الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلّا وحْيًا أوْ مِن وراءِ حِجابٍ أوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ﴿صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ألا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَمالَ قُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ أتْبَعَهُ بِبَيانِ أنَّهُ كَيْفَ يَخُصُّ أنْبِياءَهُ بِوَحْيِهِ وكَلامِهِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ﴾ وما صَحَّ لِأحَدٍ مِنَ البَشَرِ ﴿أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾ إلّا عَلى أحَدِ ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: إمّا عَلى الوَحْيِ وهو الإلْهامُ والقَذْفُ في القَلْبِ، أوِ المَنامُ كَما أوْحى اللَّهُ إلى أُمِّمُوسى وإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في ذَبْحِ ولَدِهِ، وعَنْ مُجاهِدٍ: أوْحى اللَّهُ تَعالى الزَّبُورَ إلى داوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في صَدْرِهِ، وإمّا عَلى أنْ يُسْمِعَهُ كَلامَهُ مِن غَيْرِ واسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وهَذا أيْضًا وحْيٌ بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى أسْمَعَ مُوسى كَلامَهُ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ مَعَ أنَّهُ سَمّاهُ وحْيًا، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَمِعْ لِما يُوحى﴾ وإمّا عَلى أنْ يُرْسِلَ إلَيْهِ رَسُولًا مِنَ المَلائِكَةِ فَيُبَلِّغَ ذَلِكَ المَلَكُ ذَلِكَ الوَحْيَ إلى الرَّسُولِ البَشَرِيِّ. فَطَرِيقُ الحَصْرِ أنْ يُقالَ: وُصُولُ الوَحْيِ مِنَ اللَّهِ إلى البَشَرِ إمّا أنْ يَكُونَ مِن غَيْرِ واسِطَةِ مُبَلِّغٍ أوْ يَكُونَ بِواسِطَةِ مُبَلِّغٍ، وإذا كانَ الأوَّلُ وهو أنْ يَصِلَ إلَيْهِ وحْيُ اللَّهِ لا بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ فَهَهُنا إمّا أنْ يُقالَ إنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ، أوْ يَسْمَعُهُ، أمّا الأوَّلُ وهو أنَّهُ وصَلَ إلَيْهِ الوَحْيُ لا بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ وما سَمِعَ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿إلّا وحْيًا﴾ .
وأمّا الثّانِي: وهو أنَّهُ وصَلَ إلَيْهِ الوَحْيُ لا بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ ولَكِنَّهُ سَمِعَ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ فَهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿أوْ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ .
وأمّا الثّالِثُ: وهو أنَّهُ وصَلَ إلَيْهِ الوَحْيُ بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ، فَهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿أوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ﴾
واعْلَمْ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ وحْيٌ، إلّا أنَّهُ تَعالى خَصَّصَ القِسْمَ الأوَّلَ بِاسْمِ الوَحْيِ، لِأنَّ ما يَقَعُ في القَلْبِ عَلى سَبِيلِ الإلْهامِ فَهو يَقَعُ دُفْعَةً، فَكانَ تَخْصِيصُ لَفْظِ الوَحْيِ بِهِ أوْلى، فَهَذا هو الكَلامُ في تَمْيِيزِ هَذِهِ الأقْسامِ بَعْضِها عَنْ بَعْضٍ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: القائِلُونَ بِأنَّ اللَّهَ في مَكانٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ ﴿أوْ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلّا عَلى أحَدِ ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
أحَدُها: أنْ يَكُونَ اللَّهُ مِن وراءِ حِجابٍ، وإنَّما يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ كانَ مُخْتَصًّا بِمَكانٍ مُعَيَّنٍ وجِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ. والجَوابُ: أنَّ ظاهِرَ اللَّفْظِ وإنْ أوْهَمَ ما ذَكَرْتُمْ إلّا أنَّهُ دَلَّتِ الدَّلائِلُ العَقْلِيَّةُ والنَّقْلِيَّةُ عَلى أنَّهُ تَعالى يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ في المَكانِ والجِهَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذا اللَّفْظِ عَلى التَّأْوِيلِ، والمَعْنى أنَّ الرَّجُلَ إذا سَمِعَ كَلامًا مَعَ أنَّهُ لا يَرى ذَلِكَ المُتَكَلِّمَ كانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِما إذا تَكَلَّمَ مِن وراءِ حِجابٍ، والمُشابَهَةُ سَبَبٌ لِجَوازِ المَجازِ. (p-١٦١)
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُرى، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى حَصَرَ أقْسامَ وحْيِهِ في هَذِهِ الثَّلاثَةِ، ولَوْ صَحَّتْ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعالى لَصَحَّ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ العَبْدِ حالَ ما يَراهُ العَبْدُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ذَلِكَ قِسْمًا رابِعًا زائِدًا عَلى هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ، واللَّهُ تَعالى نَفى القِسْمَ الرّابِعَ بِقَوْلِهِ ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾ إلّا عَلى هَذِهِ الأوْجُهِ الثَّلاثَةِ. والجَوابُ: نَزِيدُ في اللَّفْظِ قَيْدًا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا إلّا عَلى أحَدِ هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ، وحِينَئِذٍ لا يَلْزَمُ ما ذَكَرْتُمُوهُ، وزِيادَةُ هَذا القَيْدِ وإنْ كانَتْ عَلى خِلافِ الظّاهِرِ لَكِنَّهُ يَجِبُ المَصِيرُ إلَيْها لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ وبَيْنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ في يَوْمِ القِيامَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى مُتَكَلِّمٌ، ومَن سِوى الأشْعَرِيِّ وأتْباعِهِ أطْبَقُوا عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ هو هَذِهِ الحُرُوفُ المَسْمُوعَةُ والأصْواتُ المُؤَلَّفَةُ، وأمّا الأشْعَرِيُّ وأتْباعُهُ فَإنَّهم زَعَمُوا أنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعالى صِفَةٌ قَدِيمَةٌ يُعَبَّرُ عَنْها بِهَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ.
أمّا الفَرِيقُ الأوَّلُ: وهُمُ الَّذِينَ قالُوا: كَلامُ اللَّهِ تَعالى هو هَذِهِ الحُرُوفُ والكَلِماتُ، فَهم فَرِيقانِ: أحَدُهُما: الحَنابِلَةُ الَّذِينَ قالُوا بِقِدَمِ هَذِهِ الحُرُوفِ، وهَؤُلاءِ أخَسُّ مِن أنْ يُذْكَرُوا في زُمْرَةِ العُقَلاءِ، واتَّفَقَ أنِّي قُلْتُ يَوْمًا لِبَعْضِهِمْ: لَوْ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الحُرُوفِ إمّا أنْ يَتَكَلَّمَ بِها دُفْعَةً واحِدَةً أوْ عَلى التَّعاقُبِ والتَّوالِي، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ التَّكَلُّمَ بِجُمْلَةِ هَذِهِ الحُرُوفِ دُفْعَةً واحِدَةً لا يُفِيدُ هَذا النَّظْمَ المُرَكَّبَ عَلى هَذا التَّعاقُبِ والتَّوالِي، فَوَجَبَ أنْ لا يَكُونَ هَذا النَّظْمُ المُرَكَّبُ مِن هَذِهِ الحُرُوفِ المُتَوالِيَةِ كَلامَ اللَّهِ تَعالى، والثّانِي باطِلٌ، لِأنَّهُ تَعالى لَوْ تَكَلَّمَ بِها عَلى التَّوالِي والتَّعاقُبِ كانَتْ مُحْدَثَةً، ولَمّا سَمِعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هَذا الكَلامَ قالَ: الواجِبُ عَلَيْنا أنْ نُقِرَّ ونَمُرَّ، يَعْنِي نُقِرُّ بِأنَّ القُرْآنَ قَدِيمٌ، ونَمُرُّ عَلى هَذا الكَلامِ عَلى وفْقِ ما سَمِعْناهُ، فَتَعَجَّبْتُ مِن سَلامَةِ قَلْبِ ذَلِكَ القائِلِ، وأمّا العُقَلاءُ مِنَ النّاسِ فَقَدْ أطْبَقُوا عَلى أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتَ كائِنَةٌ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، حاصِلَةٌ بَعْدَ أنْ كانَتْ مَعْدُومَةً، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ عِباراتُهم في أنَّها هَلْ هي مَخْلُوقَةٌ، أوْ لا يُقالُ ذَلِكَ، بَلْ يُقالُ إنَّها حادِثَةٌ أوْ يُعَبَّرُ عَنْها بِعِبارَةٍ أُخْرى ؟ واخْتَلَفُوا أيْضًا في أنَّ هَذِهِ الحُرُوفَ هَلْ هي قائِمَةٌ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى أوْ يَخْلُقُها في جِسْمٍ آخَرَ، فالأوَّلُ: هو قَوْلُ الكَرّامِيَّةِ، والثّانِي: قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، وأمّا الأشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ كَلامَ اللَّهِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَيْها هَذِهِ الألْفاظُ والعِباراتُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قَوْلَهُ ﴿أوْ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ هو أنَّ المَلَكَ والرَّسُولَ يَسْمَعُ ذَلِكَ الكَلامَ المُنَزَّهَ عَنِ الحَرْفِ والصَّوْتِ مِن وراءِ حِجابٍ، قالُوا: وكَما لا يَبْعُدُ أنْ تَرى ذاتَ اللَّهِ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا في حَيِّزٍ، فَأيُّ بُعْدٍ في أنْ يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ مَعَ أنَّهُ لا يَكُونُ حَرْفًا ولا صَوْتًا ؟ وزَعَمَ أبُو مَنصُورٍ الماتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ أنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ القائِمَةَ يَمْتَنِعُ كَوْنُها مَسْمُوعَةً، وإنَّما المَسْمُوعُ حُرُوفٌ وأصْواتٌ يَخْلُقُها اللَّهُ تَعالى في الشَّجَرَةِ، وهَذا القَوْلُ قَرِيبٌ مِن قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ القاضِي: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى حُدُوثِ كَلامِ اللَّهِ تَعالى مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ﴾ يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ ”أنْ“ مَعَ المُضارِعِ تُفِيدُ الِاسْتِقْبالَ.
الثّانِي: أنَّهُ وصَفَ الكَلامَ بِأنَّهُ وحْيٌ؛ لِأنَّ لَفْظَ الوَحْيِ يُفِيدُ أنَّهُ وقَعَ عَلى أسْرَعِ الوُجُوهِ.
الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ ﴿أوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ﴾ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الكَلامُ الَّذِي يُبَلِّغُهُ المَلَكُ إلى الرَّسُولِ البَشَرِ مِثْلَ الكَلامِ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، والَّذِي يُبَلِّغُهُ إلى الرَّسُولِ البَشَرِيِّ حادِثٌ، فَلَمّا كانَ الكَلامُ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ مُماثِلًا لِهَذا الَّذِي بَلَّغَهُ إلى الرَّسُولِ (p-١٦٢)البَشَرِيِّ، وهَذا الَّذِي بَلَّغَهُ إلى الرَّسُولِ البَشَرِيِّ حادِثٌ، ومِثْلُ الحادِثِ حادِثٌ - وجَبَ أنْ يُقالَ: إنَّ الكَلامَ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ حادِثٌ.
الرّابِعُ: أنَّ قَوْلَهُ ﴿أوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ﴾ يَقْتَضِي كَوْنَ الوَحْيِ حاصِلًا بَعْدَ الإرْسالِ، وما كانَ حُصُولُهُ مُتَأخِّرًا عَنْ حُصُولِ غَيْرِهِ كانَ حادِثًا.
والجَوابُ: أنّا نَصْرِفُ جُمْلَةَ هَذِهِ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوها إلى الحُرُوفِ والأصْواتِ ونَعْتَرِفُ بِأنَّها حادِثَةٌ كائِنَةٌ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، وبَدِيهَةُ العَقْلِ شاهِدَةٌ بِأنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، فَأيُّ حاجَةٍ إلى إثْباتِ هَذا المَطْلُوبِ الَّذِي عَلِمْتَ صِحَّتَهُ بِبَدِيهَةِ العَقْلِ وبِظَواهِرِ القُرْآنِ ؟ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ثَبَتَ أنَّ الوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، إمّا أنْ لا يَكُونَ بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ، ويَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ كُلُّ وحْيٍ حاصِلًا بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ، وإلّا لَزِمَ إمّا التَّسَلْسُلُ وإمّا الدَّوْرُ، وهُما مُحالانِ، فَلا بُدَّ مِنَ الِاعْتِرافِ بِحُصُولِ وحْيٍ يَحْصُلُ لا بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ، ثُمَّ هَهُنا أبْحاثٌ:
البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ الشَّخْصَ الأوَّلَ الَّذِي سَمِعَ وحْيَ اللَّهِ لا بِواسِطَةِ شَخْصٍ آخَرَ كَيْفَ يَعْرِفُ أنَّ الكَلامَ الَّذِي سَمِعَهُ - كَلامُ اللَّهِ، فَإنْ قُلْنا إنَّهُ سَمِعَ تِلْكَ الصِّفَةَ القَدِيمَةَ المُنَزَّهَةَ عَنْ كَوْنِها حَرْفًا وصَوْتًا، لَمْ يَبْعُدْ أنَّهُ إذا سَمِعَها عَلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَها كَلامَ اللَّهِ تَعالى، ولَمْ يَبْعُدْ أنْ يُقالَ إنَّهُ يَحْتاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلى دَلِيلٍ زائِدٍ، أمّا إنْ قُلْنا إنَّ المَسْمُوعَ هو الحَرْفُ والصَّوْتُ امْتَنَعَ أنْ يُقْطَعَ بِكَوْنِهِ كَلامًا لِلَّهِ تَعالى، إلّا إذا ظَهَرَتْ دَلالَةٌ عَلى أنَّ ذَلِكَ المَسْمُوعَ هو كَلامُ اللَّهِ تَعالى.
البَحْثُ الثّانِي: أنَّ الرَّسُولَ إذا سَمِعَهُ مِنَ المَلَكِ كَيْفَ يَعْرِفُ أنَّ ذَلِكَ المُبَلِّغَ مَلَكٌ مَعْصُومٌ لا شَيْطانٌ مُضِلٌّ ؟ والحَقُّ أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ القَطْعُ بِذَلِكَ إلّا بِناءً عَلى مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ المُبَلِّغَ مَلَكٌ مَعْصُومٌ، لا شَيْطانٌ خَبِيثٌ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالوَحْيُ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا يَتِمُّ إلّا بِثَلاثِ مَراتِبَ في ظُهُورِ المُعْجِزاتِ:
المَرْتَبَةُ الأُولى: أنَّ المَلَكَ إذا سَمِعَ ذَلِكَ الكَلامَ مِنَ اللَّهِ تَعالى فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُعْجِزَةٍ تَدُلُّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الكَلامَ كَلامُ اللَّهِ تَعالى.
المَرْتَبَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ ذَلِكَ المَلَكَ إذا وصَلَ إلى الرَّسُولِ لا بُدَّ لَهُ أيْضًا مِن مُعْجِزَةٍ.
المَرْتَبَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ ذَلِكَ الرَّسُولَ إذا أوْصَلَهُ إلى الأُمَّةِ، فَلا بُدَّ لَهُ أيْضًا مِن مُعْجِزَةٍ، فَثَبَتَ أنَّ التَّكْلِيفَ لا يَتَوَجَّهُ عَلى الخَلْقِ إلّا بَعْدَ وُقُوعِ ثَلاثِ مَراتِبَ في المُعْجِزاتِ.
البَحْثُ الثّالِثُ: أنَّهُ لا شَكَّ أنَّ مَلَكًا مِنَ المَلائِكَةِ قَدْ سَمِعَ الوَحْيَ مِنَ اللَّهِ تَعالى ابْتِداءً، فَذَلِكَ المَلَكُ هو جِبْرِيلُ، ويُقالُ: لَعَلَّ جِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِن مَلَكٍ آخَرَ، فالكُلُّ مُحْتَمَلٌ ولَوْ بِألْفِ واسِطَةٍ، ولَمْ يُوجَدْ ما يَدُلُّ عَلى القَطْعِ بِواحِدٍ مِن هَذِهِ الوُجُوهِ.
البَحْثُ الرّابِعُ: هَلْ في البَشَرِ مَن سَمِعَ وحْيَ اللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ واسِطَةٍ ؟ المَشْهُورُ أنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاسْتَمِعْ لِما يُوحى﴾ وقِيلَ: إنَّ مُحَمَّدًا ﷺ سَمِعَهُ أيْضًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأوْحى إلى عَبْدِهِ ما أوْحى﴾ [النَّجْمِ: ١٠] .
البَحْثُ الخامِسُ: أنَّ المَلائِكَةَ يَقْدِرُونَ عَلى أنْ يُظْهِرُوا أنْفُسَهم عَلى أشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَبِتَقْدِيرِ أنْ يَراهُ الرَّسُولُ ﷺ في كُلِّ مَرَّةٍ وجَبَ أنْ يَحْتاجَ إلى المُعْجِزَةِ، لِيَعْرِفَ أنَّ هَذا الَّذِي رَآهُ في هَذِهِ المَرَّةِ عَيْنُ ما رَآهُ في المَرَّةِ الأُولى، وإنْ كانَ لا يَرى شَخْصَهُ كانَتِ الحاجَةُ إلى المُعْجِزَةِ أقْوى، لِاحْتِمالِ أنَّهُ حَصَلَ الِاشْتِباهُ في (p-١٦٣)الصَّوْتِ، إلّا أنَّ الإشْكالَ في أنَّ الحاجَةَ إلى إظْهارِ المُعْجِزَةِ في كُلِّ مَرَّةٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ.
المَسْألَةُ السّابِعَةُ: دَلَّتِ المُناظَراتُ المَذْكُورَةُ في القُرْآنِ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ إبْلِيسَ عَلى أنَّهُ تَعالى كانَ يَتَكَلَّمُ مَعَ إبْلِيسَ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، فَذَلِكَ هَلْ يُسَمّى وحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعالى إلى إبْلِيسَ أوْ لا، الأظْهَرُ مَنعُهُ، ولا بُدَّ في هَذا المَوْضِعِ مِن بَحْثٍ غامِضٍ كامِلٍ.
المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: قَرَأ نافِعٌ ”أوْ يُرْسِلُ رَسُولًا“ بِرَفْعِ اللّامِ، ”فَيُوحِي“ بِسُكُونِ الياءِ ومَحَلُّهُ رَفْعٌ؛ عَلى تَقْدِيرِ: وهو يُرْسِلُ فَيُوحِي، والباقُونَ بِالنَّصْبِ عَلى تَأْوِيلِ المَصْدَرِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلّا وحْيًا أوْ إسْماعًا لِكَلامِهِ مِن وراءِ حِجابٍ أوْ يُرْسِلَ، لَكِنْ فِيهِ إشْكالٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ وحْيًا أوْ إسْماعًا اسْمٌ، وقَوْلُهُ ﴿أوْ يُرْسِلَ﴾ فِعْلٌ، وعَطْفُ الفِعْلِ عَلى الِاسْمِ قَبِيحٌ، فَأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ التَّقْدِيرَ: وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ إلّا أنْ يُوحِيَ إلَيْهِ وحْيًا أوْ يُسْمِعَ إسْماعًا مِن وراءِ حِجابٍ أوْ يُرْسِلَ رَسُولًا.
المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: الصَّحِيحُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ أنَّ عِنْدَما يُبَلِّغُ المَلَكُ الوَحْيَ إلى الرَّسُولِ، لا يَقْدِرُ الشَّيْطانُ عَلى إلْقاءِ الباطِلِ في أثْناءِ ذَلِكَ الوَحْيِ، وقالَ بَعْضُهم: يَجُوزُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ ولا نَبِيٍّ إلّا إذا تَمَنّى ألْقى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: ٥٢] وقالُوا: الشَّيْطانُ ألْقى في أثْناءِ سُورَةِ النَّجْمِ ”تِلْكَ الغَرانِيقُ العُلى، مِنها الشَّفاعَةُ تُرْتَجى“ وكانَ صَدِيقُنا المَلِكُ سامُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وكانَ أفْضَلَ مَن لَقِيتُهُ مِن أرْبابِ السَّلْطَنَةِ يَقُولُ: هَذا الكَلامُ بَعْدَ الدَّلائِلِ القَوِيَّةِ القاهِرَةِ باطِلٌ مِن وجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مَن رَآنِي في المَنامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإنَّ الشَّيْطانَ لا يَتَمَثَّلُ بِصُورَتِي» فَإذا لَمْ يَقْدِرِ الشَّيْطانُ عَلى أنْ يَتَمَثَّلَ في المَنامِ بِصُورَةِ الرَّسُولِ، فَكَيْفَ قَدَرَ عَلى التَّشَبُّهِ بِجِبْرِيلَ حالَ اشْتِغالِ تَبْلِيغِ وحْيِ اللَّهِ تَعالى ؟
والثّانِي: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «ما سَلَكَ عُمَرُ فَجًّا إلّا وسَلَكَ الشَّيْطانُ فَجًّا آخَرَ» فَإذا لَمْ يَقْدِرِ الشَّيْطانُ أنْ يَحْضُرَ مَعَ عُمَرَ في فَجٍّ واحِدٍ، فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلى أنْ يَحْضُرَ مَعَ جِبْرِيلَ في مَوْقِفِ تَبْلِيغِ وحْيِ اللَّهِ تَعالى ؟
المَسْألَةُ العاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيُوحِيَ بِإذْنِهِ ما يَشاءُ﴾ يَعْنِي فَيُوحِي ذَلِكَ المَلَكُ بِإذْنِ اللَّهِ ما يَشاءُ اللَّهُ، وهَذا يَقْتَضِي أنَّ الحُسْنَ لا يَحْسُنُ لِوَجْهٍ عائِدٍ عَلَيْهِ، وأنَّ القَبِيحَ لا يَقْبُحُ لِوَجْهٍ عائِدٍ إلَيْهِ، بَلْ لِلَّهِ أنْ يَأْمُرَ بِما يَشاءُ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وأنْ يَنْهى عَمّا يَشاءُ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ لَما صَحَّ قَوْلُهُ (ما يَشاءُ) واللَّهُ أعْلَمُ.
ثُمَّ قالَ تَعالى في آخِرِ الآيَةِ ﴿إنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ يَعْنِي أنَّهُ عَلِيٌّ عَنْ صِفاتِ المَخْلُوقِينَ ﴿حَكِيمٌ﴾ يُجْرِي أفْعالَهُ عَلى مُوجَبِ الحِكْمَةِ، فَيَتَكَلَّمُ تارَةً بِغَيْرِ واسِطَةٍ عَلى سَبِيلِ الإلْهامِ، وأُخْرى بِإسْماعِ الكَلامِ، وثالِثًا بِتَوْسِيطِ المَلائِكَةِ الكِرامِ، ولَمّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعالى كَيْفِيَّةَ أقْسامِ الوَحْيِ إلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، قالَ: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ والمُرادُ بِهِ القُرْآنُ، وسَمّاهُ رُوحًا، لِأنَّهُ يُفِيدُ الحَياةَ مِن مَوْتِ الجَهْلِ أوِ الكُفْرِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾ واخْتَلَفَ العُلَماءُ في هَذِهِ الآيَةِ مَعَ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: الرُّسُلُ كانُوا قَبْلَ الوَحْيِ عَلى الكُفْرِ، وذَكَرُوا في الجَوابِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ﴾ أيِ القُرْآنُ (ولا الإيمانُ) أيِ الصَّلاةُ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: (p-١٦٤)١٤٣ ] أيْ صَلاتَكم.
الثّانِي: أنْ يُحْمَلَ هَذا عَلى حَذْفِ المُضافِ، أيْ ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ﴾ ومَن أهْلُ الإيمانِ، يَعْنِي مَنِ الَّذِي يُؤْمِنُ، ومَنِ الَّذِي لا يُؤْمِنُ.
الثّالِثُ: ﴿ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ﴾ حِينَ كُنْتَ طِفْلًا في المَهْدِ.
الرّابِعُ: (الإيمانُ) عِبارَةٌ عَنِ الإقْرارِ بِجَمِيعِ ما كَلَّفَ اللَّهُ تَعالى بِهِ، وإنَّهُ [ﷺ] قَبْلَ النُّبُوَّةِ ما كانَ عارِفًا بِجَمِيعِ تَكالِيفِ اللَّهِ تَعالى، بَلْ إنَّهُ كانَ عارِفًا بِاللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ لا يُنافِي ما ذَكَرْناهُ.
الخامِسُ: صِفاتُ اللَّهِ تَعالى عَلى قِسْمَيْنِ:
مِنها ما يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِمَحْضِ دَلائِلِ العَقْلِ، ومِنها ما لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلّا بِالدَّلائِلِ السَّمْعِيَّةِ. فَهَذا القِسْمُ الثّانِي لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَتُهُ حاصِلَةً قَبْلَ النُّبُوَّةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ واخْتَلَفُوا في الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ ﴿ولَكِنْ جَعَلْناهُ﴾ مِنهم مَن قالَ إنَّهُ راجِعٌ إلى القُرْآنِ دُونَ الإيمانِ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الأحْكامُ، فَلا جَرَمَ شُبِّهَ بِالنُّورِ الَّذِي يُهْتَدى بِهِ، ومِنهم مَن قالَ إنَّهُ راجِعٌ إلَيْهِما مَعًا، وحَسُنَ ذَلِكَ لِأنَّ مَعْناهُما واحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجُمُعَةِ: ١١] .
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى بَعْدَ أنْ جَعَلَ القُرْآنَ نَفْسَهُ في نَفْسِهِ هُدًى كَما قالَ: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ فَإنَّهُ قَدْ يَهْدِي بِهِ البَعْضَ دُونَ البَعْضِ، وهَذِهِ الهِدايَةُ لَيْسَتْ إلّا عِبارَةً عَنِ الدَّعْوَةِ وإيضاحِ الأدِلَّةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ في صِفَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وهو يُفِيدُ العُمُومَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُلِّ، وقَوْلُهُ ﴿نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ يُفِيدُ الخُصُوصَ، فَثَبَتَ أنَّ الهِدايَةَ بِمَعْنى الدَّعْوَةِ عامَّةٌ، والهِدايَةَ في قَوْلِهِ ﴿نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ خاصَّةٌ، والهِدايَةُ الخاصَّةُ غَيْرُ الهِدايَةِ العامَّةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ أمْرًا مُغايِرًا لِإظْهارِ الدَّلائِلِ ولِإزالَةِ الأعْذارِ، ولا يَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ عِبارَةً عَنِ الهِدايَةِ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ أيْ: جَعَلْنا القُرْآنَ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ، وهَذا لا يَلِيقُ إلّا بِالهِدايَةِ الَّتِي تَحْصُلُ في الدُّنْيا، وأيْضًا فالهِدايَةُ إلى الجَنَّةِ عِنْدَكم في حَقِّ البَعْضِ واجِبٌ، وفي حَقِّ الآخَرِينَ مَحْظُورٌ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلا يَبْقى لِقَوْلِهِ ﴿مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ فائِدَةٌ، فَثَبَتَ أنَّ المُرادَ أنَّهُ تَعالى يَهْدِي مَن يَشاءُ ويُضِلُّ مَن يَشاءُ، ولا اعْتِراضَ عَلَيْهِ فِيهِ.
ثُمَّ قالَ تَعالى لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿وإنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ كَما أنَّ القُرْآنَ يَهْدِي فَكَذَلِكَ الرَّسُولُ يَهْدِي، وبَيَّنَ أنَّهُ ”يَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ“ وبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ الصِّراطَ هو ﴿صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّ الَّذِي تَجُوزُ عِبادَتُهُ هو الَّذِي يَمْلِكُ السَّماواتِ والأرْضَ، والغَرَضُ مِنهُ إبْطالُ قَوْلِ مَن يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ألا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ وذَلِكَ كالوَعِيدِ والزَّجْرِ، فَبَيَّنَ أنَّ أمْرَ مَن لا يَقْبَلُ هَذِهِ التَّكالِيفَ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ تَعالى، أيْ إلى حَيْثُ لا حاكِمَ سِواهُ، فَيُجازِي كُلًّا مِنهم بِما يَسْتَحِقُّهُ مِن ثَوابٍ أوْ عِقابٍ.
قالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ يَوْمِ الجُمُعَةِ الثّامِنِ مِن شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ ثَلاثٍ وسِتِّمِائَةٍ، يا مُدَبِّرَ الأُمُورِ، ويا مُدَهِّرَ الدُّهُورِ، ويا مُعْطِيَ كُلِّ خَيْرٍ وسُرُورٍ، ويا دافِعَ البَلايا والشُّرُورِ، أوْصِلْنا إلى مَنازِلِ النُّورِ، في ظُلُماتِ القُبُورِ بِفَضْلِكَ ورَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ.
{"ayahs_start":51,"ayahs":["۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡیًا أَوۡ مِن وَرَاۤىِٕ حِجَابٍ أَوۡ یُرۡسِلَ رَسُولࣰا فَیُوحِیَ بِإِذۡنِهِۦ مَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ عَلِیٌّ حَكِیمࣱ","وَكَذَ ٰلِكَ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ رُوحࣰا مِّنۡ أَمۡرِنَاۚ مَا كُنتَ تَدۡرِی مَا ٱلۡكِتَـٰبُ وَلَا ٱلۡإِیمَـٰنُ وَلَـٰكِن جَعَلۡنَـٰهُ نُورࣰا نَّهۡدِی بِهِۦ مَن نَّشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِنَاۚ وَإِنَّكَ لَتَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ","صِرَ ٰطِ ٱللَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ أَلَاۤ إِلَى ٱللَّهِ تَصِیرُ ٱلۡأُمُورُ"],"ayah":"۞ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡیًا أَوۡ مِن وَرَاۤىِٕ حِجَابٍ أَوۡ یُرۡسِلَ رَسُولࣰا فَیُوحِیَ بِإِذۡنِهِۦ مَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ عَلِیٌّ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق