الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أوْ تَهْدِي العُمْيَ ومَن كانَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾ ﴿أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وعَدْناهم فَإنّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ﴾ ﴿فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ وسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَهم في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِالعَشى وصَفَهم في هَذِهِ الآيَةِ بِالصَّمَمِ والعَمى، وما أحْسَنَ هَذا التَّرْتِيبَ، وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ في أوَّلِ اشْتِغالِهِ بِطَلَبِ الدُّنْيا يَكُونُ كَمَن حَصَلَ بِعَيْنِهِ رَمَدٌ ضَعِيفٌ، ثُمَّ كُلَّما كانَ اشْتِغالُهُ بِتِلْكَ الأعْمالِ أكْثَرَ كانَ مَيْلُهُ إلى الجُسْمانِيّاتِ أشَدَّ، وإعْراضُهُ عَنِ الرُّوحانِيّاتِ أكْمَلَ، لِما ثَبَتَ في عُلُومِ العَقْلِ أنَّ كَثْرَةَ الأفْعالِ تُوجِبُ حُصُولَ المَلَكاتِ الرّاسِخَةِ، فَيَنْتَقِلُ الإنْسانُ مِنَ الرَّمَدِ إلى أنْ يَصِيرَ أعْشى، فَإذا واظَبَ عَلى تِلْكَ الحالَةِ أيّامًا أُخْرى انْتَقَلَ مِن كَوْنِهِ أعْشى إلى كَوْنِهِ أعْمى، فَهَذا تَرْتِيبٌ حَسَنٌ مُوافِقٌ لِما ثَبَتَ بِالبَراهِينِ اليَقِينِيَّةِ، رُوِيَ أنَّهُ ﷺ كانَ يَجْتَهِدُ في دُعاءِ قَوْمِهِ وهم لا يَزِيدُونَ إلّا تَصْمِيمًا عَلى الكُفْرِ وتَمادِيًا في الغَيِّ، فَقالَ تَعالى: ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أوْ تَهْدِي العُمْيَ﴾ يَعْنِي أنَّهم بَلَغُوا في النَّفْرَةِ عَنْكَ وعَنْ دِينِكَ إلى حَيْثُ إذا أسْمَعْتَهُمُ القُرْآنَ كانُوا كالأصَمِّ، وإذا أرَيْتَهُمُ المُعْجِزاتِ كانُوا كالأعْمى، ثُمَّ بَيَّنَ (p-١٨٥)تَعالى أنَّ صَمَمَهم وعَماهم إنَّما كانَ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ في ضَلالٍ مُبِينٍ.
ولَمّا بَيَّنَ تَعالى أنَّ دَعْوَتَهُ لا تُؤَثِّرُ في قُلُوبِهِمْ قالَ: ﴿فَإمّا نَذْهَبَنَّ بِكَ﴾ يُرِيدُ حُصُولَ المَوْتِ قَبْلَ نُزُولِ النِّقْمَةِ بِهِمْ ﴿فَإنّا مِنهم مُنْتَقِمُونَ﴾ بَعْدَكَ، أوْ نُرِيَنَّكَ في حَياتِكَ ما وعَدْناهم مِنَ الذُّلِّ والقَتْلِ، فَإنّا مُقْتَدِرُونَ عَلى ذَلِكَ، واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يُفِيدُ كَمالَ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهم لا تُؤَثِّرُ فِيهِمْ دَعْوَتُهُ، واليَأْسُ إحْدى الرّاحَتَيْنِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَنْتَقِمَ لِأجْلِهِ مِنهم إمّا حالَ حَياتِهِ أوْ بَعْدَ وفاتِهِ، وذَلِكَ أيْضًا يُوجِبُ التَّسْلِيَةَ، فَبَعْدَ هَذا أمَرَهُ أنْ يَسْتَمْسِكَ بِما أمَرَهُ تَعالى، فَقالَ: ﴿فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ﴾ بِأنْ تَعْتَقِدَ أنَّهُ حَقٌّ، وبِأنْ تَعْمَلَ بِمُوجِبِهِ فَإنَّهُ الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي لا يَمِيلُ عَنْهُ إلّا ضالٌّ في الدِّينِ.
ولَمّا بَيَّنَ تَأْثِيرَ التَّمَسُّكِ بِهَذا الدِّينِ في مَنافِعِ الدِّينِ بَيَّنَ أيْضًا تَأْثِيرَهُ في مَنافِعِ الدُّنْيا، فَقالَ: ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ أيْ: إنَّهُ يُوجِبُ الشَّرَفَ العَظِيمَ لَكَ ولِقَوْمِكَ حَيْثُ يُقالُ: إنَّ هَذا الكِتابَ العَظِيمَ أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى رَجُلٍ مِن قَوْمِ هَؤُلاءِ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ الإنْسانَ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ في الثَّناءِ الحَسَنِ والذِّكْرِ الجَمِيلِ، ولَوْ لَمْ يَكُنِ الذِّكْرُ الجَمِيلُ أمْرًا مَرْغُوبًا فِيهِ لَما مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلى مُحَمَّدٍ ﷺ حَيْثُ قالَ: ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ ولَما طَلَبَهُ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - حَيْثُ قالَ: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٨٤] ولِأنَّ الذِّكْرَ الجَمِيلَ قائِمٌ مَقامَ الحَياةِ الشَّرِيفَةِ، بَلِ الذِّكْرُ أفْضَلُ مِنَ الحَياةِ؛ لِأنَّ أثَرَ الحَياةِ لا يَحْصُلُ إلّا في مَسْكَنِ ذَلِكَ الحَيِّ، أمّا أثَرُ الذِّكْرِ الجَمِيلِ فَإنَّهُ يَحْصُلُ في كُلِّ مَكانٍ وفي كُلِّ زَمانٍ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وسَوْفَ تُسْألُونَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قالَ الكَلْبِيُّ: تُسْألُونَ هَلْ أدَّيْتُمْ شُكْرَ إنْعامِنا عَلَيْكم بِهَذا الذِّكْرِ الجَمِيلِ.
الثّانِي: قالَ مُقاتِلٌ: المُرادُ أنَّ مَن كَذَّبَ بِهِ يُسْألُ لِمَ كَذَّبَهُ، فَيُسْألُ سُؤالَ تَوْبِيخٍ.
الثّالِثُ: تُسْألُونَ هَلْ عَمِلْتُمْ بِما دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ التَّكالِيفِ.
واعْلَمْ أنَّ السَّبَبَ الأقْوى في إنْكارِ الكُفّارِ لِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ولِبُغْضِهِمْ لَهُ أنَّهُ كانَ يُنْكِرُ عِبادَةَ الأصْنامِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ إنْكارَ عِبادَةِ الأصْنامِ لَيْسَ مِن خَواصِّ دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، بَلْ كُلُّ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ كانُوا مُطْبِقِينَ عَلى إنْكارِهِ فَقالَ: ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا أجَعَلْنا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ وفِيهِ أقْوالٌ:
الأوَّلُ: مَعْناهُ واسْألْ مُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابِ، أيْ: أهْلِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، فَإنَّهم سَيُخْبِرُونَكَ أنَّهُ لَمْ يَرِدْ في دِينِ أحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ عِبادَةُ الأصْنامِ، وإذا كانَ هَذا الأمْرُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ كُلِّ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ وجَبَ أنْ لا يَجْعَلُوهُ سَبَبًا لِبُغْضِ مُحَمَّدٍ ﷺ .
والقَوْلُ الثّانِي: قالَ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ”«لَمّا أُسْرِيَ بِهِ ﷺ إلى المَسْجِدِ الأقْصى بَعَثَ اللَّهُ لَهُ آدَمَ وجَمِيعَ المُرْسَلِينَ مِن ولَدِهِ، فَأذَّنَ جِبْرِيلُ ثُمَّ أقامَ، فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الصَّلاةِ، قالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ:“ واسْألْ يا مُحَمَّدُ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا ... ”الآيَةَ، فَقالَ ﷺ: لا أسْألُ لِأنِّي لَسْتُ شاكًّا فِيهِ» “ .
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ ذِكْرَ السُّؤالِ في مَوْضِعٍ لا يُمْكِنُ السُّؤالُ فِيهِ يَكُونُ المُرادُ مِنهُ النَّظَرَ والِاسْتِدْلالَ، كَقَوْلِ مَن قالَ: سَلِ الأرْضَ مَن شَقَّ أنْهارَكِ، وغَرَسَ أشْجارَكِ، وجَنى ثِمارَكِ، فَإنَّها إنْ لَمْ تُجِبْكَ جَوابًا أجابَتْكَ اعْتِبارًا، فَهَهُنا سُؤالُ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ الأنْبِياءِ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهُ - مُمْتَنِعٌ، فَكانَ المُرادُ مِنهُ: انْظُرْ في هَذِهِ المَسْألَةِ بِعَقْلِكَ وتَدَبَّرْ فِيها بِفَهْمِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayahs_start":40,"ayahs":["أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ أَوۡ تَهۡدِی ٱلۡعُمۡیَ وَمَن كَانَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ","فَإِمَّا نَذۡهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنۡهُم مُّنتَقِمُونَ","أَوۡ نُرِیَنَّكَ ٱلَّذِی وَعَدۡنَـٰهُمۡ فَإِنَّا عَلَیۡهِم مُّقۡتَدِرُونَ","فَٱسۡتَمۡسِكۡ بِٱلَّذِیۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ","وَإِنَّهُۥ لَذِكۡرࣱ لَّكَ وَلِقَوۡمِكَۖ وَسَوۡفَ تُسۡـَٔلُونَ","وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَاۤ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ءَالِهَةࣰ یُعۡبَدُونَ","وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِی۟هِۦ فَقَالَ إِنِّی رَسُولُ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِـَٔایَـٰتِنَاۤ إِذَا هُم مِّنۡهَا یَضۡحَكُونَ"],"ayah":"وَسۡـَٔلۡ مَنۡ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رُّسُلِنَاۤ أَجَعَلۡنَا مِن دُونِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ءَالِهَةࣰ یُعۡبَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق