الباحث القرآني
(p-١٢٢)(سُورَةُ الشُّورى)
خَمْسُونَ وثَلاثُ آياتٍ، مَكِّيَّةٌ
﷽
﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ ألا إنَّ اللَّهَ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وهو العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ ألا إنَّ اللَّهَ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وما أنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾
اعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في أمْثالِ هَذِهِ الفَواتِحِ مَعْلُومٌ إلّا أنَّ في هَذا المَوْضِعِ سُؤالانِ زائِدانِ الأوَّلُ: أنْ يُقالَ: إنَّ هَذِهِ السُّوَرَ السَّبْعَةَ مُصَدَّرَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿حم﴾ فَما السَّبَبُ في اخْتِصاصِ هَذِهِ السُّورَةِ بِمَزِيدِ ﴿عسق﴾ ؟ .
الثّانِي: أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّهُ لا يُفْصَلُ بَيْنَ ﴿كهيعص﴾ [مريم: ١] ( وهَهُنا يُفْصَلُ بَيْنَ ﴿حم﴾ وبَيْنَ ﴿عسق﴾ فَما السَّبَبُ فِيهِ ؟
واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في أمْثالِ هَذِهِ الفَواتِحِ يَضِيقُ، وفَتْحُ بابِ المُجازَفاتِ مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ، فالأوْلى أنْ يُفَوَّضَ عِلْمُها إلى اللَّهِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ ”حم عسق“ .
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ﴾ فالكافُ مَعْناهُ المِثْلُ وذا لِلْإشارَةِ إلى شَيْءٍ سَبَقَ ذِكْرُهُ، فَيَكُونُ المَعْنى: مِثْلُ: ﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ﴾ وعِنْدَ هَذا حَصَلَ قَوْلانِ:
(p-١٢٣)الأوَّلُ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ”لا نَبِيَّ صاحِبَ كِتابٍ إلّا وقَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ حم عسق“ وهَذا عِنْدِي بِعِيدٌ.
الثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى: مِثْلَ الكِتابِ المُسَمّى بِـ ”حم عسق“ يُوحِي اللَّهُ إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ، وهَذِهِ المُماثَلَةُ المُرادُ مِنها المُماثَلَةُ في الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ والعَدْلِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ وتَقْبِيحِ أحْوالِ الدُّنْيا والتَّرْغِيبِ في التَّوَجُّهِ إلى الآخِرَةِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا أنّا بَيَّنّا في سُورَةِ: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى﴾ [الأعلى: ١] أنَّ أوَّلَها في تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ، وأوْسَطَها في تَقْرِيرِ النُّبُوَّةِ، وآخِرَها في تَقْرِيرِ المَعادِ، ولَمّا تَمَّمَ الكَلامَ في تَقْرِيرِ هَذِهِ المَطالِبِ الثَّلاثَةِ قالَ: ﴿إنَّ هَذا لَفي الصُّحُفِ الأُولى﴾ ﴿صُحُفِ إبْراهِيمَ ومُوسى﴾ [الأعلى: ١٨] يَعْنِي أنَّ المَقْصُودَ مِن إنْزالِ جَمِيعِ الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ لَيْسَ إلّا هَذِهِ المَطالِبَ الثَّلاثَةَ، فَكَذَلِكَ هَهُنا يَعْنِي مِثْلَ الكِتابِ المُسَمّى بِـ ”حم عسق“ يُوحِي اللَّهُ إلَيْكَ وإلى كُلِّ مَن قَبْلَكَ مِنَ الأنْبِياءِ، والمُرادُ بِهَذِهِ المُماثَلَةِ الدَّعْوَةُ إلى هَذِهِ المَطالِبِ العالِيَةِ والمَباحِثِ المُقَدَّسَةِ الإلَهِيَّةِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ ولَمْ يَقُلْ أوْحى إلَيْكَ، ولَكِنْ قالَ: ﴿يُوحِي إلَيْكَ﴾ عَلى لَفْظِ المُضارِعِ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ إيحاءَ مِثْلِهِ عادَتُهُ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ”كَذَلِكَ يُوحى“ بِفَتْحِ الحاءِ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ وهي إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أبِي عَمْرٍو وعَنْ بَعْضِهِمْ ”نُوحِي“ بِالنُّونِ، وقَرَأ الباقُونَ ”يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ“ بِكَسْرِ الحاءِ، فَإنْ قِيلَ فَعَلى القِراءَةِ الأُولى ما رافِعُ اسْمِ اللَّهِ تَعالى ؟ قُلْنا ما دَلَّ عَلَيْهِ بِوَحْيٍ، كَأنَّ قائِلًا قالَ مَنِ المُوحِي ؟ فَقِيلَ اللَّهُ، ونَظِيرُهُ قِراءَةُ السُّلَمِيِّ ”وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهم“ [الأنعام: ١٣٧] عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ورَفْعِ ”شُرَكاؤُهم“ فَإنْ قِيلَ فَما رافِعُهُ فِيمَن قَرَأ ”نُوحِي“ بِالنُّونِ ؟ قُلْنا يُرْفَعُ بِالِابْتِداءِ، والعَزِيزُ وما بَعْدَهُ أخْبارٌ، أوِ ﴿العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ صِفَتانِ والظَّرْفُ خَبَرُهُ، ولَمّا ذَكَرَ أنَّ هَذا الكِتابَ حَصَلَ بِالوَحْيِ بَيَّنَ أنَّ المُوحِيَ مَن هو، فَقالَ إنَّهُ هو العَزِيزُ الحَكِيمُ وقَدْ بَيَّنّا في أوَّلِ سُورَةِ ”حم المُؤْمِنِ“ أنَّ كَوْنَهُ عَزِيزًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ قادِرًا عَلى ما لا نِهايَةَ لَهُ وكَوْنَهُ حَكِيمًا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الحاجاتِ فَيَحْصُلُ لَنا مِن كَوْنِهِ عَزِيزًا حَكِيمًا كَوْنُهُ قادِرًا عَلى جَمِيعِ المَقْدُوراتِ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ غَنِيًّا عَنْ جَمِيعِ الحاجاتِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ كانَتْ أفْعالُهُ وأقْوالُهُ حِكْمَةً وصَوابًا، وكانَتْ مُبَرَّأةً عَنِ العَيْبِ والعَبَثِ، قالَ مُصَنِّفُ الكِتابِ: قُلْتُ في قَصِيدَةً:
؎الحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الآلاءِ والنِّعَمِ والفَضْلِ والجُودِ والإحْسانِ والكَرَمِ
؎مُنَزَّهِ الفِعْلِ عَنْ عَيْبٍ وعَنْ عَبَثِ ∗∗∗ مُقَدَّسِ المُلْكِ عَنْ عَزْلٍ وعَنْ عَدَمِ
والصِّفَةُ الثّالِثَةُ قَوْلُهُ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى مَطْلُوبَيْنِ في غايَةِ الجَلالِ: أحَدُهُما: كَوْنُهُ مَوْصُوفًا بِقُدْرَةٍ كامِلَةٍ نافِذَةٍ في جَمِيعِ أجْزاءِ السَّماواتِ والأرْضِ عَلى عَظَمَتِها وسِعَتِها، بِالإيجادِ والإعْدامِ، والتَّكْوِينِ والإبْطالِ.
والثّانِي: أنَّهُ لَمّا بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ أنَّ كُلَّ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ فَهو مُلْكُهُ ومِلْكُهُ، وجَبَ أنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ كَوْنِهِ حاصِلًا في السَّماواتِ وفي الأرْضِ، وإلّا لَزِمَ كَوْنُهُ مِلْكًا لِنَفْسِهِ.
وإذا ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ السَّماواتِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ أيْضًا في العَرْشِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما سَماكَ فَهو سَماءٌ فَإذا كانَ العَرْشُ مَوْجُودًا فَوْقَ السَّماواتِ كانَ في الحَقِيقَةِ سَماءً، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلُّ ما كانَ حاصِلًا في العَرْشِ مُلْكًا لِلَّهِ ومِلْكًا لَهُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ كَوْنِهِ حاصِلًا في العَرْشِ، وإنْ قالُوا: إنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ﴾ وكَلِمَةُ ما تَتَناوَلُ مَن يَعْقِلُ قُلْنا هَذا مَدْفُوعٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ (p-١٢٤)لَفْظَةَ ما وارِدَةٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى قالَ تَعالى: ﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ ﴿والأرْضِ وما طَحاها﴾ [الشمس: ٦] وقالَ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾، [الكافرون: ٥] .
والثّانِي: أنَّ صِيغَةَ ”مَن“: ورَدَتْ في مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ قالَ تَعالى: ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣] وكَلِمَةُ ”مَن“ لا شَكَّ أنَّها وارِدَةٌ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ كُلَّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ فَهو عَبْدُ اللَّهِ، فَلَوْ كانَ اللَّهُ مَوْجُودًا في السَّماواتِ والأرْضِ وفي العَرْشِ لَكانَ هو مِن جُمْلَةِ مَن في السَّماواتِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ، ولَمّا ثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ كُلَّ مَن كانَ مَوْجُودًا في السَّماواتِ والعَرْشِ فَهو عَبْدٌ لِلَّهِ وجَبَ فِيمَن تَقَدَّسَتْ كِبْرِياؤُهُ عَنْ تُهْمَةِ العُبُودِيَّةِ أنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الكَوْنِ في المَكانِ والجِهَةِ والعَرْشِ والكُرْسِيِّ.
والصِّفَةُ الرّابِعَةُ والخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِكَوْنِهِ عَلِيًّا العُلُوَّ في الجِهَةِ والمَكانِ لِما ثَبَتَتِ الدَّلالَةُ عَلى فَسادِهِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العَظِيمِ العَظَمَةَ بِالجُثَّةِ وكِبَرِ الجِسْمِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُؤَلَّفًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ، وذَلِكَ ضِدُّ قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ أحَدٌ﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العَلِيِّ المُتَعالِي عَنْ مُشابَهَةِ المُمْكِناتِ ومُناسَبَةِ المُحْدَثاتِ، ومِنَ العَظِيمِ العَظَمَةُ بِالقُدْرَةِ، والقَهْرُ بِالِاسْتِعْلاءِ، وكَمالُ الإلَهِيَّةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ أبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ ”تَكادُ“ بِالتّاءِ ”يَنْفَطِرْنَ“ بِالياءِ والنُّونِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ وحَمْزَةُ ”تَكادُ“ بِالتّاءِ ”يَتَفَطَّرْنَ“ بِالياءِ والتّاءِ، وقَرَأ نافِعٌ والكِسائِيُّ: ”يَكادُ“ بِالياءِ ”يَتَفَطَّرْنَ“ أيْضًا بِالتّاءِ، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ورَوى يُونُسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو قِراءَةً غَرِيبَةً ”تَتَفَطَّرْنَ“ بِالتّاءَيْنِ مَعَ النُّونِ، ونَظِيرُها حَرْفٌ نادِرٌ، رُوِيَ في نَوادِرِ ابْنِ الإعْرابِيِّ: الإبِلُ تَتَشَمَّسْنَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في فائِدَةِ قَوْلِهِ: ﴿يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: رَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ قالَ: والمَعْنى أنَّها تَكادُ تَتَفَطَّرُ مِن ثِقَلِ اللَّهِ عَلَيْها.
واعْلَمْ أنَّ هَذا القَوْلَ سَخِيفٌ، ويَجِبُ القَطْعُ بِبَراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْهُ، ويَدُلُّ عَلى فَسادِهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن فَوْقِهِنَّ﴾ لا يُفْهَمُ مِنهُ مِمَّنْ فَوْقَهُنَّ.
وثانِيها: هَبْ أنَّهُ يُحْمَلُ عَلى ذَلِكَ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ هَذِهِ الحالَةَ إنَّما حَصَلَتْ مِن ثِقَلِ اللَّهِ عَلَيْها، ولِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذِهِ الحالَةَ إنَّما حَصَلَتْ مِن ثِقَلِ المَلائِكَةِ عَلَيْها، كَما جاءَ في الحَدِيثِ أنَّهُ ﷺ قالَ: ”«أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فِيها مَوْضِعُ شِبْرٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ قائِمٌ أوْ راكِعٌ أوْ ساجِدٌ» “ .
وثالِثُها: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ تَكادُ السَّماواتُ تَنْشَقُّ وتَنْفَطِرُ مِن هَيْبَةِ مَن هو فَوْقَها فَوْقِيَّةً بِالإلَهِيَّةِ والقَهْرِ والقُدْرَةِ ؟ .
فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ القَوْلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ في غايَةِ الفَسادِ والرَّكاكَةِ.
والوَجْهُ الثّانِي: في تَأْوِيلِ الآيَةِ ما ذَكَرَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وهو أنَّ كَلِمَةَ الكُفْرِ إنَّما جاءَتْ مِنَ الَّذِينَ تَحْتَ السَّماواتِ، وكانَ القِياسُ أنْ يُقالَ: يَتَفَطَّرْنَ مِن تَحْتِهِنَّ مِنَ الجِهَةِ الَّتِي جاءَتْ مِنها الكَلِمَةُ، ولَكِنَّهُ بُولِغَ في ذَلِكَ فَقُلِبَ فَجُعِلَتْ مُؤَثِّرَةً في جِهَةِ الفَوْقِ، كَأنَّهُ قِيلَ: يَكَدْنَ يَتَفَطَّرْنَ مِنَ الجِهَةِ الَّتِي فَوْقَهُنَّ، ودَعِ الجِهَةَ الَّتِي تَحْتَهُنَّ، ونَظِيرُهُ في المُبالَغَةِ قَوْلُهُ تَعالى؛ ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ﴾ ﴿يُصْهَرُ بِهِ ما في بُطُونِهِمْ والجُلُودُ﴾ [الحج: ١٩] فَجُعِلَ مُؤَثِّرًا في أجْزائِهِ الباطِنَةِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ: في تَأْوِيلِ الآيَةِ أنْ يُقالَ: ﴿مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أيْ مِن فَوْقِ الأرْضِينَ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ ثُمَّ قالَ: (p-١٢٥)﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أيْ مِن فَوْقِ الأرْضِينَ.
والوَجْهُ الرّابِعُ: في التَّأْوِيلِ أنْ يُقالَ مَعْنى ﴿مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أيْ مِنَ الجِهَةِ الَّتِي حَصَلَتْ هَذِهِ السَّماواتُ فِيها، وتِلْكَ الجِهَةُ هي فَوْقَ، فَقَوْلُهُ: ﴿مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أيْ مِنَ الجِهَةِ الفَوْقانِيَّةِ الَّتِي هُنَّ فِيها.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ هَذِهِ الهَيْئَةَ لِمَ حَصَلَتْ ؟ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ المُوحِيَ لِهَذا الكِتابِ هو اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ، بَيَّنَ وصْفَ جَلالِهِ وكِبْرِيائِهِ، فَقالَ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ أيْ مِن هَيْبَتِهِ وجَلالَتِهِ، والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ السَّبَبَ في إثْباتِهِمُ الوَلَدَ لِلَّهِ لِقَوْلِهِ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ﴾، وهَهُنا السَّبَبُ فِيهِ إثْباتُهُمُ الشُّرَكاءَ لِلَّهِ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أولِياءَ﴾ والصَّحِيحُ هو الأوَّلُ، ثُمَّ قالَ: ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ويَسْتَغْفِرُونَ لِمَن في الأرْضِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى نَوْعانِ: عالَمُ الجُسْمانِيّاتِ وأعْظَمُها السَّماواتُ، وعالَمُ الرُّوحانِيّاتِ وأعْظَمُها المَلائِكَةُ، واللَّهُ تَعالى يُقَرِّرُ كَمالَ عَظَمَتِهِ لِأجْلِ نَفاذِ قُدْرَتِهِ وهَيْبَتِهِ في الجُسْمانِيّاتِ، ثُمَّ يُرْدِفُهُ بِنَفاذِ قُدْرَتِهِ واسْتِيلاءِ هَيْبَتِهِ عَلى الرُّوحانِيّاتِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى قالَ في سُورَةِ: ﴿عَمَّ يَتَساءَلُونَ﴾ [النبأ: ١] لَمّا أرادَ تَقْرِيرَ العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ بَدَأ بِذِكْرِ الجُسْمانِيّاتِ، فَقالَ: ﴿رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنهُ خِطابًا﴾ [النبأ: ٣٧] ثُمَّ انْتَقَلَ إلى ذِكْرِ عالَمِ الرُّوحانِيّاتِ، فَقالَ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقالَ صَوابًا﴾ [النبأ: ٣٨] فَكَذَلِكَ القَوْلُ في هَذِهِ الآيَةِ بَيَّنَ كَمالَ عَظَمَتِهِ بِاسْتِيلاءِ هَيْبَتِهِ عَلى الجُسْمانِيّاتِ، فَقالَ: ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ﴾ ثُمَّ انْتَقَلَ إلى ذِكْرِ الرُّوحانِيّاتِ، فَقالَ: ﴿والمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ فَهَذا تَرْتِيبٌ شَرِيفٌ وبَيانٌ باهِرٌ.
واعْلَمْ أنَّ المَوْجُوداتِ عَلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ: مُؤَثِّرٌ لا يَقْبَلُ الأثَرَ، وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وهو أشْرَفُ الأقْسامِ، ومُتَأثِّرٌ لا يُؤَثِّرُ، وهو القابِلُ وهو الجِسْمُ وهو أخَسُّ الأقْسامِ، ومَوْجُودٌ يَقْبَلُ الأثَرَ مِنَ القِسْمِ الأوَّلِ، ويُؤَثِّرُ في القِسْمِ الثّانِي وهو الجَواهِرُ الرُّوحانِيّاتُ المُقَدَّسَةُ، وهو المَرْتَبَةُ المُتَوَسِّطَةُ، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: الجَواهِرُ الرُّوحانِيَّةُ لَها تَعَلُّقانِ: تَعَلُّقٌ بِعالَمِ الجَلالِ والكِبْرِياءِ، وهو تَعَلُّقُ القَبُولِ، فَإنَّ الجَلايا القُدْسِيَّةَ والأضْواءَ الصَّمَدِيَّةَ إذا أشْرَقَتْ عَلى الجَواهِرِ الرُّوحانِيَّةِ اسْتَضاءَتْ جَواهِرُها وأشْرَقَتْ ماهِيّاتُها.
ثُمَّ إنَّ الجَواهِرَ الرُّوحانِيَّةَ إذا اسْتَفادَتْ تِلْكَ القُوى الرُّوحانِيَّةَ، قَوِيَتْ بِها عَلى الِاسْتِيلاءِ عَلى عَوالِمِ الجُسْمانِيّاتِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلَها وجْهانِ: وجْهٌ إلى جانِبِ الكِبْرِياءِ وحَضْرَةِ الجَلالِ، ووَجْهٌ إلى عالَمِ الأجْسامِ، والوَجْهُ الأوَّلُ أشْرَفُ مِنَ الثّانِي، إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ:
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","عۤسۤقۤ","كَذَ ٰلِكَ یُوحِیۤ إِلَیۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیُّ ٱلۡعَظِیمُ"],"ayah":"كَذَ ٰلِكَ یُوحِیۤ إِلَیۡكَ وَإِلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِكَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق