الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾ قالَ مُقاتِلٌ أمَرَ في كُلِّ سَماءٍ بِما أرادَ، وقالَ قَتادَةُ: خَلَقَ فِيها شَمْسَها وقَمَرَها ونُجُومَها، وقالَ السُّدِّيُّ: خَلَقَ في كُلِّ سَماءِ خَلَقَها مِنَ المَلائِكَةِ وما فِيها مِنَ البِحارِ وجِبالِ البَرَدِ، قالَ: ولِلَّهِ في كُلِّ سَماءٍ بَيْتٌ يَحُجُّ إلَيْهِ ويَطُوفُ بِهِ المَلائِكَةُ كُلُّ واحِدٍ مِنها مُقابِلَ الكَعْبَةِ، ولَوْ وقَعَتْ مِنهُ حَصاةٌ ما وقَعَتْ إلّا عَلى الكَعْبَةِ، والأقْرَبُ أنْ يُقالَ: قَدْ ثَبَتَ في عِلْمِ النَّحْوِ أنَّهُ يَكْفِي في حُسْنِ الإضافَةِ أدْنى سَبَبٍ، ولِلَّهِ تَعالى عَلى أهْلِ كُلِّ سَماءٍ تَكْلِيفٌ خاصٌّ. فَمِنَ المَلائِكَةِ مَن هو في القِيامِ في أوَّلِ خَلْقِ العالَمِ إلى قِيامِ القِيامَةِ، ومِنهم رُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ ومِنهم سُجُودٌ لا يَرْفَعُونَ، وإذا كانَ ذَلِكَ الأمْرُ مُخْتَصًّا بِأهْلِ ذَلِكَ السَّماءِ كانَ ذَلِكَ الأمْرُ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ السَّماءِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾ أيْ وكانَ قَدْ خَصَّ كُلَّ سَماءٍ بِالأمْرِ المُضافِ إلَيْها كَقَوْلِهِ: ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا﴾ [الأعراف: ٤] والمَعْنى فَكانَ قَدْ جاءَها. هَذا ما نَقَلَهُ الواحِدِيُّ وهو عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ ثُمَّ كانَ قَدِ اسْتَوى إلى السَّماءِ وكانَ قَدْ أوْحى، وهَذا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ لِأنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ وكَلِمَةَ كانَ تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ فالجَمْعُ بَيْنَهُما يُفِيدُ التَّناقُضَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ القائِلِ: ضَرَبْتُ اليَوْمَ زَيْدًا ثُمَّ ضَرَبْتُ عَمْرًا بِالأمْسِ، فَكَما أنَّ هَذا باطِلٌ فَكَذا ما ذَكَرْتُمُوهُ، وإنَّما يَجُوزُ تَأْوِيلُ كَلامِ اللَّهِ بِما لا يُؤَدِّي إلى وُقُوعِ التَّناقُضِ والرَّكاكَةِ فِيهِ. والمُخْتارُ عِنْدِي أنْ يُقالَ: خَلْقُ السَّماواتِ مُقَدَّمٌ عَلى خَلْقِ الأرْضِ، بَقِيَ أنْ يُقالَ: كَيْفَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَنَقُولُ: الخَلْقُ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ التَّكْوِينِ والإيجادِ، بَلْ هو عِبارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، والتَّقْدِيرُ حَقُّ اللَّهِ تَعالى هو حُكْمُهُ بِأنَّهُ سَيُوجِدُهُ وقَضاؤُهُ بِذَلِكَ، وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ ﴿خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ قَضى بِحُدُوثِهِ في يَوْمَيْنِ، وقَضاءُ اللَّهِ بِأنَّهُ سَيُحْدِثُ كَذا في مُدَّةِ كَذا، لا يَقْتَضِي حُدُوثَ ذَلِكَ الشَّيْءِ في الحالِ، فَقَضاءُ اللَّهِ تَعالى بِحُدُوثِ الأرْضِ في يَوْمَيْنِ قَدْ تَقَدَّمَ عَلى إحْداثِ السَّماءِ، ولا يَلْزَمُ مِنهُ تَقَدُّمُ إحْداثِ الأرْضِ عَلى إحْداثِ السَّماءِ، وحِينَئِذٍ يَزُولُ السُّؤالُ، فَهَذا ما وصَلْتُ إلَيْهِ في هَذِهِ المَوْضِعِ المُشْكِلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ . واعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ هَذا الكَلامِ يَقْتَضِي أنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَ السَّماءَ والأرْضَ بِالإتْيانِ فَأطاعا وامْتَثَلا وعِنْدَ هَذا حَصَلَ في الآيَةِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنْ تَجْرِيَ هَذِهِ الآيَةُ عَلى ظاهِرِها، فَنَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أمَرَهُما بِالإتْيانِ فَأطاعاهُ، قالَ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ: وهَذا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى أمَرَ الجِبالَ أنْ تَنْطِقَ مَعَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقالَ: ﴿ياجِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ﴾ [سبأ: ١٠] (p-٩٤)واللَّهُ تَعالى تَجَلّى لِلْجَبَلِ قالَ: ﴿فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف: ١٤٣] واللَّهُ تَعالى أنْطَقَ الأيْدِيَ والأرْجُلَ، فَقالَ: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤] وإذْ كانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أنْ يَخْلُقَ اللَّهُ في ذاتِ السَّماءِ والأرْضِ حَياةً وعَقْلًا وفَهْمًا، ثُمَّ يُوَجِّهُ الأمْرَ والتَّكْلِيفَ عَلَيْهِما، ويَتَأكَّدُ هَذا الِاحْتِمالُ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الأصْلَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلى ظاهِرِهِ إلّا إذا مَنَعَ مِنهُ مانِعٌ، وهَهُنا لا مانِعَ، فَوَجَبَ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ عَنْهُما، فَقالَ: ﴿قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ وهَذا الجَمْعُ جَمْعُ ما يَعْقِلُ ويَعْلَمُ. الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها﴾ [الأحزاب: ٧٢] وهَذا يَدُلُّ عَلى كَوْنِها عارِفَةً بِاللَّهِ، مَخْصُوصَةً بِتَوْجِيهِ تَكالِيفِ اللَّهِ عَلَيْها، والإشْكالُ عَلَيْهِ أنْ يُقالَ: المُرادُ مِن قَوْلِهِ ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ الإتْيانُ إلى الوُجُودِ والحُدُوثُ والحُصُولُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَحالَ تَوَجَّهَ هَذا الأمْرُ كانَتِ السَّماواتُ والأرْضُ مَعْدُومَةً، إذْ لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً لَصارَ حاصِلُ هَذا الأمْرِ أنْ يُقالَ: يا مَوْجُودُ كُنْ مَوْجُودًا، وذَلِكَ لا يَجُوزُ فَثَبَتَ أنَّها حالَ تَوَجَّهَ هَذا الأمْرُ عَلَيْها كانَتْ مَعْدُومَةً، وإذا كانَتْ مَعْدُومَةً لَمْ تَكُنْ فاهِمَةً ولا عارِفَةً لِلْخِطابِ، فَلَمْ يَجُزْ تَوْجِيهُ الأمْرِ عَلَيْها. فَإنْ قالَ قائِلٌ: رَوى مُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِلسَّماواتِ: أطْلِعِي شَمْسَكِ وقَمَرَكِ ونُجُومَكِ، وقالَ لِلْأرْضِ: شَقِّقِي أنْهارَكِ وأخْرِجِي ثِمارَكِ، وكانَ اللَّهُ تَعالى أوْدَعَ فِيهِما هَذِهِ الأشْياءَ ثُمَّ أمَرَهُما بِإبْرازِها وإظْهارِها، فَنَقُولُ فَعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَكُونُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أتَيْنا طائِعِينَ﴾ حُدُوثَهُما في ذاتِهِما، بَلْ يَصِيرُ المُرادُ مِن هَذا الأمْرِ أنْ يُظْهِرا ما كانَ مُودَعًا فِيهِما، إلّا أنَّ هَذا الكَلامَ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ﴾ والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ حُدُوثَ السَّماواتِ إنَّما حَصَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ فَهَذا جُمْلَةُ ما يُمْكِنُ ذِكْرُهُ في هَذا البَحْثِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ تَوْجِيهَ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ بَلِ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ أرادَ تَكْوِينَهُما فَلَمْ يَمْتَنِعا عَلَيْهِ ووُجِدَتا كَما أرادَهُما، وكانَتا في ذَلِكَ المَأْمُورِ المُطِيعِ إذا ورَدَ عَلَيْهِ أمْرُ الأمِيرِ المُطاعِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ القائِلِ: قالَ الجِدارُ لِلْوَتِدِ لِمَ تَشُقُّنِي ؟ قالَ الوَتِدُ: اسْألْ مَن يَدُقُّنِي، فَإنَّ الحَجَرَ الَّذِي ورائِي ما خَلّانِي ورائِي. واعْلَمْ أنَّ هَذا عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ، وإنَّما جازَ العُدُولُ عَنِ الظّاهِرِ إذا قامَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا يُمْكِنُ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ إنَّما حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِما، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ: ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ عَلى الأمْرِ والتَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى ما ذَكَرْنا. واعْلَمْ أنَّ إثْباتَ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ فِيهِما مَشْرُوطٌ بِحُصُولِ المَأْمُورِ فِيهِما، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أسْكَنَ هَذِهِ السَّماواتِ المَلائِكَةَ، أوْ أنَّهُ تَعالى أمَرَهم بِأشْياءَ ونَهاهم عَنْ أشْياءَ، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ إنَّما خَلَقَ المَلائِكَةَ مَعَ السَّماواتِ، أوْ أنَّهُ تَعالى خَلَقَهم قَبْلَ السَّماواتِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أسْكَنَهم فِيها، وأيْضًا لَيْسَ في الآيَةِ بَيانُ الشَّرائِعِ الَّتِي أمَرَ المَلائِكَةَ بِها، وهَذِهِ الأسْرارُ لا تَلِيقُ بِعُقُولِ البَشَرِ، بَلْ هي أعْلى مِن مَصاعِدِ أفْهامِهِمْ ومَرامِي أوْهامِهِمْ * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ﴾ وهي النَّيِّراتُ الَّتِي خَلَقَها في السَّماواتِ، وخَصَّ كُلَّ واحِدٍ بِضَوْءٍ مُعَيَّنٍ، وسِرٍّ مُعَيَّنٍ، وطَبِيعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لا يَعْرِفُها إلّا اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: (وحِفْظًا) يَعْنِي وحَفِظْناها حِفْظًا، يَعْنِي مِنَ الشَّياطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، فَأعَدَّ لِكُلِّ شَيْطانٍ نَجْمًا يَرْمِيهِ بِهِ ولا يُخْطِئُهُ، (p-٩٥)فَمِنها ما يَحْرِقُ، ومِنها ما يَقْتُلُ ومِنها ما يَجْعَلُهُ مُخَبَّلًا، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ اليَهُودَ سَألُوا الرَّسُولَ ﷺ عَنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، فَقالَ: ”خَلَقَ اللَّهُ تَعالى الأرْضَ في يَوْمِ الأحَدِ والِاثْنَيْنِ، وخَلَقَ الجِبالَ والشَّجَرَ في يَوْمَيْنِ، وخَلَقَ في يَوْمِ الخَمِيسِ السَّماءَ، وخَلَقَ في يَوْمِ الجُمْعَةِ النُّجُومَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والمَلائِكَةَ، ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وأسْكَنَهُ الجَنَّةَ، ثُمَّ قالَتِ اليَهُودُ: ثُمَّ ماذا يا مُحَمَّدُ ؟ قالَ: ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ، قالُوا: ثُمَّ اسْتَراحَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ“ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ»﴾ [ق: ٣٨] . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذِهِ التَّفاصِيلَ، قالَ: ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ والعَزِيزُ إشارَةٌ إلى كَمالِ القُدْرَةِ، والعَلِيمُ إشارَةٌ إلى كَمالِ العِلْمِ، وما أحْسَنَ هَذِهِ الخاتِمَةَ؛ لِأنَّ تِلْكَ الأعْمالَ لا تُمْكِنُ إلّا بِقُدْرَةٍ كامِلَةٍ وعِلْمٍ مُحِيطٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب