۡ هُوَۚ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ","إِنۡ هُوَ إِلَّا عَبۡدٌ أَنۡعَمۡنَا عَلَیۡهِ وَجَعَلۡنَـٰهُ مَثَلࣰا لِّبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ","وَلَوۡ نَشَاۤءُ لَجَعَلۡنَا مِنكُم مَّلَـٰۤىِٕكَةࣰ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَخۡلُفُونَ","وَإِنَّهُۥ لَعِلۡمࣱ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمۡتَرُنَّ بِهَا وَٱتَّبِعُونِۚ هَـٰذَا صِرَ ٰطࣱ مُّسۡتَقِیمࣱ","وَلَا یَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ"],"ayah":"فَلَمَّاۤ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَـٰهُمۡ أَجۡمَعِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق