الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿ومِن آياتِهِ الجَوارِي في البَحْرِ كالأعْلامِ﴾ ﴿إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ﴾ ﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ (p-١٥٠)﴿ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِنا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ ﴿فَما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وأبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ والفَواحِشَ وإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وأقامُوا الصَّلاةَ وأمْرُهم شُورى بَيْنَهم ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو ”الجَوارِي“ بِياءٍ في الوَصْلِ والوَقْفِ، فَإثْباتُ الياءِ عَلى الأصْلِ، وحَذْفُها لِلتَّخْفِيفِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الجَوارِي، يَعْنِي السُّفُنَ الجَوارِيَ، فَحَذَفَ المَوْصُوفَ لِعَدَمِ الِالتِباسِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ مِن آياتِهِ أيْضًا هَذِهِ السُّفُنَ العَظِيمَةَ الَّتِي تَجْرِي عَلى وجْهِ البَحْرِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّياحِ، واعْلَمْ أنَّ المَقْصُودَ مِن ذِكْرِهِ أمْرانِ: أحَدُهُما: أنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلى وُجُودِ القادِرِ الحَكِيمِ. والثّانِي: أنْ يُعَرِّفَ ما فِيهِ مِنَ النِّعَمِ العَظِيمَةِ لِلَّهِ تَعالى عَلى العِبادِ. أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ: فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُرادَ بِالأعْلامِ الجِبالُ، قالَتِ الخَنْساءُ في مَرْثِيَّةِ أخِيها: ؎وإنَّ صَخْرًا لَتَأْتَمُّ الهُداةُ بِهِ كَأنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نارُ ونُقِلَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَنْشَدَ قَصِيدَتَها هَذِهِ، فَلَمّا وصَلَ الرّاوِي إلى هَذا البَيْتِ، قالَ: ”قاتَلَها اللَّهُ، ما رَضِيَتْ بِتَشْبِيهِها لَهُ بِالجَبَلِ حَتّى جَعَلَتْ عَلى رَأْسِهِ نارًا !“ إذا عَرَفْتَ هَذا، فَنَقُولُ: هَذِهِ السُّفُنُ العَظِيمَةُ الَّتِي تَكُونُ كالجِبالِ تَجْرِي عَلى وجْهِ البَحْرِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّياحِ عَلى أسْرَعِ الوُجُوهِ، وعِنْدَ سُكُونِ هَذِهِ الرِّياحِ تَقِفُ، وقَدْ بَيَّنّا بِالدَّلِيلِ في سُورَةِ النَّحْلِ أنَّ مُحَرِّكَ الرِّياحِ ومُسْكِنَها هو اللَّهُ تَعالى، إذْ لا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى تَحْرِيكِها مِنَ البَشَرِ ولا عَلى تَسْكِينِها، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ الإلَهِ القادِرِ، وأيْضًا أنَّ السَّفِينَةَ تَكُونُ في غايَةِ الثِّقَلِ، ثُمَّ إنَّها مَعَ ثِقَلِها بَقِيَتْ عَلى وجْهِ الماءِ، وهو أيْضًا دَلالَةٌ أُخْرى. وأمّا الوَجْهُ الثّانِي: وهو مَعْرِفَةُ ما فِيها مِنَ المَنافِعِ، فَهو أنَّهُ تَعالى خَصَّ كُلَّ جانِبٍ مِن جَوانِبِ الأرْضِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الأمْتِعَةِ، وإذا نُقِلَ مَتاعُ هَذا الجانِبِ إلى ذَلِكَ الجانِبِ في السُّفُنِ، وبِالعَكْسِ - حَصَلَتِ المَنافِعُ العَظِيمَةُ في التِّجارَةِ، فَلِهَذِهِ الأسْبابِ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى حالَ هَذِهِ السَّفِينَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو والجُمْهُورُ بِهَمْزَةٍ ﴿إنْ يَشَأْ﴾ لِأنَّ سُكُونَ الهَمْزَةِ عَلامَةٌ لِلْجَزْمِ، وعَنْ وِرَشٍ عَنْ نافِعٍ بِلا هَمْزَةٍ، وقَرَأ نافِعٌ وحْدَهُ ”يُسْكِنِ الرِّياحَ“ عَلى الجَمْعِ، والباقُونَ ﴿الرِّيحَ﴾ عَلى الواحِدِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ (يَظْلَلْنَ) بِفَتْحِ اللّامِ وكَسْرِها؛ مِن ظَلَّ يَظَلُّ ويَظِلُّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿رَواكِدَ﴾ أيْ رَواتِبَ، أيْ: لا تَجْرِي عَلى ظَهْرِهِ، أيْ عَلى ظَهْرِ البَحْرِ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ﴾ عَلى بَلاءِ اللَّهِ ﴿شَكُورٍ﴾ لِنَعْمائِهِ، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ يَجِبُ أنْ لا يَكُونَ غافِلًا عَنْ دَلائِلِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ البَتَّةَ؛ لِأنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ إمّا في البَلاءِ، وإمّا في الآلاءِ، فَإنْ كانَ في البَلاءِ كانَ مِنَ الصّابِرِينَ، وإنْ كانَ في النَّعْماءِ كانَ مِنَ الشّاكِرِينَ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَإنَّهُ لا يَكُونُ البَتَّةَ مِنَ الغافِلِينَ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا﴾ يَعْنِي: أوْ يُهْلِكْهُنَّ، يُقالُ أوْبَقَهُ، أيْ أهْلَكَهُ، ويُقالُ لِلْمُجْرِمِ أوْبَقَتْهُ ذُنُوبُهُ، أيْ أهْلَكَتْهُ، والمَعْنى أنَّهُ تَعالى إنْ شاءَ ابْتَلى المُسافِرِينَ في البَحْرِ بِإحْدى بَلِيَّتَيْنِ: إمّا أنْ يُسْكِنَ الرِّيحَ (p-١٥١)فَتَرْكُدَ الجَوارِي عَلى مَتْنِ البَحْرِ وتَقِفُ، وإمّا أنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ عاصِفَةً فِيها فَيَهْلِكْنَ بِسَبَبِ الإغْراقِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَقَوْلُهُ ﴿أوْ يُوبِقْهُنَّ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿يُسْكِنِ﴾ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: إنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَرْكُدْنَ، أوْ يَعْصِفْها فَيَغْرَقْنَ بِعَصْفِها، وقَوْلُهُ ﴿ويَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾ مَعْناهُ إنْ يَشَأْ يُهْلِكْ ناسًا ويُنْجِ ناسًا عَنْ طَرِيقِ العَفْوِ عَنْهم، فَإنْ قِيلَ: فَما مَعْنى إدْخالِ العَفْوِ في حُكْمِ الإيباقِ حَيْثُ جُعِلَ مَجْزُومًا مِثْلَهُ ؟ قُلْنا: مَعْناهُ إنْ يَشَأْ يُهْلِكْ ناسًا ويُنْجِ ناسًا عَلى طَرِيقِ العَفْوِ عَنْهم، وأمّا مَن قَرَأ ”ويَعْفُو“ فَقَدِ اسْتَأْنَفَ الكَلامَ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِنا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: ”يَعْلَمُ“ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ، فالقِراءَةُ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وأمّا بِالنَّصْبِ فَلِلْعَطْفِ عَلى تَعْلِيلِ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ لِيَنْتَقِمَ مِنهم ﴿ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِنا﴾ والعَطْفُ عَلى التَّعْلِيلِ المَحْذُوفِ غَيْرُ عَزِيزٍ في القُرْآنِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ ولِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ﴾ [الجاثِيَةِ: ٢٢] قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ومَن قَرَأ عَلى جَزْمِ ”ويَعْلَمْ“ فَكَأنَّهُ قالَ: أوْ إنْ يَشَأْ، يَجْمَعُ بَيْنَ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: هَلاكِ قَوْمٍ، ونَجاةِ قَوْمٍ، وتَحْذِيرِ آخَرِينَ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: مَعْنى الآيَةِ ﴿ويَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ﴾ أيْ يُنازِعُونَ عَلى وجْهِ التَّكْذِيبِ، أنْ لا مَخْلَصَ لَهم إذا وقَفَتِ السُّفُنُ، وإذا عَصَفَتِ الرِّياحُ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِاعْتِرافِهِمْ بِأنَّ الإلَهَ النّافِعَ الضّارَّ لَيْسَ إلّا اللَّهَ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ دَلائِلَ التَّوْحِيدِ أرْدَفَها بِالتَّفْسِيرِ عَنِ الدُّنْيا وتَحْقِيرِ شَأْنِها، لِأنَّ الَّذِي يَمْنَعُ مِن قَبُولِ الدَّلِيلِ إنَّما هو الرَّغْبَةُ في الدُّنْيا بِسَبَبِ الرِّياسَةِ وطَلَبِ الجاهِ، فَإذا صَغُرَتِ الدُّنْيا في عَيْنِ الرَّجُلِ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْها، فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِعُ بِذِكْرِ الدَّلائِلِ، فَقالَ: ﴿فَما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ وسَمّاهُ مَتاعًا تَنْبِيهًا عَلى قِلَّتِهِ وحَقارَتِهِ، ولِأنَّ الحِسَّ شاهِدٌ بِأنَّ كُلَّ ما يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيا فَإنَّهُ يَكُونُ سَرِيعَ الِانْقِراضِ والِانْقِضاءِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وأبْقى﴾ والمَعْنى أنَّ مَطالِبَ الدُّنْيا خَسِيسَةٌ مُنْقَرِضَةٌ، ونَبَّهَ عَلى خَساسَتِها بِتَسْمِيَتِها بِالمَتاعِ، ونَبَّهَ عَلى انْقِراضِها بِأنْ جَعَلَها مِنَ الدُّنْيا، وأمّا الآخِرَةُ فَإنَّها خَيْرٌ وأبْقى، وصَرِيحُ العَقْلِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الخَيْرِ الباقِي عَلى الخَسِيسِ الفانِي، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ هَذِهِ الخَيْرِيَّةَ إنَّما تَحْصُلُ لِمَن كانَ مَوْصُوفًا بِصِفاتٍ: الصِّفَةُ الأُولى: أنْ يَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ . الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: أنْ يَكُونَ مِنَ المُتَوَكِّلِينَ عَلى فَضْلِ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فَأمّا مَن زَعَمَ أنَّ الطّاعَةَ تُوجِبُ الثَّوابَ، فَهو مُتَّكِلٌ عَلى عَمَلِ نَفْسِهِ لا عَلى اللَّهِ، فَلا يَدْخُلُ تَحْتَ الآيَةِ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: أنْ يَكُونُوا مُجْتَنِبِينَ لِكَبائِرِ الإثْمِ والفَواحِشِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كَبِيرُ الإثْمِ هو الشِّرْكُ، نَقَلَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وهو عِنْدِي بَعِيدٌ، لِأنَّ شَرْطَ الإيمانِ مَذْكُورٌ أوَّلًا، وهو يُغْنِي عَنْ عَدَمِ الشِّرْكِ، وقِيلَ: المُرادُ بِكَبائِرِ الإثْمِ ما يَتَعَلَّقُ بِالبِدَعِ واسْتِخْراجِ الشُّبُهاتِ، وبِالفَواحِشِ ما يَتَعَلَّقُ بِالقُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ، وبِقَوْلِهِ ﴿وإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾ ما يَتَعَلَّقُ بِالقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ، وإنَّما خَصَّ الغَضَبَ بِلَفْظِ الغُفْرانِ؛ لِأنَّ الغَضَبَ عَلى طَبْعِ النّارِ، واسْتِيلاؤُهُ شَدِيدٌ ومُقاوَمَتُهُ صَعْبَةٌ فَلِهَذا السَّبَبِ خَصَّهُ بِهَذا اللَّفْظِ، واللَّهُ أعْلَمُ. الصِّفَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ والمُرادُ مِنهُ تَمامُ الِانْقِيادِ، فَإنْ قالُوا ألَيْسَ أنَّهُ لَمّا (p-١٥٢)جَعَلَ الإيمانَ شَرْطًا فِيهِ، فَقَدْ دَخَلَ في الإيمانِ إجابَةُ اللَّهِ ؟ قُلْنا: الأقْرَبُ عِنْدِي أنْ يُحْمَلَ هَذا عَلى الرِّضاءِ بِقَضاءِ اللَّهِ مِن صَمِيمِ القَلْبِ، وأنْ لا يَكُونَ في قَلْبِهِ مُنازَعَةٌ في أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ. ولَمّا ذَكَرَ هَذا الشَّرْطَ قالَ: ﴿وأقامُوا الصَّلاةَ﴾ والمُرادُ مِنهُ إقامَةُ الصَّلَواتِ الواجِبَةِ، لِأنَّ هَذا هو الشَّرْطُ في حُصُولِ الثَّوابِ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأمْرُهم شُورى بَيْنَهُمْ﴾ فَقِيلَ: كانَ إذا وقَعَتْ بَيْنَهم واقِعَةٌ اجْتَمَعُوا وتَشاوَرُوا، فَأثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ، أيْ: لا يَنْفَرِدُونَ بِرَأْيٍ، بَلْ ما لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ لا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ، وعَنِ الحَسَنِ: ما تَشاوَرَ قَوْمٌ إلّا هُدُوا لِأرْشَدِ أمْرِهِمْ، والشُّورى مَصْدَرٌ كالفُتْيا، بِمَعْنى التَّشاوُرِ، ومَعْنى قَوْلِهِ ﴿وأمْرُهم شُورى بَيْنَهُمْ﴾ أيْ ذُو شُورى. الصِّفَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ والمَعْنى أنْ يَقْتَصِرُوا في الِانْتِصارِ عَلى ما يَجْعَلُهُ اللَّهُ لَهم ولا يَتَعَدَّوْنَهُ، وعَنِ النَّخَعِيِّ أنَّهُ كانَ إذا قَرَأها قالَ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يُذِلُّوا أنْفُسَهم، فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمُ السُّفَهاءُ، فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ مُشْكِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ قَبْلَهُ ﴿وإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾ فَكَيْفَ يَلِيقُ أنْ يُذْكَرَ مَعَهُ ما يَجْرِي مَجْرى الضِّدِّ لَهُ، وهو قَوْلُهُ ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ ؟ الثّانِي: وهو أنَّ جَمِيعَ الآياتِ دالَّةٌ عَلى أنَّ العَفْوَ أحْسَنُ، قالَ تَعالى: ﴿وأنْ تَعْفُوا أقْرَبُ لِلتَّقْوى﴾ [البَقَرَةِ: ٢٣٧] وقالَ: ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفُرْقانِ: ٧٢] وقالَ: ﴿خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعْرافِ: ١٩٩] وقالَ: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهو خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٦] فَهَذِهِ الآياتُ تُناقِضُ مَدْلُولَ هَذِهِ الآيَةِ. والجَوابُ: أنَّ العَفْوَ عَلى قِسْمَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ العَفْوُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الفِتْنَةِ وجِنايَةِ الجانِي ورُجُوعِهِ عَنْ جِنايَتِهِ. والثّانِي: أنْ يَصِيرَ العَفْوُ سَبَبًا لِمَزِيدِ جَراءَةِ الجانِي ولِقُوَّةِ غَيْظِهِ وغَضَبِهِ. الآياتُ في العَفْوِ مَحْمُولَةٌ عَلى القِسْمِ الأوَّلِ، وهَذِهِ الآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى القِسْمِ الثّانِي، وحِينَئِذٍ يَزُولُ التَّناقُضُ واللَّهُ أعْلَمُ، ألا تَرى أنَّ العَفْوَ عَنِ المُصِرِّ يَكُونُ كالإغْراءِ لَهُ ولِغَيْرِهِ، فَلَوْ أنَّ رَجُلًا وجَدَ عَبْدَهَ فَجَرَ بِجارِيَتِهِ وهو مُصِرٌّ، فَلَوْ عَفا عَنْهُ كانَ مَذْمُومًا، ورُوِيَ «أنَّ زَيْنَبَ أقْبَلَتْ عَلى عائِشَةَ فَشَتَمَتْها، فَنَهاها النَّبِيُّ ﷺ عَنْها فَلَمْ تَنْتَهِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: دُونَكِ فانْتَصِرِي» وأيْضًا: إنَّهُ تَعالى لَمْ يُرَغِّبْ في الِانْتِصارِ، بَلْ بَيَّنَ أنَّهُ مَشْرُوعٌ فَقَطْ، ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَهُ أنَّ شَرْعَهُ مَشْرُوطٌ بِرِعايَةِ المُماثَلَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ العَفْوَ أوْلى بِقَوْلِهِ ﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ فَزالَ السُّؤالُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب