الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ إشارَةٌ إلى الوَجْهِ الَّذِي لَهم إلى عالَمِ الجَلالِ والكِبْرِياءِ، وقَوْلُهُ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى الوَجْهِ الَّذِي لَهم إلى عالَمِ الأجْسامِ، فَما أحْسَنَ هَذِهِ اللَّطائِفَ، وما أشْرَفَها وما أشَدَّ تَأْثِيرَها في جَذْبِ الأرْواحِ مِن حَضِيضِ الخَلْقِ إلى أوْجِ مَعْرِفَةِ الحَقِّ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: أمّا الجِهَةُ الأُولى وهي الجِهَةُ العُلْوِيَّةُ المُقَدَّسَةُ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلى أمْرَيْنِ: أحَدُهُما: التَّسْبِيحُ، وثانِيهِما: التَّحْمِيدُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ يُفِيدُ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، والتَّسْبِيحُ مُقَدَّمٌ عَلى التَّحْمِيدِ؛ لِأنَّ التَّسْبِيحَ عِبارَةٌ عَنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعالى عَمّا لا يَنْبَغِي، والتَّحْمِيدَ عِبارَةٌ عَنْ وصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُفِيضًا لِكُلِّ الخَيْراتِ، وكَوْنُهُ مُنَزَّهًا في ذاتِهِ عَمّا لا يَنْبَغِي، مُقَدَّمٌ بِالرُّتْبَةِ عَلى كَوْنِهِ فَيّاضًا لِلْخَيْراتِ والسَّعاداتِ؛ لِأنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ مُقَدَّمٌ عَلى إيجادِ (p-١٢٦)غَيْرِهِ، وحُصُولُهُ في نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلى تَأْثِيرِهِ في حُصُولِ غَيْرِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ كانَ التَّسْبِيحُ مُقَدَّمًا عَلى التَّحْمِيدِ، ولِهَذا قالَ: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ .
وأمّا الجِهَةُ الثّانِيَةُ: وهي الجِهَةُ الَّتِي لِتِلْكَ الأرْواحِ إلى عالَمِ الجُسْمانِيّاتِ، فالإشارَةُ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ والمُرادُ مِنهُ تَأْثِيراتُها في نَظْمِ أحْوالِ هَذا العالَمِ وحُصُولِ الطَّرِيقِ الأصْوَبِ الأصْلَحِ فِيها، فَهَذِهِ مَلامِحُ مِنَ المَباحِثِ العالِيَةِ الإلَهِيَّةِ مُدْرَجَةٌ في هَذِهِ الآياتِ المُقَدَّسَةِ، ولْنَرْجِعْ إلى ما يَلِيقُ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ، فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِمَن في الأرْضِ وفِيهِمُ الكُفّارُ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلائِكَةِ﴾ فَكَيْفَ يَكُونُونَ لاعِنِينَ ومُسْتَغْفِرِينَ لَهم ؟ قُلْنا الجَوابُ: عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِمَن في الأرْضِ﴾ لا يُفِيدُ العُمُومَ؛ لِأنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا لِكُلِّ مَن في الأرْضِ، وأنْ يُقالَ إنَّهُمُ اسْتَغْفَرُوا لِبَعْضِ مَن في الأرْضِ دُونَ البَعْضِ، ولَوْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿لِمَن في الأرْضِ﴾ صَرِيحًا في العُمُومِ لَما صَحَّ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ
الثّانِي: هَبْ أنَّ هَذا النَّصَّ يُفِيدُ العُمُومَ إلّا أنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ المَلائِكَةِ في سُورَةِ ”حم المُؤْمِنِ“ فَقالَ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا فاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا واتَّبَعُوا سَبِيلَكَ﴾ [غافر: ٧]
الثّالِثُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الِاسْتِغْفارِ أنْ لا يُعاجِلَهم بِالعِقابِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ والأرْضَ أنْ تَزُولا﴾ إلى أنْ قالَ: ﴿إنَّهُ كانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [فاطر: ٤١] .
الرّابِعُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّهم يَسْتَغْفِرُونَ لِكُلِّ مَن في الأرْضِ، أمّا في حَقِّ الكُفّارِ فَبِواسِطَةِ طَلَبِ الإيمانِ لَهم، وأمّا في حَقِّ المُؤْمِنِينَ فَبِالتَّجاوُزِ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ، فَإنّا نَقُولُ: اللَّهُمَّ اهْدِ الكافِرِينَ وزَيِّنْ قُلُوبَهم بِنُورِ الإيمانِ وأزِلْ عَنْ خَواطِرِهِمْ وحْشَةَ الكُفْرِ، وهَذا في الحَقِيقَةِ اسْتِغْفارٌ.
واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم لا يَسْتَغْفِرُونَ لِأنْفُسِهِمْ، ولَوْ كانُوا مُصِرِّينَ عَلى المَعْصِيَةِ لَكانَ اسْتِغْفارُهم لِأنْفُسِهِمْ قَبْلَ اسْتِغْفارِهِمْ لِمَن في الأرْضِ، وحَيْثُ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَنْهُمُ اسْتِغْفارَهم لِأنْفُسِهِمْ عَلِمْنا أنَّهم مُبَرَّءُونَ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ، والأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَهم ذُنُوبٌ والَّذِي لا ذَنْبَ لَهُ البَتَّةَ أفْضَلُ مِمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهم يَسْتَغْفِرُونَ لِلْأنْبِياءِ لِأنَّ الأنْبِياءَ في جُمْلَةِ مَن في الأرْضِ، وإذا كانُوا مُسْتَغْفِرِينَ لِلْأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كانَ الظّاهِرُ أنَّهم أفْضَلُ مِنهم.
ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنِ المَلائِكَةِ التَّسْبِيحَ والتَّحْمِيدَ والِاسْتِغْفارَ قالَ: ﴿ألا إنَّ اللَّهَ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ وإنْ كانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِلْبَشَرِ إلّا أنَّ المَغْفِرَةَ المُطْلَقَةَ، والرَّحْمَةَ المُطْلَقَةَ لِلْحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ إقْدامَ المَلائِكَةِ عَلى طَلَبِ المَغْفِرَةِ لِلْبَشَرِ مِنَ اللَّهِ تَعالى إنَّما كانَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ في قُلُوبِهِمْ داعِيَةً لِطَلَبِ تِلْكَ المَغْفِرَةِ، ولَوْلا أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ في قُلُوبِهِمْ تِلْكَ الدَّواعِيَ وإلّا لَما أقْدَمُوا عَلى ذَلِكَ الطَّلَبِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ الغَفُورُ المُطْلَقُ والرَّحِيمُ المُطْلَقُ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى.
الثّانِي: أنَّ المَلائِكَةَ قالُوا في أوَّلِ الأمْرِ ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] ثُمَّ في آخِرِ الأمْرِ صارُوا يَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ، وأمّا رَحْمَةُ الحَقِّ وإحْسانُهُ فَقَدْ كانَ مَوْجُودًا في الأُولى والآخِرَةِ، فَثَبَتَ أنَّ الغَفُورَ المُطْلَقَ والرَّحِيمَ المُطْلَقَ هو اللَّهُ تَعالى.
الثّالِثُ: (p-١٢٧)أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم يَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ ولَمْ يَحْكِ عَنْهم أنَّهم يَطْلُبُونَ الرَّحْمَةَ لِمَن في الأرْضِ فَقالَ: ﴿ألا إنَّ اللَّهَ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ يَعْنِي أنَّهُ يُعْطِي المَغْفِرَةَ الَّتِي طَلَبُوها ويَضُمُّ إلَيْها الرَّحْمَةَ الكامِلَةَ التّامَّةَ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ﴾ أيْ جَعَلُوا لَهُ شُرَكاءَ وأنْدادًا ﴿اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ رَقِيبٌ عَلى أحْوالِهِمْ وأعْمالِهِمْ، لا يَفُوتُهُ مِنها شَيْءٌ وهو مُحاسِبُهم عَلَيْها لا رَقِيبَ عَلَيْهِمْ إلّا هو وحْدَهُ، وما أنْتَ يا مُحَمَّدُ بِمُفَوَّضٍ إلَيْكَ أمْرُهم ولا قَسْرُهم عَلى الإيمانِ، إنَّما أنْتَ مُنْذِرٌ فَحَسْبُ.
{"ayahs_start":5,"ayahs":["تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتُ یَتَفَطَّرۡنَ مِن فَوۡقِهِنَّۚ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡ وَیَسۡتَغۡفِرُونَ لِمَن فِی ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَاۤ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ","وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ ٱللَّهُ حَفِیظٌ عَلَیۡهِمۡ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِوَكِیلࣲ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَ ٱللَّهُ حَفِیظٌ عَلَیۡهِمۡ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِوَكِیلࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











