الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها وما لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَصِيبٍ﴾ ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿تَرى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا كَسَبُوا وهو واقِعٌ بِهِمْ والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ (p-١٣٩)﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ والكافِرُونَ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَوْنَهُ لَطِيفًا بِعِبادِهِ كَثِيرَ الإحْسانِ إلَيْهِمْ بَيَّنَ أنَّهُ لا بُدَّ لَهم مِن أنْ يَسْعَوْا في طَلَبِ الخَيْراتِ وفي الِاحْتِرازِ عَنِ القَبائِحِ فَقالَ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾، قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: إنَّهُ تَعالى سَمّى ما يَعْمَلُهُ العامِلُ مِمّا يَطْلُبُ بِهِ الفائِدَةَ حَرْثًا عَلى سَبِيلِ المَجازِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى أظْهَرَ الفَرْقَ في هَذِهِ الآيَةِ بَيْنَ مَن أرادَ الآخِرَةَ وبَيْنَ مَن أرادَ الدُّنْيا مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ قَدَّمَ مُرِيدَ حَرْثِ الآخِرَةِ في الذِّكْرِ عَلى مُرِيدِ حَرْثِ الدُّنْيا، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى التَّفْضِيلِ، لِأنَّهُ وصَفَهُ بِكَوْنِهِ آخِرَةً، ثُمَّ قَدَّمَهُ في الذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلى قَوْلِهِ ”نَحْنُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ“ .
الثّانِي: أنَّهُ قالَ في مُرِيدِ حَرْثِ الآخِرَةِ ﴿نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾ وقالَ في مُرِيدِ حَرْثِ الدُّنْيا ﴿نُؤْتِهِ مِنها﴾، وكَلِمَةُ ”مِن“ لِلتَّبْعِيضِ، فالمَعْنى أنَّهُ يُعْطِيهِ بَعْضَ ما يَطْلُبُهُ ولا يُؤْتِيهِ كُلَّهُ، وقالَ في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ ﴿عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ﴾ [الإسْراءِ: ١٨] وأقُولُ: البُرْهانُ العَقْلِيُّ مُساعِدٌ عَلى البابَيْنِ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ مَن عَمِلَ لِلْآخِرَةِ وواظَبَ عَلى ذَلِكَ العَمَلِ فَكَثْرَةُ الأعْمالِ سَبَبٌ لِحُصُولِ المَلَكاتِ، فَكُلُّ مَن كانَتْ مُواظَبَتُهُ عَلى تِلْكَ الأعْمالِ أكْثَرَ كانَ مَيْلُ قَلْبِهِ إلى طَلَبِ الآخِرَةِ أكْثَرَ، وكُلَّما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ الِابْتِهاجُ أعْظَمَ والسَّعاداتُ أكْثَرَ، وذَلِكَ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾، وأمّا طالِبُ الدُّنْيا فَكُلَّما كانَتْ مُواظَبَتُهُ عَلى أعْمالِ ذَلِكَ الطَّلَبِ أكْثَرَ - كانَتْ رَغْبَتُهُ في الفَوْزِ بِالدُّنْيا أكْثَرَ، ومَيْلُهُ إلَيْها أشَدَّ، وإذا كانَ المَيْلُ أبَدًا في التَّزايُدِ، وكانَ حُصُولُ المَطْلُوبِ باقِيًا عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ كانَ الحِرْمانُ لازِمًا لا مَحالَةَ.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ في طالِبِ حَرْثِ الآخِرَةِ ﴿نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾ ولَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ تَعالى يُعْطِيهِ الدُّنْيا أمْ لا، بَلْ بَقِيَ الكَلامُ ساكِتًا عَنْهُ نَفْيًا وإثْباتًا، وأمّا طالِبُ حَرْثِ الدُّنْيا فَإنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ لا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِن نَصِيبِ الآخِرَةِ عَلى التَّنْصِيصِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى التَّفاوُتِ العَظِيمِ؛ كَأنَّهُ يَقُولُ: الآخِرَةُ أصْلٌ والدُّنْيا تَبَعٌ، فَواجِدُ الأصْلِ يَكُونُ واجِدًا لِلتَّبَعِ بِقَدَرِ الحاجَةِ، إلّا أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الدُّنْيا أخَسُّ مِن أنْ يَقْرِنَ ذِكْرَها بِذِكْرِ الآخِرَةِ.
والرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ طالِبَ الآخِرَةِ يُزادُ في مَطْلُوبِهِ، وبَيَّنَ أنَّ طالِبَ الدُّنْيا يُعْطى بَعْضَ مَطْلُوبِهِ مِنَ الدُّنْيا، وأمّا في الآخِرَةِ فَإنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ نُصِيبٌ البَتَّةَ، فَبَيَّنَ بِالكَلامِ الأوَّلِ أنَّ طالِبَ الآخِرَةِ يَكُونُ حالُهُ أبَدًا في التَّرَقِّي والتَّزايُدِ، وبَيَّنَ بِالكَلامِ الثّانِي أنَّ طالِبَ الدُّنْيا يَكُونُ حالُهُ في المَقامِ الأوَّلِ في النُّقْصانِ، وفي المَقامِ الثّانِي في البُطْلانِ التّامِّ.
الخامِسُ: أنَّ الآخِرَةَ نَسِيئَةٌ، والدُّنْيا نَقْدٌ، والنَّسِيئَةُ مَرْجُوحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّقْدِ؛ لِأنَّ النّاسَ يَقُولُونَ: النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ هَذِهِ القَضِيَّةَ انْعَكَسَتْ بِالنِّسْبَةِ إلى أحْوالِ الآخِرَةِ والدُّنْيا، فالآخِرَةُ وإنْ كانَتْ نَسِيئَةً إلّا أنَّها مُتَوَجِّهَةٌ لِلزِّيادَةِ والدَّوامِ، فَكانَتْ أفْضَلَ وأكْمَلَ، والدُّنْيا وإنْ كانَتْ نَقْدًا إلّا أنَّها مُتَوَجِّهَةٌ إلى النُّقْصانِ، ثُمَّ إلى البُطْلانِ، فَكانَتْ أخَسَّ وأرْذَلَ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ حالَ الآخِرَةِ لا يُناسِبُ حالَ الدُّنْيا البَتَّةَ، وأنَّهُ لَيْسَ في الدُّنْيا مِن أحْوالِ الآخِرَةِ إلّا مُجَرَّدُ الِاسْمِ؛ كَما هو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ.
السّادِسُ: الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ مَنافِعَ الآخِرَةِ والدُّنْيا لَيْسَتْ حاضِرَةً، بَلْ لا بُدَّ في البابَيْنِ مِنَ الحَرْثِ، والحَرْثُ لا يَتَأتّى إلّا بِتَحَمُّلِ المَشاقِّ في البَذْرِ، ثُمَّ التَّسْقِيَةِ والتَّنْمِيَةِ والحَصْدِ، ثُمَّ التَّنْقِيَةِ، فَلَمّا سَمّى اللَّهُ كِلا القِسْمَيْنِ حَرْثًا عَلِمْنا أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما لا يَحْصُلُ إلّا بِتَحَمُّلِ المَتاعِبِ والمَشاقِّ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّ مَصِيرَ الآخِرَةِ إلى الزِّيادَةِ والكَمالِ، وأنَّ مَصِيرَ الدُّنْيا (p-١٤٠)إلى النُّقْصانِ ثُمَّ الفَناءِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إذا كانَ لا بُدَّ في القِسْمَيْنِ جَمِيعًا مِن تَحَمُّلِ مَتاعِبِ الحِراثَةِ والتَّسْقِيَةِ والتَّنْمِيَةِ والحَصْدِ والتَّنْقِيَةِ، فَلِأنْ تُصْرَفَ هَذِهِ المَتاعِبُ إلى ما يَكُونُ في التَّزايُدِ والبَقاءِ أوْلى مِن صَرْفِها إلى ما يَكُونُ في النُّقْصانِ والِانْقِضاءِ والفَناءِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ ﴿نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: المَعْنى أنّا نَزِيدُ في تَوْفِيقِهِ وإعانَتِهِ وتَسْهِيلِ سُبُلِ الخَيْراتِ والطّاعاتِ عَلَيْهِ، وقالَ مُقاتِلٌ: ﴿نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ﴾ بِتَضْعِيفِ الثَّوابِ، قالَ تَعالى: ﴿لِيُوَفِّيَهم أُجُورَهم ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ﴾ [فاطِرٍ: ٣٠] وعَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن أصْبَحَ، وهَمُّهُ الدُّنْيا - شَتَّتَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ هَمَّهُ، وجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ولَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيا إلى ما كُتِبَ لَهُ، ومَن أصْبَحَ هَمُّهُ الآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ هَمَّهُ وجَعَلَ غِناهُ في قَلْبِهِ وأتَتْهُ الدُّنْيا وهي راغِمَةٌ عَنْ أنْفِها» أوْ لَفْظٌ يَقْرُبُ مِن أنْ يَكُونَ هَذا مَعْناهُ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ظاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن صَلّى لِأجْلِ طَلَبِ الثَّوابِ أوْ لِأجْلِ دَفْعِ العِقابِ فَإنَّهُ تَصِحُّ صَلاتُهُ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّها لا تَصِحُّ. والجَوابُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿مَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ﴾ والحَرْثُ لا يَتَأتّى إلّا بِإلْقاءِ البَذْرِ الصَّحِيحِ في الأرْضِ، والبَذْرُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ الخَيْراتِ والسَّعاداتِ لَيْسَ إلّا عُبُودِيَّةَ اللَّهِ تَعالى.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ أصْحابُنا: إذا تَوَضَّأ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، قالُوا: لِأنَّ هَذا الإنْسانَ ما أرادَ حَرْثَ الآخِرَةِ، لِأنَّ الكَلامَ فِيما إذا كانَ غافِلًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الآخِرَةِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ لَهُ نُصِيبٌ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالآخِرَةِ، والخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلاةِ مِن بابِ مَنافِعِ الآخِرَةِ، فَوَجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ في الوُضُوءِ العارِي عَنِ النِّيَّةِ.
واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا بَيَّنَ القانُونَ الأعْظَمَ والقِسْطاسَ الأقْوَمَ في أعْمالِ الآخِرَةِ والدُّنْيا - أرْدَفَهُ بِالتَّنْبِيهِ عَلى ما هو الأصْلُ في بابِ الضَّلالَةِ والشَّقاوَةِ، فَقالَ: ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾، ومَعْنى الهَمْزَةِ في ”أمْ“ التَّقْرِيرُ والتَّقْرِيعُ، و(شُرَكاؤُهم) شَياطِينُهُمُ الَّذِينَ زَيَّنُوا الشِّرْكَ وإنْكارَ البَعْثِ والعَمَلَ لِلدُّنْيا؛ لِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ غَيْرَها، وقِيلَ: (شُرَكاؤُهم) أوْثانُهم، وإنَّما أُضِيفَتْ إلَيْهِمْ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوها شُرَكاءَ لِلَّهِ، ولَمّا كانَ سَبَبًا لِضَلالَتِهِمْ جُعِلَتْ شارِعَةً لِدِينِ الضَّلالَةِ؛ كَما قالَ إبْراهِيمُ ﷺ: ﴿رَبِّ إنَّهُنَّ أضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ﴾ [إبْراهِيمَ: ٣٦]، وقَوْلُهُ ﴿شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ يَعْنِي أنَّ تِلْكَ الشَّرائِعَ بِأسْرِها عَلى ضِدَّيْنِ لِلَّهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ﴾ أيِ القَضاءُ السّابِقُ بِتَأْخِيرِ الجَزاءِ، أوْ يُقالُ: ولَوْلا الوَعْدُ بِأنَّ الفَصْلَ أنْ يَكُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ بَيْنَ الكافِرِينَ والمُؤْمِنِينَ، أوْ بَيْنَ المُشْرِكِينَ وشُرَكائِهِمْ ﴿وإنَّ الظّالِمِينَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ وقَرَأ بَعْضُهم: ”وأنَّ“ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ في ”إنَّ“؛ عَطْفًا لَهُ عَلى ”كَلِمَةُ الفَصْلِ“، يَعْنِي: ﴿ولَوْلا كَلِمَةُ الفَصْلِ﴾ وأنَّ تَقْرِيرَهُ تَعْذِيبَ الظّالِمِينَ - في الآخِرَةِ ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ في الدُّنْيا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أحْوالَ أهْلِ العِقابِ وأحْوالَ أهْلِ الثَّوابِ.
فالأوَّلُ: فَهو قَوْلُهُ ﴿تَرى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ﴾ خائِفِينَ خَوْفًا شَدِيدًا ﴿مِمّا كَسَبُوا﴾ مِنَ السَّيِّئاتِ ﴿وهُوَ واقِعٌ بِهِمْ﴾ يُرِيدُ أنَّ وبالَهُ واقِعٌ بِهِمْ، سَواءٌ أشْفَقُوا أوْ لَمْ يُشْفِقُوا.
وأمّا الثّانِي: فَهو أحْوالُ أهْلِ الثَّوابِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ﴾ لِأنَّ رَوْضَةَ الجَنَّةِ أطْيَبُ بُقْعَةٍ فِيها، وفي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الفُسّاقَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ كُلُّهم في الجَنَّةِ، إلّا أنَّهُ خَصَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِرَوْضاتِ الجَنّاتِ، وهي البِقاعُ الشَّرِيفَةُ مِنَ الجَنَّةِ، فالبِقاعُ الَّتِي دُونَ تِلْكَ الرَّوْضاتِ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً بِمَن كانَ دُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، ثُمَّ قالَ: ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ (p-١٤١)وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ الأشْياءِ حاضِرَةٌ عِنْدَهُ مُهَيَّأةٌ، ثُمَّ قالَ تَعالى في تَعْظِيمِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ ﴿ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾، وأصْحابُنا اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الثَّوابَ غَيْرُ واجِبٍ عَلى اللَّهِ، وإنَّما يَحْصُلُ بِطَرِيقِ الفَضْلِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، قالَ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ في رَوْضاتِ الجَنّاتِ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ رَوْضاتِ الجَنّاتِ ووِجْدانَ كُلِّ ما يُرِيدُونَهُ إنَّما كانَ جَزاءً عَلى الإيمانِ والأعْمالِ الصّالِحاتِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ وهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّ الجَزاءَ المُرَتَّبَ عَلى العَمَلِ إنَّما حَصَلَ بِطَرِيقِ الفَضْلِ لا بِطَرِيقِ الِاسْتِحْقاقِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”يُبَشِّرُ“ مِن بَشَّرَهُ، و”يُبْشِرُ“ مِن أبْشَرَهُ، و”يَبْشُرُ“ مِن بَشَرَهُ.
واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآياتِ دالَّةٌ عَلى تَعْظِيمِ حالِ الثَّوابِ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ رَتَّبَ عَلى الإيمانِ وعَمَلِ الصّالِحاتِ رَوْضاتِ الجَنّاتِ، والسُّلْطانُ الَّذِي هو أعْظَمُ المَوْجُوداتِ وأكْرَمُهم إذا رَتَّبَ عَلى أعْمالٍ شاقَّةٍ جَزاءً، دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ ذَلِكَ الجَزاءَ قَدْ بَلَغَ إلى حَيْثُ لا يَعْلَمُ كُنْهَهُ إلّا اللَّهُ تَعالى.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾، وقَوْلُهُ ﴿لَهم ما يَشاءُونَ﴾ يَدْخُلُ في بابِ غَيْرِ المُتَناهِي لِأنَّهُ لا دَرَجَةَ إلّا والإنْسانُ يُرِيدُ ما هو أعْلى مِنها.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ والَّذِي يَحْكُمُ بِكِبَرِهِ مَن لَهُ الكِبْرِياءُ والعَظَمَةُ عَلى الإطْلاقِ كانَ في غايَةِ الكِبَرِ.
الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى أعادَ البِشارَةَ عَلى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ فَقالَ: ﴿الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ﴾ وذَلِكَ يَدُلُّ أيْضًا عَلى غايَةِ العَظَمَةِ، نَسْألُ اللَّهَ الفَوْزَ بِها والوُصُولَ إلَيْها.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أوْحى إلى مُحَمَّدٍ ﷺ هَذا الكِتابَ الشَّرِيفَ العالِيَ وأوْدَعَ فِيهِ ثَلاثَةَ الأقْسامِ الدَّلائِلَ، وأصْنافَ التَّكالِيفِ، ورَتَّبَ عَلى الطّاعَةِ الثَّوابَ، وعَلى المَعْصِيَةِ العِقابَ، بَيَّنَ أنِّي لا أطْلُبُ مِنكم بِسَبَبِ هَذا التَّبْلِيغِ نَفْعًا عاجِلًا ومَطْلُوبًا حاضِرًا، لِئَلّا يَتَخَيَّلَ جاهِلٌ أنَّ مَقْصُودَ مُحَمَّدٍ ﷺ مِن هَذا التَّبْلِيغِ المالُ والجاهُ، فَقالَ: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرَ النّاسُ في هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثَةَ أقْوالٍ:
الأوَّلُ: قالَ الشَّعْبِيُّ: أكْثَرَ النّاسُ عَلَيْنا في هَذِهِ الآيَةِ، فَكَتَبْنا إلى ابْنِ عَبّاسٍ نَسْألُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ واسِطَ النَّسَبِ مِن قُرَيْشٍ، لَيْسَ بَطْنٌ مِن بُطُونِهِمْ إلّا وقَدْ ولَدَهُ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿قُلْ لا أسْألُكُمْ﴾ عَلى ما أدْعُوكم إلَيْهِ ﴿أجْرًا إلّا﴾ أنْ تَوَدُّونِي لِقَرابَتِي مِنكم، والمَعْنى: أنَّكم قَوْمِي وأحَقُّ مَن أجابَنِي وأطاعَنِي، فَإذا قَدْ أبَيْتُمْ ذَلِكَ، فاحْفَظُوا حَقَّ القُرْبى ولا تُؤْذُونِي ولا تُهَيِّجُوا عَلَيَّ.
والقَوْلُ الثّانِي: رَوى الكَلْبِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - قالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ كانَتْ تَعْرُوهُ نَوائِبُ وحُقُوقٌ، ولَيْسَ في يَدِهِ سَعَةٌ، فَقالَ الأنْصارُ: إنَّ هَذا الرَّجُلَ قَدْ هَداكُمُ اللَّهُ عَلى يَدِهِ، وهو ابْنُ أُخْتِكم، وجارُكم في بَلَدِكم، فاجْمَعُوا لَهُ طائِفَةً مِن أمْوالِكم، فَفَعَلُوا، ثُمَّ أتَوْهُ بِهِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا»﴾ أيْ: عَلى الإيمانِ؛ إلّا أنْ تَوَدُّوا أقارِبِي، فَحَثَّهم عَلى مَوَدَّةِ أقارِبِهِ.
(p-١٤٢)القَوْلُ الثّالِثُ: ما ذَكَرَهُ الحَسَنُ، فَقالَ: إلّا أنْ تَوَدُّوا إلى اللَّهِ فِيما يُقَرِّبُكم إلَيْهِ مِنَ التَّوَدُّدِ إلَيْهِ بِالعَمَلِ الصّالِحِ، فالقُرْبى عَلى القَوْلِ الأوَّلِ القَرابَةُ الَّتِي هي بِمَعْنى الرَّحِمِ، وعَلى الثّانِي القَرابَةُ الَّتِي هي بِمَعْنى الأقارِبِ، وعَلى الثّالِثِ هي ”فُعْلى“ مِنَ القُرْبِ والتَّقْرِيبِ، فَإنْ قِيلَ: الآيَةُ مُشْكِلَةٌ، ذَلِكَ لِأنَّ طَلَبَ الأجْرِ عَلى تَبْلِيغِ الوَحْيِ لا يَجُوزُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ أكْثَرِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - أنَّهم صَرَّحُوا بِنَفْيِ طَلَبِ الأُجْرَةِ، فَذَكَرَ في قِصَّةِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٠٩] وكَذا في قِصَّةِ هُودٍ وصالِحٍ، وفي قِصَّةِ لُوطٍ وشُعَيْبٍ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ورَسُولُنا أفْضَلُ مِن سائِرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَكانَ بِأنْ لا يَطْلُبَ الأجْرَ عَلى النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ أوْلى.
الثّانِي: أنَّهُ ﷺ صَرَّحَ بِنَفْيِ طَلَبِ الأجْرِ في سائِرِ الآياتِ، فَقالَ: ﴿قُلْ ما سَألْتُكم مِن أجْرٍ فَهو لَكُمْ﴾ [سَبَأٍ: ٤٧] وقالَ: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص: ٨٦] .
الثّالِثُ: العَقْلُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وذَلِكَ لِأنَّ ذَلِكَ التَّبْلِيغَ كانَ واجِبًا عَلَيْهِ، قالَ تَعالى: ﴿بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ [المائِدَةِ: ٦٧] وطَلَبُ الأجْرِ عَلى أداءِ الواجِبِ لا يَلِيقُ بِأقَلِّ النّاسِ فَضْلًا عَنْ أعْلَمِ العُلَماءِ.
الرّابِعُ: أنَّ النُّبُوَّةَ أفْضَلُ مِنَ الحِكْمَةِ، وقَدْ قالَ تَعالى في صِفَةِ الحِكْمَةِ: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البَقَرَةِ: ٢٦٩]، وقالَ في صِفَةِ الدُّنْيا: ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ﴾ [النِّساءِ: ٧٧]، فَكَيْفَ يَحْسُنُ في العَقْلِ مُقابَلَةُ أشْرَفِ الأشْياءِ بِأخَسِّ الأشْياءِ.
الخامِسُ: أنَّ طَلَبَ الأجْرِ كانَ يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وذَلِكَ يُنافِي القَطْعَ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ أنْ يَطْلُبَ أجْرًا البَتَّةَ عَلى التَّبْلِيغِ والرِّسالَةِ، وظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّهُ طَلَبَ أجْرًا عَلى التَّبْلِيغِ والرِّسالَةِ، وهو المَوَدَّةُ في القُرْبى هَذا تَقْرِيرُ السُّؤالِ، والجَوابُ عَنْهُ: أنَّهُ لا نِزاعَ في أنَّهُ لا يَجُوزُ طَلَبُ الأجْرِ عَلى التَّبْلِيغِ والرِّسالَةِ، بَقِيَ قَوْلُهُ ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ نَقُولُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ هَذا مِن بابِ قَوْلِهِ:
؎ولا عَيْبَ فِيْهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم بِها مِن قِراعِ الدّارِعِينَ فُلُولُ
المَعْنى: أنا لا أطْلُبُ مِنكم إلّا هَذا. وهَذا في الحَقِيقَةِ لَيْسَ أجْرًا؛ لِأنَّ حُصُولَ المَوَدَّةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أمْرٌ واجِبٌ، قالَ تَعالى: ﴿والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِناتُ بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ [التَّوْبَةِ: ٧١] وقالَ ﷺ: «المُؤْمِنُونَ كالبُنْيانِ يَشُدُّ بَعْضُهم بَعْضًا»، والآياتُ والأخْبارُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ، وإذا كانَ حُصُولُ المَوَدَّةِ بَيْنَ جُمْهُورِ المُسْلِمِينَ واجِبًا، فَحُصُولُها في حَقِّ أشْرَفِ المُسْلِمِينَ وأكابِرِهِمْ أوْلى، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾، تَقْدِيرُهُ: والمَوَدَّةُ في القُرْبى لَيْسَتْ أجْرًا، فَرَجَعَ الحاصِلُ إلى أنَّهُ لا أجْرَ البَتَّةَ.
الوَجْهُ الثّانِي في الجَوابِ: أنَّ هَذا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ، وتَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا﴾ . ثُمَّ قالَ: ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ أيْ: لَكِنْ أُذَكِّرُكم قَرابَتِي مِنكم، وكَأنَّهُ في اللَّفْظِ أجْرٌ، ولَيْسَ بِأجْرٍ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: نَقَلَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ شَهِيدًا. ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ مَغْفُورًا لَهُ، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ تائِبًا، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلَ الإيمانِ، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ بَشَّرَهُ مَلَكُ المَوْتِ بِالجَنَّةِ، ثُمَّ مُنْكَرٌ ونَكِيرٌ، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ يُزَفُّ إلى الجَنَّةِ كَما تُزَفُّ العَرُوسُ إلى بَيْتِ زَوْجِها، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ فُتِحَ لَهُ في قَبْرِهِ بابانِ إلى الجَنَّةِ، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ (p-١٤٣)جَعَلَ اللَّهُ قَبْرَهُ مَزارَ مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ، ألا ومَن ماتَ عَلى حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ عَلى السُّنَّةِ والجَماعَةِ، ألا ومَن ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، ألا ومَن ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ ماتَ كافِرًا، ألا ومَن ماتَ عَلى بُغْضِ آلِ مُحَمَّدٍ لَمْ يَشُمَّ رائِحَةَ الجَنَّةِ» هَذا هو الَّذِي رَواهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“، وأنا أقُولُ: آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ هُمُ الَّذِينَ يَؤُولُ أمْرُهم إلَيْهِ، فَكُلُّ مَن كانَ أمْرُهم إلَيْهِ أشَدَّ وأكْمَلَ كانُوا هُمُ الآلَ، ولا شَكَّ أنَّ فاطِمَةَ وعَلِيًّا والحَسَنَ والحُسَيْنَ كانَ التَّعَلُّقُ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أشَدَّ التَّعَلُّقاتِ، وهَذا كالمَعْلُومِ بِالنَّقْلِ المُتَواتِرِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونُوا هُمُ الآلَ، وأيْضًا اخْتَلَفَ النّاسُ في الآلِ، فَقِيلَ: هُمُ الأقارِبُ، وقِيلَ: هم أُمَّتُهُ، فَإنْ حَمَلْناهُ عَلى القَرابَةِ فَهُمُ الآلُ، وإنْ حَمَلْناهُ عَلى الأُمَّةِ الَّذِينَ قَبِلُوا دَعْوَتَهُ فَهم أيْضًا آلٌ، فَثَبَتَ أنَّ عَلى جَمِيعِ التَّقْدِيراتِ هُمُ الآلُ، وأمّا غَيْرُهم فَهَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ لَفْظِ الآلِ ؟ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ. ورَوى صاحِبُ ”الكَشّافِ“ أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، مَن قَرابَتُكَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ وجَبَتْ عَلَيْنا مَوَدَّتُهم ؟ فَقالَ: عَلِيٌّ وفاطِمَةُ وابْناهُما» فَثَبَتَ أنَّ هَؤُلاءِ الأرْبَعَةَ أقارِبُ النَّبِيِّ ﷺ وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يَكُونُوا مَخْصُوصِينَ بِمَزِيدِ التَّعْظِيمِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ ما سَبَقَ.
الثّانِي: لا شَكَّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُحِبُّ فاطِمَةَ - عَلَيْها السَّلامُ- قالَ ﷺ: «فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي ما يُؤْذِيها» وثَبَتَ بِالنَّقْلِ المُتَواتِرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ كانَ يُحِبُّ عَلِيًّا والحَسَنَ والحُسَيْنَ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وجَبَ عَلى كُلِّ الأُمَّةِ مِثْلُهُ؛ لِقَوْلِهِ ﴿واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ [الأعْرافِ: ١٥٨] ولِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ ولِقَوْلِهِ ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٣١] ولِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحْزابِ: ٢١]
الثّالِثُ: أنَّ الدُّعاءَ لِلْآلِ مَنصِبٌ عَظِيمٌ، ولِذَلِكَ جُعِلَ هَذا الدُّعاءُ خاتِمَةَ التَّشَهُّدِ في الصَّلاةِ، وهو قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى آلِ مُحَمَّدٍ وارْحَمْ مُحَمَّدًا وآلَ مُحَمَّدٍ، وهَذا التَّعْظِيمُ لَمْ يُوجَدْ في حَقِّ غَيْرِ الآلِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُبَّ آلِ مُحَمَّدٍ واجِبٌ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
؎يا راكِبًا قِفْ بِالمُحَصَّبِ مِن مِنًى ∗∗∗ واهْتِفْ بِساكِنِ خَيْفِها والنّاهِضِ
؎سَحَرًا إذا فاضَ الحَجِيجُ إلى مِنًى ∗∗∗ فَيْضًا كَما نَظْمِ الفُراتِ الفائِضِ
؎إنْ كانَ رَفْضًا حُبُّ آلِ مُحَمَّدٍ ∗∗∗ فَلْيَشْهَدِ الثَّقَلانِ أنِّي رافِضِي
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ فِيهِ مَنصِبٌ عَظِيمٌ لِلصَّحابَةِ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ [الواقِعَةِ: ١٠] فَكُلُّ مَن أطاعَ اللَّهَ كانَ مُقَرَّبًا عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾، والحاصِلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى وُجُوبِ حُبِّ آلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وحُبِّ أصْحابِهِ، وهَذا المَنصِبُ لا يَسْلَمُ إلّا عَلى قَوْلِ أصْحابِنا أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ حُبِّ العِتْرَةِ والصَّحابَةِ، وسَمِعْتُ بَعْضَ المَذْكُورِينَ، قالَ: إنَّهُ ﷺ قالَ: «مَثَلُ أهْلِ بَيْتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ مَن رَكِبَ فِيها نَجا»، وقالَ ﷺ: «أصْحابِي كالنُّجُومِ بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ونَحْنُ الآنَ في بَحْرِ التَّكْلِيفِ، وتَضْرِبُنا أمْواجُ الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ، وراكِبُ البَحْرِ يَحْتاجُ إلى أمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: السَّفِينَةُ الخالِيَةُ عَنِ العُيُوبِ والثَّقْبِ.
والثّانِي: الكَواكِبُ الظّاهِرَةُ الطّالِعَةُ النَّيِّرَةُ، فَإذا رَكِبَ تِلْكَ السَّفِينَةَ ووَقَعَ نَظَرُهُ عَلى تِلْكَ الكَواكِبِ الظّاهِرَةِ كانَ رَجاءُ السَّلامَةِ غالِبًا، فَكَذَلِكَ رَكِبَ أصْحابُنا - أهْلُ السُّنَّةِ - سَفِينَةَ حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ، ووَضَعُوا أبْصارَهم عَلى نُجُومِ الصَّحابَةِ، فَرَجَوْا مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَفُوزُوا بِالسَّلامَةِ والسَّعادَةِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ.
* * *
(p-١٤٤)ولْنَرْجِعْ إلى التَّفْسِيرِ: أوْرَدَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَلى نَفْسِهِ سُؤالًا، فَقالَ: هَلّا قِيلَ إلّا مَوَدَّةَ القُرْبى، أوْ إلّا مَوَدَّةً لِلْقُرْبى، وما مَعْنى قَوْلِهِ ﴿إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى﴾ ؟ وأجابَ عَنْهُ بِأنْ قالَ: جَعَلُوا مَكانًا لِلْمَوَدَّةِ ومَقَرًّا لَها؛ كَقَوْلِهِ: لِي في آلِ فُلانٍ مَوَدَّةٌ، ولِي فِيهِمْ هَوًى وحُبٌّ شَدِيدٌ، تُرِيدُ: أُحِبُّهم وهم مَكانُ حُبِّي ومَحِلُّهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْنًا﴾ قِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والظّاهِرُ العُمُومُ في أيِّ حَسَنَةٍ كانَتْ، إلّا أنَّها لَمّا ذُكِرَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ المَوَدَّةِ في القُرْبى دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَقْصُودَ التَّأْكِيدُ في تِلْكَ المَوَدَّةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ والشَّكُورُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مَجازٌ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى يُحْسِنُ إلى المُطِيعِينَ في إيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِمْ، وفي أنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّفْضِيلِ.
وقالَ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ واعْلَمْ أنَّ الكَلامَ في أوَّلِ السُّورَةِ إنَّما ابْتُدِئَ في تَقْرِيرِ أنَّ هَذا الكِتابَ إنَّما حَصَلَ بِوَحْيِ اللَّهِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إلَيْكَ وإلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [الشُّورى: ٣] واتَّصَلَ الكَلامُ في تَقْرِيرِ هَذا المَعْنى، وتَعَلَّقَ البَعْضُ بِالبَعْضِ حَتّى وصَلَ إلى هَهُنا، ثُمَّ حَكى هَهُنا شُبْهَةَ القَوْمِ، وهي قَوْلُهم: إنَّ هَذا لَيْسَ وحْيًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَقالَ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: ”أمْ“ مُنْقَطِعَةٌ، ومَعْنى الهَمْزَةِ نَفْسُ التَّوْبِيخِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: أيَقَعُ في قُلُوبِهِمْ ويَجْرِي في ألْسِنَتِهِمْ أنْ يَنْسُبُوا مِثْلَهُ إلى الِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ، الَّذِي هو أقْبَحُ أنْواعِ الفِرْيَةِ وأفْحَشُها، ثُمَّ أجابَ عَنْهُ بِأنْ قالَ: ﴿فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قالَ مُجاهِدٌ: يَرْبِطْ عَلى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ عَلى أذاهم حَتّى لا يَشُقَّ عَلَيْكَ قَوْلُهم ”إنَّهُ مُفْتَرٍ كَذّابٌ“ .
والثّانِي: يَعْنِي بِهَذا الكَلامِ أنَّهُ إنْ يَشَأِ اللَّهُ يَجْعَلْكَ مِنَ المَخْتُومِ عَلى قُلُوبِهِمْ حَتّى يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ الكَذِبَ، فَإنَّهُ لا يَجْتَرِئُ عَلى افْتِراءِ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ إلّا مَن كانَ في مِثْلِ هَذِهِ الحالَةِ، والمَقْصُودُ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ المُبالَغَةُ في تَقْرِيرِ الِاسْتِبْعادِ، ومِثالُهُ أنْ يَنْسُبَ رَجُلٌ بَعْضَ الأُمَناءِ إلى الخِيانَةِ، فَيَقُولُ الأمِينُ: لَعَلَّ اللَّهَ خَذَلَنِي، لَعَلَّ اللَّهَ أعْمى قَلْبِي، وهو لا يُرِيدُ إثْباتَ الخِذْلانِ وعَمى القَلْبِ لِنَفْسِهِ، وإنَّما يُرِيدُ اسْتِبْعادَ صُدُورِ الخِيانَةِ عَنْهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ويَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ﴾ أيْ: ومِن عادَةِ اللَّهِ إبْطالُ الباطِلِ وتَقْرِيرُ الحَقِّ، فَلَوْ كانَ مُحَمَّدٌ مُبْطِلًا كَذّابًا لَفَضَحَهُ اللَّهُ ولَكَشَفَ عَنْ باطِلِهِ، ولَما أيَّدَهُ بِالقُوَّةِ والنُّصْرَةِ، ولَمّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّهُ لَيْسَ مِنَ الكاذِبِينَ المُفْتَرِينَ عَلى اللَّهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا وعْدًا مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ بِأنَّهُ يَمْحُو الباطِلَ الَّذِي هم عَلَيْهِ مِنَ البَهْتِ والفِرْيَةِ والتَّكْذِيبِ، ويُثْبِتُ الحَقَّ الَّذِي كانَ مُحَمَّدٌ ﷺ عَلَيْهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ أيْ: إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما في صَدْرِكَ وصُدُورِهِمْ، فَيَجْرِي الأمْرُ عَلى حَسَبِ ذَلِكَ، وعَنْ قَتادَةَ: يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ يُنْسِيكَ القُرْآنَ، ويَقْطَعُ عَنْكَ الوَحْيَ، بِمَعْنى: لَوِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ لَفَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ ثُمَّ بَرَّأ رَسُولَهُ مِمّا أضافُوهُ إلَيْهِ مِن هَذا، وكانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهم قَدِ اسْتَحَقُّوا بِهَذِهِ الفِرْيَةِ عِقابًا عَظِيمًا، لا جَرَمَ نَدَبَهُمُ اللَّهُ عَلى التَّوْبَةِ وعَرَّفَهم أنَّهُ يَقْبَلُها مِن كُلِّ مُسِيءٍ وإنْ عَظُمَتْ إساءَتُهُ، فَقالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ وفي هَذِهِ الآيَةِ مَسائِلُ:
(p-١٤٥)المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: يُقالُ قَبِلْتُ مِنهُ الشَّيْءَ وقَبِلْتُهُ عَنْهُ، فَمَعْنى قَبِلْتُهُ مِنهُ أخَذْتُهُ مِنهُ وجَعَلْتُهُ مَبْدَأ قَبُولٍ ومَنشَأهُ، ومَعْنى قَبِلْتُهُ عَنْهُ أخَذْتُهُ وأثْبَتُّهُ عَنْهُ، وقَدْ سَبَقَ البَحْثُ المُسْتَقْصى عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وأقَلُّ ما لا بُدَّ مِنهُ النَّدَمُ عَلى الماضِي والتَّرْكُ في الحالِ والعَزْمُ عَلى أنْ لا يَعُودَ إلَيْهِ في المُسْتَقْبَلِ، ورَوى جابِرٌ أنَّ أعْرابِيًّا دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ، وكَبَّرَ، فَلَمّا فَرَغَ مِن صَلاتِهِ قالَ لَهُ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: يا هَذا إنَّ سُرْعَةَ اللِّسانِ بِالِاسْتِغْفارِ تَوْبَةُ الكَذّابِينَ، فَتَوْبَتُكَ تَحْتاجُ إلى تَوْبَةٍ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وما التَّوْبَةُ ؟ فَقالَ: اسْمٌ يَقَعُ عَلى سِتَّةِ أشْياءَ: عَلى الماضِي مِنَ الذُّنُوبِ النَّدامَةُ، ولِتَضْيِيعِ الفَرائِضِ الإعادَةُ، ورَدُّ المَظالِمِ، وإذابَةُ النَّفْسِ في الطّاعَةِ؛ كَما رَبَّيْتَها في المَعْصِيَةِ، وإذاقَةُ النَّفْسِ مَرارَةَ الطّاعَةِ كَما أذَقْتَها حَلاوَةَ المَعْصِيَةِ، والبُكاءُ بَدَلُ كُلِّ ضَحِكٍ ضَحِكْتَهُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: يَجِبُ عَلى اللَّهِ تَعالى عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ، وقالَ أصْحابُنا: لا يَجِبُ عَلى اللَّهِ شَيْءٌ، وكُلُّ ما يَفْعَلُهُ فَإنَّما يَفْعَلُهُ بِالكَرَمِ والفَضْلِ، واحْتَجُّوا عَلى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: إنَّهُ تَعالى تَمَدَّحَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ القَبُولُ واجِبًا لَما حَصَلَ التَّمَدُّحُ العَظِيمُ، ألا تَرى أنَّ مَن مَدَحَ نَفْسَهُ بِأنْ لا يَضْرِبَ النّاسَ ظُلْمًا ولا يَقْتُلَهم غَضَبًا، كانَ ذَلِكَ مَدْحًا قَلِيلًا، أمّا إذا قالَ: إنِّي أُحْسِنُ إلَيْهِمْ مَعَ أنَّ ذَلِكَ لا يَجِبُ عَلَيَّ - كانَ ذَلِكَ مَدْحًا وثَناءً.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنْ يَعْفُوَ عَنِ الكَبائِرِ بَعْدَ الإتْيانِ بِالتَّوْبَةِ، أوِ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ يَعْفُو عَنِ الصَّغائِرِ، أوِ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ يَعْفُو عَنِ الكَبائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ، والأوَّلُ باطِلٌ، وإلّا لَصارَ قَوْلُهُ ﴿ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ عَيْنَ قَوْلِهِ ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ﴾ والتَّكْرارُ خِلافُ الأصْلِ، والثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ ذَلِكَ واجِبٌ، وأداءُ الواجِبِ لا يُتَمَدَّحُ بِهِ، فَبَقِيَ القِسْمُ الثّالِثُ، فَيَكُونُ المَعْنى: أنَّهُ تارَةً يَعْفُو بِواسِطَةِ قَبُولِ التَّوْبَةِ، وتارَةً يَعْفُو ابْتِداءً مِن غَيْرِ تَوْبَةٍ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ويَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ﴾ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ بِالتّاءِ عَلى المُخاطَبَةِ، والباقُونَ بِالياءِ عَلى المُغايَبَةِ، والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُهُ، فَيُثِيبُهُ عَلى حَسَناتِهِ، ويُعاقِبُهُ عَلى سَيِّئاتِهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿ويَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: ”الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ“ رُفِعَ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ، تَقْدِيرُهُ: ويُجِيبُ المُؤْمِنُونَ اللَّهَ فِيما دَعاهم إلَيْهِ.
والثّانِي: مَحَلُّهُ نَصْبٌ، والفاعِلُ مُضْمَرٌ، وهو اللَّهُ، وتَقْدِيرُهُ: ويَسْتَجِيبُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ إلّا أنَّهُ حُذِفَ اللّامُ كَما حُذِفَ في قَوْلِهِ ﴿وإذا كالُوهُمْ﴾ [المُطَفِّفِينَ: ٣] وهَذا الثّانِي أوْلى؛ لِأنَّ الخَبَرَ فِيما قَبْلُ وبَعْدُ عَنِ اللَّهِ؛ لِأنَّ ما قَبْلَ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئاتِ﴾ وما بَعْدَها قَوْلُهُ ﴿ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ فَـ ”يَزِيدُ“ عُطِفَ عَلى ”ويَسْتَجِيبُ“، وعَلى الأوَّلِ: ويُجِيبُ العَبْدَ ويَزِيدُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.
أمّا مَن قالَ: إنَّ الفِعْلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فَفِيهِ وجْهانِ:
أحَدُهُما: ويُجِيبُ المُؤْمِنُونَ رَبَّهم فِيما دَعاهم إلَيْهِ.
والثّانِي: يُطِيعُونَهُ فِيما أمَرَهم بِهِ، والِاسْتِجابَةُ الطّاعَةُ.
وأمّا مَن قالَ: إنَّ الفِعْلَ لِلَّهِ - فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: يُجِيبُ اللَّهُ دُعاءَ المُؤْمِنِينَ ويَزِيدُهم ما طَلَبُوهُ مِن فَضْلِهِ، فَإنْ قالُوا: تَخْصِيصُ المُؤْمِنِينَ بِإجابَةِ الدُّعاءِ هَلْ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يُجِيبُ دُعاءَ الكُفّارِ ؟ قُلْنا: قالَ بَعْضُهم: لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ إجابَةَ الدُّعاءِ تَعْظِيمٌ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالكُفّارِ، وقِيلَ: يَجُوزُ عَلى بَعْضِ الوُجُوهِ، وفائِدَةُ التَّخْصِيصِ أنَّ (p-١٤٦)إجابَةَ دُعاءِ المُؤْمِنِينَ تَكُونُ عَلى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، وإجابَةُ دُعاءِ الكافِرِينَ تَكُونُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْراجِ، ثُمَّ قالَ: ﴿ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ أيْ: يَزِيدُهم عَلى ما طَلَبُوهُ بِالدُّعاءِ ﴿والكافِرُونَ لَهم عَذابٌ شَدِيدٌ﴾ والمَقْصُودُ التَّهْدِيدُ.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["مَن كَانَ یُرِیدُ حَرۡثَ ٱلۡـَٔاخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِی حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ یُرِیدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡیَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ مِن نَّصِیبٍ","أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَـٰۤؤُا۟ شَرَعُوا۟ لَهُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا لَمۡ یَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِیَ بَیۡنَهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","تَرَى ٱلظَّـٰلِمِینَ مُشۡفِقِینَ مِمَّا كَسَبُوا۟ وَهُوَ وَاقِعُۢ بِهِمۡۗ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فِی رَوۡضَاتِ ٱلۡجَنَّاتِۖ لَهُم مَّا یَشَاۤءُونَ عِندَ رَبِّهِمۡۚ ذَ ٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡكَبِیرُ","ذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۗ قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن یَقۡتَرِفۡ حَسَنَةࣰ نَّزِدۡ لَهُۥ فِیهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ شَكُورٌ","أَمۡ یَقُولُونَ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰاۖ فَإِن یَشَإِ ٱللَّهُ یَخۡتِمۡ عَلَىٰ قَلۡبِكَۗ وَیَمۡحُ ٱللَّهُ ٱلۡبَـٰطِلَ وَیُحِقُّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ","وَهُوَ ٱلَّذِی یَقۡبَلُ ٱلتَّوۡبَةَ عَنۡ عِبَادِهِۦ وَیَعۡفُوا۟ عَنِ ٱلسَّیِّـَٔاتِ وَیَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ","وَیَسۡتَجِیبُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَیَزِیدُهُم مِّن فَضۡلِهِۦۚ وَٱلۡكَـٰفِرُونَ لَهُمۡ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ ٱلَّذِی یُبَشِّرُ ٱللَّهُ عِبَادَهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۗ قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰۗ وَمَن یَقۡتَرِفۡ حَسَنَةࣰ نَّزِدۡ لَهُۥ فِیهَا حُسۡنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ شَكُورٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق