الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وذُو عِقابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فاخْتُلِفَ فِيهِ ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهم وإنَّهم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا هَدَّدَ المُلْحِدِينَ في آياتِ اللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ شَرَفَ آياتِ اللَّهِ، وعُلُوَّ دَرَجَةِ كِتابِ اللَّهِ رَجَعَ إلى أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، بِأنْ يَصْبِرَ عَلى أذى قَوْمِهِ وأنْ لا يَضِيقَ قَلْبُهُ بِسَبَبِ ما حَكاهُ عَنْهم في أوَّلِ السُّورَةِ مِن (p-١١٥)أنَّهم ﴿قالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾ [فصلت: ٥] فَقالَ: ﴿ما يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾ وفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: وهو الأقْرَبُ أنَّ المُرادَ ما تَقُولُ لَكَ كُفّارُ قَوْمِكَ إلّا مِثْلَ ما قَدْ قالَ لِلرُّسُلِ كُفّارُ قَوْمِهِمْ مِنَ الكَلِماتِ المُؤْذِيَةِ والمَطاعِنِ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ لِلْمُحِقِّينَ ﴿وذُو عِقابٍ ألِيمٍ﴾ لِلْمُبْطِلِينَ فَفَوِّضْ هَذا الأمْرَ إلى اللَّهِ واشْتَغِلْ بِما أُمِرْتَ بِهِ، وهو التَّبْلِيغُ والدَّعْوَةُ إلى اللَّهِ تَعالى. الثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ ما قالَ اللَّهُ لَكَ إلّا مِثْلَ ما قالَ لِسائِرِ الرُّسُلِ وهو أنَّهُ تَعالى أمَرَكَ وأمَرَ كُلَّ الأنْبِياءِ بِالصَّبْرِ عَلى سَفاهَةِ الأقْوامِ، فَمِن حَقِّهِ أنْ يَرْجُوَهُ أهْلُ طاعَتِهِ ويَخافَهُ أهْلُ مَعْصِيَتِهِ. وقَدْ ظَهَرَ مِن كَلامِنا في تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ، هو ذِكْرُ الأجْوِبَةِ عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾ فَتارَةً يُنَبِّهُ عَلى فَسادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ، وتارَةً يَذْكُرُ الوَعْدَ والوَعِيدَ لِمَن لَمْ يُؤْمِن بِهَذا القُرْآنِ ولِمَن يُعْرِضُ عَنْهُ، وامْتَدَّ الكَلامُ إلى هَذا المَوْضِعِ مِن أوَّلِ السُّورَةِ عَلى التَّرْتِيبِ الحَسَنِ والنَّظْمِ الكامِلِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ جَوابًا آخَرَ عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ﴾ فَقالَ: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أأعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: أأعْجَمِيٌّ بِهَمْزَتَيْنِ عَلى الِاسْتِفْهامِ، والباقُونَ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ ومَدَّةٍ عَلى أصْلِهِمْ في أمْثالِهِ، كَقَوْلِهِ ﴿أأنْذَرْتَهُمْ﴾ [البقرة: ٦] ونَحْوِها عَلى الِاسْتِفْهامِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ، وأمّا القِراءَةُ بِهَمْزَتَيْنِ: فالهَمْزَةُ الأُولى هَمْزَةُ إنْكارٍ، والمُرادُ أنْكَرُوا وقالُوا قُرْآنٌ أعْجَمِيٌّ ورَسُولٌ عَرَبِيٌّ، أوْ مُرْسَلٌ إلَيْهِ عَرَبِيٌّ، وأمّا القِراءَةُ بِغَيْرِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، فالمُرادُ الإخْبارُ بِأنَّ القُرْآنَ أعْجَمِيٌّ والمُرْسَلَ إلَيْهِ عَرَبِيٌّ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: نَقَلُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الكُفّارَ لِأجْلِ التَّعَنُّتِ، قالُوا لَوْ نَزَلَ القُرْآنُ بِلُغَةِ العَجَمِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وعِنْدِي أنَّ أمْثالَ هَذِهِ الكَلِماتِ فِيها حَيْفٌ عَظِيمٌ عَلى القُرْآنِ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي وُرُودَ آياتٍ لا تَعَلُّقَ لِلْبَعْضِ فِيها بِالبَعْضِ، وأنَّهُ يُوجِبُ أعْظَمَ أنْواعِ الطَّعْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ مَعَ التِزامِ مِثْلِ هَذا الطَّعْنِ ادِّعاءُ كَوْنِهِ كِتابًا مُنْتَظِمًا، فَضْلًا عَنِ ادِّعاءِ كَوْنِهِ مُعْجِزًا ؟ بَلِ الحَقُّ عِنْدِي أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها كَلامٌ واحِدٌ، عَلى ما حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِن قَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ وفي آذانِنا وقْرٌ﴾ . وهَذا الكَلامُ أيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وجَوابٌ لَهُ، والتَّقْدِيرُ: أنّا لَوْ أنْزَلْنا هَذا القُرْآنَ بِلُغَةِ العَجَمِ لَكانَ لَهم أنْ يَقُولُوا: كَيْفَ أرْسَلْتَ الكَلامَ العَجَمِيَّ إلى القَوْمِ العَرَبِ، ويَصِحُّ لَهم أنْ يَقُولُوا: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ أيْ مِن هَذا الكَلامِ ﴿وفِي آذانِنا وقْرٌ﴾ مِنهُ لِأنّا لا نَفْهَمُهُ ولا نُحِيطُ بِمَعْناهُ، أمّا لَمّا أنْزَلْنا هَذا الكِتابَ بِلُغَةِ العَرَبِ، وبِألْفاظِهِمْ وأنْتُمْ مِن أهْلِ هَذِهِ اللُّغَةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكُمُ ادِّعاءُ أنَّ قُلُوبَكم في أكِنَّةٍ مِنها، وفي آذانِكم وقْرٌ مِنها، فَظَهَرَ أنّا إذا جَعَلْنا هَذا الكَلامَ جَوابًا عَنْ ذَلِكَ الكَلامِ، بَقِيَتِ السُّورَةُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها عَلى أحْسَنِ وُجُوهِ النَّظْمِ، وأمّا عَلى الوَجْهِ الَّذِي يَذْكُرُهُ النّاسُ فَهو عَجِيبٌ جِدًّا. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ وهو عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ: ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: (p-١١٦)إنَّ هَذا الكَلامَ أرْسَلْتُهُ إلَيْكم بِلُغَتِكم لا بِلُغَةٍ أجْنَبِيَّةٍ عَنْكم، فَلا يُمْكِنُكم أنْ تَقُولُوا إنَّ قُلُوبَنا في أكِنَّةٍ مِنهُ بِسَبَبِ جَهْلِنا بِهَذِهِ اللُّغَةِ، فَبَقِيَ أنْ يُقالَ إنَّ كُلَّ مَن آتاهُ اللَّهُ طَبْعًا مائِلًا إلى الحَقِّ، وقَلْبًا مائِلًا إلى الصِّدْقِ، وهِمَّةً تَدْعُوهُ إلى بَذْلِ الجُهْدِ في طَلَبِ الدِّينِ، فَإنَّ هَذا القُرْآنَ يَكُونُ في حَقِّهِ هُدًى وشِفاءً. أمّا كَوْنُهُ هُدًى فَلِأنَّهُ دَلِيلٌ عَلى الخَيْراتِ ويُرْشِدُ إلى كُلِّ السَّعاداتِ، وأمّا كَوْنُهُ ”شِفاءً“ فَإنَّهُ إذا أمْكَنَهُ الِاهْتِداءُ فَقَدْ حَصَلَ الهُدى، فَذَلِكَ الهُدى شِفاءٌ لَهُ مِن مَرَضِ الكُفْرِ والجَهْلِ، وأمّا مَن كانَ غارِقًا في بَحْرِ الخِذْلانِ، وتائِهًا في مَفاوِزِ الحِرْمانِ، ومَشْغُوفًا بِمُتابَعَةِ الشَّيْطانِ، كانَ هَذا القُرْآنُ في آذانِهِ وقْرًا، كَما قالَ: ﴿وفِي آذانِنا وقْرٌ﴾ [فصلت: ٥] وكانَ القُرْآنُ عَلَيْهِمْ عَمًى كَما قالَ: ﴿ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ [فصلت: ٥] ﴿أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ بِسَبَبِ ذَلِكَ الحِجابِ الَّذِي حالَ بَيْنَ الِانْتِفاعِ بِبَيانِ القُرْآنِ، وكُلُّ مَن أنْصَفَ ولَمْ يَتَعَسَّفْ عَلِمَ أنّا إذا فَسَّرْنا هَذِهِ الآيَةَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ صارَتْ هَذِهِ السُّورَةُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها كَلامًا واحِدًا مُنْتَظِمًا مَسُوقًا نَحْوَ غَرَضٍ واحِدٍ. فَيَكُونُ هَذا التَّفْسِيرُ أوْلى مِمّا ذَكَرُوهُ، وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ عَلى المَصْدَرِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ عَمٍ عَلى النَّعْتِ، قالَ أبُو عُبَيْدٍ: والأوَّلُ هو الوَجْهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿هُدًى وشِفاءٌ﴾ وكَذَلِكَ ﴿عَمًى﴾ وهو مَصْدَرٌ مِثْلُها، ولَوْ كانَ المَذْكُورُ أنَّهُ هادٍ وشافٍ لَكانَ الكَسْرُ في ﴿عَمًى﴾ أجْوَدَ فَيَكُونُ نَعْتًا مِثْلَهُما، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مِثْلَ البَهِيمَةِ الَّتِي لا تَفْهَمُ إلّا دُعاءً ونِداءً، وقِيلَ: مَن دُعِيَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ لَمْ يَسْمَعْ، وإنْ سَمِعَ لَمْ يَفْهَمْ، فَكَذا حالُ هَؤُلاءِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ وأقُولُ أيْضًا إنَّ هَذا مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: إنّا لَمّا آتَيْنا مُوسى الكِتابَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَبِلَهُ بَعْضُهم ورَدَّهُ الآخَرُونَ، فَكَذَلِكَ آتَيْناكَ هَذا الكِتابَ فَقَبِلَهُ بَعْضُهم وهم أصْحابُكَ، ورَدَّهُ الآخَرُونَ، وهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ يَعْنِي في تَأْخِيرِ العَذابِ عَنْهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى وهو يَوْمُ القِيامَةِ، كَما قالَ: ﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦] ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ يَعْنِي المُصَدِّقَ والمُكَذِّبَ بِالعَذابِ الواقِعِ بِمَن كَذَّبَ وإنَّهم لَفي شَكٍّ مِن صِدْقِكَ وكِتابِكَ مُرِيبٍ، فَلا يَنْبَغِي أنْ تَسْتَعْظِمَ اسْتِيحاشَكَ مِن قَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ: ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَن أساءَ فَعَلَيْها﴾ يَعْنِي خَفِّفْ عَلى نَفْسِكَ إعْراضَهم، فَإنَّهم إنْ آمَنُوا فَنَفْعُ إيمانِهِمْ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وإنْ كَفَرُوا فَضَرَرُ كُفْرِهِمْ يَعُودُ إلَيْهِمْ، واللَّهُ سُبْحانَهُ يُوصِلُ إلى كُلِّ أحَدٍ ما يَلِيقُ بِعَمَلِهِ مِنَ الجَزاءِ: ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب