الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها وزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ في الآيَةِ الأُولى أنْ يَقُولَ: ﴿إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكُمْ﴾ (p-٨٨)﴿إلَهٌ واحِدٌ فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ واسْتَغْفِرُوهُ﴾ أرْدَفَهُ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ إثْباتُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُ تَعالى وبَيْنَ هَذِهِ الأصْنامِ في الإلَهِيَّةِ والمَعْبُودِيَّةِ، وذَلِكَ بِأنْ بَيَّنَ كَمالَ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ في مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ، فَمَن هَذا صِفَتُهُ كَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ الأصْنامِ الخَسِيسَةِ شُرَكاءَ لَهُ في الإلَهِيَّةِ والمَعْبُودِيَّةِ ؟ فَهَذا تَقْرِيرُ النَّظْمِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: ”أيِنَّكم لَتَكْفُرُونَ“ بِهَمْزَةٍ وياءٍ بَعْدَها خَفِيفَةٍ ساكِنَةٍ بِلا مَدٍّ، وأمّا نافِعٌ في رِوايَةِ قالُونَ وأبُو عَمْرٍو فَعَلى هَذِهِ الصُّورَةِ، إلّا أنَّهُما يَمُدّانِ، والباقُونَ هَمْزَتَيْنِ بِلا مَدٍّ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: (أئِنَّكم) اسْتِفْهامٌ بِمَعْنى الإنْكارِ، وقَدْ ذَكَرَ عَنْهم شَيْئَيْنِ مُنْكَرَيْنِ: أحَدُهُما: الكُفْرُ بِاللَّهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ وثانِيهِما: إثْباتُ الشُّرَكاءِ والأنْدادِ لَهُ، ويَجِبُ أنْ يَكُونَ الكُفْرُ المَذْكُورُ أوَّلًا مُغايِرًا لِإثْباتِ الأنْدادِ لَهُ، ضَرُورَةَ أنَّ عَطْفَ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ يُوجِبُ التَّغايُرَ، والأظْهَرُ أنَّ المُرادَ مِن كُفْرِهِمْ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهم إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَقْدِرُ عَلى حَشْرِ المَوْتى، فَلَمّا نازَعُوا في ثُبُوتِ هَذِهِ القُدْرَةِ فَقَدْ كَفَرُوا بِاللَّهِ. الثّانِي: أنَّهم كانُوا يُنازِعُونَ في صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وفي بَعْثَةِ الأنْبِياءِ، وكُلُّ ذَلِكَ قَدْحٌ في الصِّفاتِ المُعْتَبَرَةِ في الإلَهِيَّةِ، وهو كُفْرٌ بِاللَّهِ. الثّالِثُ: أنَّهم كانُوا يُضِيفُونَ إلَيْهِ الأوْلادَ، وذَلِكَ أيْضًا قَدْحٌ في الإلَهِيَّةِ، وهو يُوجِبُ الكُفْرَ بِاللَّهِ، فالحاصِلُ أنَّهم كَفَرُوا بِاللَّهِ لِأجْلِ قَوْلِهِمْ بِهَذِهِ الأشْياءِ، وأثْبَتُوا الأنْدادَ أيْضًا لِلَّهِ لِأجْلِ قَوْلِهِمْ بِإلَهِيَّةِ تِلْكَ الأصْنامِ، واحْتَجَّ تَعالى عَلى فَسادِ قَوْلِهِمْ بِالتَّأْثِيرِ، فَقالَ: كَيْفَ يَجُوزُ الكُفْرُ بِاللَّهِ، وكَيْفَ يَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الأصْنامِ الخَسِيسَةِ أنْدادًا لِلَّهِ تَعالى، مَعَ أنَّهُ تَعالى هو الَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ، وتَمَّمَ بَقِيَّةَ مَصالِحِها في يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ وخَلَقَ السَّماواتِ بِأسْرِها في يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ؟ . فَمَن قَدَرَ عَلى خَلْقِ هَذِهِ الأشْياءِ العَظِيمَةِ، كَيْفَ يُعْقَلُ الكُفْرُ بِهِ، وإنْكارُ قُدْرَتِهِ عَلى الحَشْرِ والنَّشْرِ ؟ وكَيْفَ يُعْقَلُ إنْكارُ قُدْرَتِهِ عَلى التَّكْلِيفِ وعَلى بَعْثَةِ الأنْبِياءِ ؟ وكَيْفَ يُعْقَلُ جَعْلُ هَذِهِ الأصْنامِ الخَسِيسَةِ أنْدادًا لَهُ في المَعْبُودِيَّةِ والإلَهِيَّةِ، فَإنْ قِيلَ: مَنِ اسْتَدَلَّ بِشَيْءٍ عَلى إثْباتِ شَيْءٍ، فَذَلِكَ الشَّيْءُ المُسْتَدَلُّ بِهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُسَلَّمًا عِنْدَ الخَصْمِ حَتّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلالُ بِهِ، وكَوْنُهُ تَعالى خالِقًا لِلْأرْضِ في يَوْمَيْنِ أمْرٌ لا يُمْكِنُ إثْباتُهُ بِالعَقْلِ المَحْضِ، وإنَّما يُمْكِنُ إثْباتُهُ بِالسَّمْعِ ووَحْيِ الأنْبِياءِ. والكُفّارُ كانُوا مُنازِعِينَ في الوَحْيِ والنُّبُوَّةِ، فَلا يُعْقَلُ تَقْرِيرُ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ عَلَيْهِمْ، وإذا امْتَنَعَ تَقْرِيرُ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ عَلَيْهِمُ امْتَنَعَ الِاسْتِدْلالُ بِها عَلى فَسادِ مَذاهِبِهِمْ، قُلْنا: إثْباتُ كَوْنِ السَّماواتِ والأرْضِ مَخْلُوقَةً بِطَرِيقِ العَمَلِ مُمْكِنٌ، فَإذا ثَبَتَ ذَلِكَ أمْكَنَ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى وُجُودِ الإلَهِ القادِرِ القاهِرِ العَظِيمِ، وحِينَئِذٍ يُقالُ لِلْكافِرِينَ: فَكَيْفَ يُعْقَلُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الإلَهِ المَوْصُوفِ بِهَذِهِ القُدْرَةِ القاهِرَةِ وبَيْنَ الصَّنَمِ الَّذِي هو جَمادٌ لا يَضُرُّ، ولا يَنْفَعُ في المَعْبُودِيَّةِ والإلَهِيَّةِ ؟ . بَقِيَ أنْ يُقالَ: فَحِينَئِذٍ لا يَبْقى في الِاسْتِدْلالِ بِكَوْنِهِ تَعالى خالِقًا لِلْأرْضِ في يَوْمَيْنِ أثَرٌ، فَنَقُولُ: هَذا أيْضًا لَهُ أثَرٌ في هَذا البابِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ أوَّلَ التَّوْراةِ مُشْتَمِلٌ عَلى هَذا المَعْنى، فَكانَ ذَلِكَ في غايَةِ الشُّهْرَةِ بَيْنَ أهْلِ الكِتابِ، فَكُفّارُ مَكَّةَ كانُوا يَعْتَقِدُونَ في أهْلِ الكِتابِ أنَّهم أصْحابُ العُلُومِ والحَقائِقِ، والظّاهِرُ أنَّهم كانُوا قَدْ سَمِعُوا مِن أهْلِ الكِتابِ هَذِهِ المَعانِيَ واعْتَقَدُوا في كَوْنِها حَقَّةً، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَحْسُنُ أنْ يُقالَ لَهم: إنَّ الإلَهَ المَوْصُوفَ بِالقُدْرَةِ عَلى خَلْقِ الأشْياءِ العَظِيمَةِ في هَذِهِ المُدَّةِ الصَّغِيرَةِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالعَقْلِ جَعْلُ الخَشَبِ المَنجُورِ والحَجَرِ المَنحُوتِ شَرِيكًا لَهُ في المَعْبُودِيَّةِ والإلَهِيَّةِ ؟ فَظَهَرَ بِما قَرَّرْنا أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ قَوِيٌّ حَسَنٌ. * * * (p-٨٩)وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ أيْ ذَلِكَ المَوْجُودُ الَّذِي عَلِمْتَ مِن صِفَتِهِ وقُدْرَتِهِ أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ هو رَبُّ العالَمِينَ وخالِقُهم ومُبْدِعُهم، فَكَيْفَ أثْبَتُّمْ لَهُ أنْدادًا مِنَ الخَشَبِ والحَجَرِ ؟ ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنْ كَوْنِهِ خالِقًا لِلْأرْضِ في يَوْمَيْنِ أخْبَرَ أنَّهُ أتى بِثَلاثَةِ أنْواعٍ مِنَ الصُّنْعِ العَجِيبِ والفِعْلِ البَدِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ، فالأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها﴾ والمُرادُ مِنها الجِبالُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ كَوْنِها ﴿رَواسِيَ﴾ في سُورَةِ النَّحْلِ، فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ: ﴿مِن فَوْقِها﴾ ولِمَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ﴾ [المرسلات: ٢٧] ﴿وجَعَلْنا في الأرْضِ رَواسِيَ﴾ [الرعد: ٣] قُلْنا: لِأنَّهُ تَعالى لَوْ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن تَحْتِها لَأوْهَمَ ذَلِكَ أنَّ تِلْكَ الأساطِينَ التَّحْتانِيَّةَ هي الَّتِي أمْسَكَتْ هَذِهِ الأرْضَ الثَّقِيلَةَ عَنِ النُّزُولِ، ولَكِنَّهُ تَعالى قالَ خَلَقْتُ هَذِهِ الجِبالَ الثِّقالَ فَوْقَ الأرْضِ، لِيَرى الإنْسانُ بِعَيْنِهِ أنَّ الأرْضَ والجِبالَ أثْقالٌ عَلى أثْقالٍ، وكُلُّها مُفْتَقِرَةٌ إلى مُمْسِكٍ وحافِظٍ، وما ذاكَ الحافِظُ المُدَبِّرُ إلّا اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى. والنَّوْعُ الثّانِي: مِمّا أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وبارَكَ فِيها﴾ والبَرَكَةُ كَثْرَةُ الخَيْرِ، والخَيْراتُ الحاصِلَةُ مِنَ الأرْضِ أكْثَرُ مِمّا يُحِيطُ بِهِ الشَّرْحُ والبَيانُ، وقَدْ ذَكَرْناها بِالِاسْتِقْصاءِ في سُورَةِ البَقَرَةِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يُرِيدُ شَقَّ الأنْهارِ وخَلْقَ الجِبالِ وخَلْقَ الأشْجارِ والثِّمارِ وخَلْقَ أصْنافِ الحَيَواناتِ وكُلِّ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِنَ الخَيْراتِ. والنَّوْعُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ وفِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّ المَعْنى وقَدَّرَ فِيها أقْواتَ أهْلِها ومَعايِشَهم وما يُصْلِحُهم، قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّرَ أقْواتَ الأبْدانِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الأبْدانَ، والقَوْلُ الثّانِي: قالَ مُجاهِدٌ: وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها مِنَ المَطَرِ، وعَلى هَذا القَوْلِ فالأقْواتُ لِلْأرْضِ لا لِلسُّكّانِ، والمَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدَّرَ لِكُلِّ أرْضٍ حَظَّها مِنَ المَطَرِ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ مِن إضافَةِ الأقْواتِ إلى الأرْضِ كَوْنُها مُتَوَلِّدَةً مِن تِلْكَ الأرْضِ، وحادِثَةً فِيها؛ لِأنَّ النَّحْوِيِّينَ قالُوا: يَكْفِي في حُسْنِ الإضافَةِ أدْنى سَبَبٍ، فالشَّيْءُ قَدْ يُضافُ إلى فاعِلِهِ تارَةً، وإلى مَحَلِّهِ أُخْرى، فَقَوْلُهُ: ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ أيْ قَدَّرَ الأقْواتَ الَّتِي يَخْتَصُّ حُدُوثُها بِها، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ كُلَّ بَلْدَةٍ مَعْدِنًا لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الأشْياءِ المَطْلُوبَةِ، حَتّى إنَّ أهْلَ هَذِهِ البَلْدَةِ يَحْتاجُونَ إلى الأشْياءِ المُتَوَلِّدَةِ في تِلْكَ البَلْدَةِ وبِالعَكْسِ، فَصارَ هَذا المَعْنى سَبَبًا لِرَغْبَةِ النّاسِ في التِّجاراتِ مِنِ اكْتِسابِ الأمْوالِ. ورَأيْتُ مَن كانَ يَقُولُ صَنْعَةُ الزِّراعَةِ والحِراثَةِ أكْثَرُ الحِرَفِ والصَّنائِعِ بَرَكَةً؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وضَعَ الأرْزاقَ والأقْواتَ في الأرْضِ قالَ: ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ وإذا كانَتِ الأقْواتُ مَوْضُوعَةً في الأرْضِ كانَ طَلَبُها مِنَ الأرْضِ مُتَعَيِّنًا، ولَمّا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هَذِهِ الأنْواعَ الثَّلاثَةَ مِنَ التَّدْبِيرِ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ وهَهُنا سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ، وذَكَرَ أنَّهُ أصْلَحَ هَذِهِ الأنْواعَ الثَّلاثَةَ في أرْبَعَةِ أيّامٍ أُخَرَ، وذَكَرَ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ في يَوْمَيْنِ، فَيَكُونُ المَجْمُوعُ ثَمانِيَةَ أيّامٍ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ في سائِرِ الآياتِ أنَّهُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ فَلَزِمَ التَّناقُضُ. واعْلَمْ أنَّ العُلَماءَ أجابُوا عَنْهُ بِأنْ قالُوا: المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ مَعَ اليَوْمَيْنِ الأوَّلِينَ، وهَذا كَقَوْلِ القائِلِ: سِرْتُ مِنَ البَصْرَةِ إلى بَغْدادَ في عَشَرَةِ أيّامٍ، وسِرْتُ إلى الكُوفَةِ في خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يُرِيدُ كِلا المَسافَتَيْنِ، ويَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ أعْطَيْتُكَ ألْفًا في شَهْرٍ وأُلُوفًا في شَهْرَيْنِ فَيَدْخُلُ الألْفُ في الأُلُوفِ والشَّهْرُ في الشَّهْرَيْنِ. السُّؤالُ الثّانِي: أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ، فَلَوْ ذَكَرَ أنَّهُ خَلَقَ هَذِهِ الأنْواعَ الثَّلاثَةَ الباقِيَةَ في يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كانَ أبْعَدَ عَنِ الشُّبْهَةِ وأبْعَدَ عَنِ الغَلَطِ، فَلِمَ تَرَكَ هَذا التَّصْرِيحَ، وذَكَرَ ذَلِكَ الكَلامَ المُجْمَلَ ؟ (p-٩٠) والجَوابُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ فِيهِ فائِدَةٌ عَلى ما إذا قالَ: خَلَقْتُ هَذِهِ الثَّلاثَةَ في يَوْمَيْنِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ قالَ: خَلَقْتُ هَذِهِ الأشْياءَ في يَوْمَيْنِ مَعَ أنَّ اليَوْمَيْنِ ما كانا مُسْتَغْرَقَيْنِ بِذَلِكَ العَمَلِ، أمّا لَمّا ذَكَرَ خَلْقَ الأرْضِ وخَلْقَ هَذِهِ الأشْياءِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ هَذِهِ الأيّامَ الأرْبَعَةَ صارَتْ مُسْتَغْرَقَةً في تِلْكَ الأعْمالِ مِن غَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ. السُّؤالُ الثّالِثُ: كَيْفَ القِراءاتُ في قَوْلِهِ (سَواءً) ؟ والجَوابُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ قُرِئَ (سَواءً) بِالحَرَكاتِ الثَّلاثِ، الجَرِّ عَلى الوَصْفِ، والنَّصْبِ عَلى المَصْدَرِ: اسْتَوَتْ سَواءً، والرَّفْعِ عَلى: هي سَواءٌ. السُّؤالُ الرّابِعُ: ما المُرادُ مِن كَوْنِ تِلْكَ الأيّامِ الأرْبَعَةِ سَواءً ؟ فَنَقُولُ: إنَّ الأيّامَ قَدْ تَكُونُ مُتَساوِيَةَ المَقادِيرِ كالأيّامِ المَوْجُودَةِ في أماكِنِ خَطِّ الِاسْتِواءِ، وقَدْ تَكُونُ مُخْتَلِفَةً كالأيّامِ المَوْجُودَةِ في سائِرِ الأماكِنِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ تِلْكَ الأيّامَ الأرْبَعَةَ كانَتْ مُتَساوِيَةً غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ. السُّؤالُ الخامِسُ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: (لِلسّائِلِينَ) ؟ الجَوابُ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الزَّجّاجَ قالَ: قَوْلُهُ: ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ أيْ في تَتِمَّةِ أرْبَعَةِ أيّامٍ، إذا عَرَفْتَ هَذا فالتَّقْدِيرُ ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ في تَتِمَّةِ أرْبَعَةِ أيّامٍ لِأجْلِ السّائِلِينَ، أيِ الطّالِبِينَ لِلْأقْواتِ المُحْتاجِينَ إلَيْها. والثّانِي: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ والتَّقْدِيرُ كَأنَّهُ قِيلَ: هَذا الحَصْرُ والبَيانُ لِأجْلِ مَن سَألَ كَمْ خُلِقَتِ الأرْضُ وما فِيها ؟ ولَمّا شَرَحَ اللَّهُ تَعالى كَيْفِيَّةَ تَخْلِيقِ الأرْضِ وما فِيها أتْبَعَهُ بِكَيْفِيَّةِ تَخْلِيقِ السَّماواتِ فَقالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ مِن قَوْلِهِمُ اسْتَوى إلى مَكانِ كَذا إذا تَوَجَّهَ إلَيْهِ تَوَجُّهًا لا يَلْتَفِتُ مَعَهُ إلى عَمَلٍ آخَرَ، وهو مِنَ الِاسْتِواءِ الَّذِي هو ضِدُّ الِاعْوِجاجِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُمُ اسْتَقامَ إلَيْهِ وامْتَدَّ إلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ﴾ [فصلت: ٦] والمَعْنى ثُمَّ دَعاهُ داعِي الحِكْمَةِ إلى خَلْقِ السَّماءِ بَعْدَ خَلْقِ الأرْضِ وما فِيها، مِن غَيْرِ صَرْفٍ يَصْرِفُهُ ذَلِكَ. البَحْثُ الثّانِي: ذَكَرَ صاحِبُ ”الأثَرِ“ أنَّهُ كانَ عَرْشُ اللَّهِ عَلى الماءِ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَأحْدَثَ اللَّهُ في ذَلِكَ الماءِ سُخُونَةً فارْتَفَعَ زَبَدٌ ودُخانٌ، أمّا الزَّبَدُ فَيَبْقى عَلى وجْهِ الماءِ فَخَلَقَ اللَّهُ مِنهُ اليُبُوسَةَ، وأحْدَثَ مِنهُ الأرْضَ، وأمّا الدُّخانُ فارْتَفَعَ وعَلا فَخَلَقَ اللَّهُ مِنهُ السَّماواتِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ في القُرْآنِ، فَإنْ دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ قُبِلَ وإلّا فَلا، وهَذِهِ القِصَّةُ مَذْكُورَةٌ في أوَّلِ الكِتابِ الَّذِي يَزْعُمُ اليَهُودُ أنَّهُ التَّوْراةُ، وفِيهِ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ السَّماءَ مِن أجْزاءٍ مُظْلِمَةٍ، وهَذا هو المَعْقُولُ؛ لِأنّا قَدْ دَلَّلْنا في المَعْقُولاتِ عَلى أنَّ الظُّلْمَةَ لَيْسَتْ كَيْفِيَّةً وُجُودِيَّةً، بِدَلِيلِ أنَّهُ لَوْ جَلَسَ إنْسانٌ في ضَوْءِ السِّراجِ وإنْسانٌ آخَرُ في الظُّلْمَةِ، فَإنَّ الَّذِي جَلَسَ في الضَّوْءِ لا يَرى مَكانَ الجالِسِ في الظُّلْمَةِ، ويَرى ذَلِكَ الهَواءَ مُظْلِمًا. وأمّا الَّذِي جَلَسَ في الظُّلْمَةِ فَإنَّهُ يَرى ذَلِكَ الَّذِي كانَ جالِسًا في الضَّوْءِ، ويَرى ذَلِكَ الهَواءَ مُضِيئًا، ولَوْ كانَتِ الظُّلْمَةُ صِفَةً قائِمَةً بِالهَواءِ لَما اخْتَلَفَتِ الأحْوالُ بِحَسَبِ اخْتِلافِ أحْوالِ النّاظِرِينَ، فَثَبَتَ أنَّ الظُّلْمَةَ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ النُّورِ، ثُمَّ لَمّا رَكَّبَها وجَعَلَها سَماواتٍ وكَواكِبَ وشَمْسًا وقَمَرًا، وأحْدَثَ صِفَةَ الضَّوْءِ فِيها فَحِينَئِذٍ صارَتْ مُسْتَنِيرَةً، فَثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ حِينَ قَصَدَ اللَّهُ تَعالى أنْ يَخْلُقَ مِنها السَّماواتِ والشَّمْسَ (p-٩١)والقَمَرَ كانَتْ مُظْلِمَةً، فَصَحَّ تَسْمِيَتُها بِالدُّخانِ؛ لِأنَّهُ لا مَعْنى لِلدُّخانِ إلّا أجْزاءً مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُتَواصِلَةٍ عَدِيمَةَ النُّورِ، فَهَذا ما خَطَرَ بِالبالِ في تَفْسِيرِ الدُّخانِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ. * * * البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّ تَخْلِيقَ السَّماءِ حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ الأرْضِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النازعات: ٣٠] مُشْعِرٌ بِأنَّ تَخْلِيقَ الأرْضِ حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ السَّماءِ، وذَلِكَ يُوجِبُ التَّناقُضَ، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في هَذِهِ المَسْألَةِ، والجَوابُ المَشْهُورُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ أوَّلًا ثُمَّ خَلَقَ بَعْدَها السَّماءَ، ثُمَّ بَعْدَ خَلْقِ السَّماءِ دَحا الأرْضَ، وبِهَذا الطَّرِيقِ يَزُولُ التَّناقُضُ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الجَوابَ مُشْكِلٌ عِنْدِي مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ، ثُمَّ إنَّهُ في اليَوْمِ الثّالِثِ ﴿جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ وهَذِهِ الأحْوالُ لا يُمْكِنُ إدْخالُها في الوُجُودِ إلّا بَعْدَ أنْ صارَتِ الأرْضُ مَدْحُوَّةً؛ لِأنَّ خَلْقَ الجِبالِ فِيها لا يُمْكِنُ إلّا بَعْدَ أنْ صارَتِ الأرْضُ مَدْحُوَّةً مُنْبَسِطَةً، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبارَكَ فِيها﴾ مُفَسَّرٌ بِخَلْقِ الأشْجارِ والنَّباتِ والحَيَوانِ فِيها، وذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا بَعْدَ صَيْرُورَتِها مُنْبَسِطَةً، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ فَهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى خَلَقَ السَّماءَ بَعْدَ خَلْقِ الأرْضِ وبَعْدَ أنْ جَعَلَها مَدْحُوَّةً. وحِينَئِذٍ يَعُودُ السُّؤالُ المَذْكُورُ. الثّانِي: أنَّهُ قَدْ دَلَّتِ الدَّلائِلُ الهَنْدَسِيَّةُ عَلى أنَّ الأرْضَ كُرَةٌ، فَهي في أوَّلِ حُدُوثِها إنْ قُلْنا: إنَّها كانَتْ كُرَةً والآنَ بَقِيَتْ كُرَةً أيْضًا فَهي مُنْذُ خُلِقَتْ كانَتْ مَدْحُوَّةً، وإنْ قُلْنا: إنَّها غَيْرُ كُرَةٍ ثُمَّ جُعِلَتْ كُرَةً فَيَلْزَمُ أنْ يُقالَ: إنَّها كانَتْ مَدْحُوَّةً قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أُزِيلَ عَنْها هَذِهِ الصِّفَةُ، وذَلِكَ باطِلٌ. الثّالِثُ: أنَّ الأرْضَ جِسْمٌ في غايَةِ العِظَمِ، والجِسْمُ الَّذِي يَكُونُ كَذَلِكَ فَإنَّهُ مِن أوَّلِ دُخُولِهِ في الوُجُودِ يَكُونُ مَدْحُوًّا، فَيَكُونُ القَوْلُ بِأنَّها ما كانَتْ مَدْحُوَّةً، ثُمَّ صارَتْ مَدْحُوَّةً قَوْلًا باطِلًا، والَّذِي جاءَ في كُتُبِ التَّوارِيخِ أنَّ الأرْضَ خُلِقَتْ في مَوْضِعِ الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، فَهو كَلامٌ مُشْكِلٌ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ المُرادُ أنَّها عَلى عِظَمِها خُلِقَتْ في ذَلِكَ المَوْضِعِ، فَهَذا قَوْلٌ بِتَداخُلِ الأجْسامِ الكَثِيفَةِ وهو مُحالٌ. وإنْ كانَ المُرادُ مِنهُ أنَّهُ خَلَقَ أوَّلًا أجْزاءً صَغِيرَةً في ذَلِكَ المَوْضِعِ ثُمَّ خَلَقَ بَقِيَّةَ أجْزائِها، وأُضِيفَتْ إلى تِلْكَ الأجْزاءِ الَّتِي خُلِقَتْ أوَّلًا، فَهَذا يَكُونُ اعْتِرافًا بِأنَّ تَخْلِيقَ الأرْضِ وقَعَ مُتَأخِّرًا عَنْ تَخْلِيقِ السَّماءِ. الرّابِعُ: أنَّهُ لَمّا حَصَلَ تَخْلِيقُ ذاتِ الأرْضِ في يَوْمَيْنِ وتَخْلِيقُ سائِرِ الأشْياءِ المَوْجُودَةِ في الأرْضِ في يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ وتَخْلِيقُ السَّماواتِ في يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ كانَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ سِتَّةَ أيّامٍ، فَإذا حَصَلَ دَحْوُ الأرْضِ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَقَدْ حَصَلَ هَذا الدَّحْوُ في زَمانٍ آخَرَ بَعْدَ الأيّامِ السِّتَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَقَعُ تَخْلِيقُ السَّماواتِ والأرْضِ في أكْثَرَ مِن سِتَّةِ أيّامٍ، وذَلِكَ باطِلٌ. الخامِسُ: أنَّهُ لا نِزاعَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ كِنايَةٌ عَنْ إيجادِ السَّماءِ والأرْضِ، فَلَوْ تَقَدَّمَ إيجادُ السَّماءِ عَلى إيجادِ الأرْضِ لَكانَ قَوْلُهُ: ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ يَقْتَضِي إيجادَ المَوْجُودِ وأنَّهُ مُحالٌ باطِلٌ. فَهَذا تَمامُ البَحْثِ عَنْ هَذا الجَوابِ المَشْهُورِ، ونَقَلَ الواحِدِيُّ في ”البَسِيطِ“ عَنْ مُقاتِلٍ أنَّهُ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ قَبْلَ الأرْضِ، وتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ ثُمَّ كانَ قَدِ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ، وقالَ لَها قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الأرْضَ فَأضْمَرَ فِيهِ كانَ كَما قالَ تَعالى: ﴿قالُوا إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف: ٧٧] مَعْناهُ إنْ يَكُنْ سَرَقَ، وقالَ تَعالى: ﴿وكَمْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا﴾ [الأعراف: ٤] والمَعْنى فَكانَ قَدْ جاءَها. هَذا ما نَقَلَهُ الواحِدِيُّ وهو عِنْدِي ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ تَقْدِيرَ الكَلامِ ثُمَّ كانَ قَدِ اسْتَوى إلى السَّماءِ، وهَذا جَمْعٌ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ (ثُمَّ) تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ، وكَلِمَةَ كانَ تَقْتَضِي التَّقْدِيمَ، والجَمْعُ بَيْنَهُما يُفِيدُ (p-٩٢)التَّناقُضَ، وذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ إجْراؤُهُ عَلى ظاهِرِهِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ إنَّما حَصَلَ قَبْلَ وُجُودِهِما، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ حَمْلُ قَوْلِهِ: (ائْتِيا) عَلى الأمْرِ والتَّكْلِيفِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى ما ذَكَرْناهُ، بَقِيَ عَلى لَفْظِ الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: ما الفائِدَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ ؟ الجَوابُ: المَقْصُودُ مِنهُ إظْهارُ كَمالِ القُدْرَةِ، والتَّقْدِيرُ: ائْتِي شِئْتُما ذَلِكَ أوْ أبَيْتُما، كَما يَقُولُ الجَبّارُ لِمَن تَحْتَ يَدِهِ: لَتَفْعَلَنَّ هَذا شِئْتَ أوْ لَمْ تَشَأْ، ولَتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أوْ كَرْهًا، وانْتِصابُهُما عَلى الحالِ بِمَعْنى طائِعِينَ أوْ مُكْرَهِينَ (قالَتا أتَيْنا) عَلى الطَّوْعِ لا عَلى الكَرْهِ، وقِيلَ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ السَّماءَ والأرْضَ ثُمَّ ذَكَرَ الطَّوْعَ والكَرْهَ، فَوَجَبَ أنْ يَنْصَرِفَ الطَّوْعُ إلى السَّماءِ والكَرْهُ إلى الأرْضِ بِتَخْصِيصِ السَّماءِ بِالطَّوْعِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ السَّماءَ في دَوامِ حَرَكَتِها عَلى نَهْجٍ واحِدٍ لا يَخْتَلِفُ، تُشْبِهُ حَيَوانًا مُطِيعًا لِلَّهِ تَعالى بِخِلافِ الأرْضِ، فَإنَّها مُخْتَلِفَةُ الأحْوالِ، تارَةً تَكُونُ في السُّكُونِ وأُخْرى في الحَرَكاتِ المُضْطَرِبَةِ. وثانِيها: أنَّ المَوْجُودَ في السَّماءِ لَيْسَ لَها إلّا الطّاعَةُ، قالَ تَعالى: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٥٠] وأمّا أهْلُ الأرْضِ فَلَيْسَ الأمْرُ في حَقِّهِمْ كَذَلِكَ. وثالِثُها: السَّماءُ مَوْصُوفَةٌ بِكَمالِ الحالِ في جَمِيعِ الأُمُورِ، قالُوا: إنَّها أفْضَلُ الألْوانِ وهي المُسْتَنِيرَةُ، وأشْكالُها أفْضَلُ الأشْكالِ وهي المُسْتَدِيرَةُ، ومَكانُها أفْضَلُ الأمْكِنَةِ وهو الجَوُّ العالِي، وأجْرامُها أفْضَلُ الأجْرامِ وهي الكَواكِبُ المُتَلَأْلِئَةُ بِخِلافِ الأرْضِ فَإنَّها مَكانُ الظُّلْمَةِ والكَثافَةِ واخْتِلافِ الأحْوالِ وتَغَيُّرِ الذَّواتِ والصِّفاتِ. فَلا جَرَمَ وقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْ تَكَوُّنِ السَّماءِ بِالطَّوْعِ، وعَنْ تَكَوُّنِ الأرْضِ بِالكُرْهِ، وإذا كانَ مَدارُ خَلْقِ الأرْضِ عَلى الكُرْهِ كانَ أهْلُها مَوْصُوفِينَ أبَدًا بِما يُوجِبُ الكُرْهَ والكَرْبَ والقَهْرَ والقَسْرَ. السُّؤالُ الثّانِي: ما المُرادُ مِن قَوْلِهِ: (ائْتِيا) ومِن قَوْلِهِ: (أتَيْنا) ؟ الجَوابُ: المُرادُ ائْتِيا إلى الوُجُودِ والحُصُولِ وهو كَقَوْلِهِ (كُنْ فَيَكُونُ) وقِيلَ: المَعْنى ائْتِيا عَلى ما يَنْبَغِي أنْ تَأْتِيا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكْلِ والوَصْفِ، أيْ بِأرْضٍ مَدْحُوَّةٍ قَرارًا ومِهادًا، وأيْ بِسَماءٍ مَقْبِيَّةٍ سَقْفًا لَهم، ومَعْنى الإتْيانِ الحُصُولُ والوُقُوعُ عَلى وفْقِ المُرادِ، كَما تَقُولُ: أتى عَمَلُهُ مَرْضِيًّا وجاءَ مَقْبُولًا، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ المَعْنى لِتَأْتِ كُلُّ واحِدَةٍ مِنكم صاحِبَتَها الإتْيانَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ والتَّدْبِيرُ مِن كَوْنِ الأرْضِ قَرارًا لِلسَّماءِ وكَوْنِ السَّماءِ سَقْفًا لِلْأرْضِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: هَلّا قِيلَ: طائِعِينَ عَلى اللَّفْظِ أوْ طائِعاتٍ عَلى المَعْنى؛ لِأنَّهُما سَماواتٌ وأرَضُونَ ؟ الجَوابُ: لَمّا جُعِلْنَ مُخاطَباتٍ ومُجِيباتٍ ووُصِّينَ بِالطَّوْعِ والكَرْهِ قِيلَ طائِعِينَ في مَوْضِعِ طائِعاتٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: (ساجِدِينَ) [الحجر: ٢٩] ومِنهم مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلى كَوْنِ السَّماواتِ أحْياءً، وقالَ: الأرْضُ في جَوْفِ السَّماواتِ أقَلُّ مِنَ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ في جَوْفِ الجَبَلِ الكَبِيرِ، فَلِهَذا السَّبَبِ صارَتِ اللَّفْظَةُ الدّالَّةُ العَقْلَ والحَياةُ غالِبَةً، إلّا أنَّ هَذا القَوْلَ باطِلٌ، لِإجْماعِ المُتَكَلِّمِينَ عَلى فَسادِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ﴾ وقَضاءُ الشَّيْءِ إنَّما هو إتْمامُهُ والفَراغُ مِنهُ والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَقَضاهُنَّ﴾ يَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إلى السَّماءِ عَلى المَعْنى كَما قالَ: (طائِعِينَ) ونَحْوُهُ ﴿أعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٧] ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرًا مُبْهَمًا مُفَسَّرًا بِسَبْعِ سَماواتٍ، والفَرْقُ بَيْنَ النَّصْبَيْنِ أنَّ أحَدَهُما عَلى الحالِ، والثّانِيَ عَلى التَّمْيِيزِ. (p-٩٣)ذَكَرَ أهْلُ الأثَرِ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمِ الأحَدِ والِاثْنَيْنِ وخَلَقَ ما في سائِرِ الأرْضِ في يَوْمِ الثُّلاثاءِ والأرْبِعاءِ، وخَلَقَ السَّماواتِ وما فِيها في يَوْمِ الخَمِيسِ والجُمُعَةِ وفَرَغَ في آخِرِ ساعَةٍ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيها آدَمَ وهي السّاعَةُ الَّتِي تَقُومُ فِيها القِيامَةُ، فَإنْ قِيلَ: اليَوْمُ عِبارَةٌ عَنِ النَّهارِ واللَّيْلِ وذَلِكَ إنَّما يَحْصُلُ بِسَبَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغُرُوبِها، وقَبْلَ حُدُوثِ السَّماواتِ والشَّمْسِ والقَمَرِ كَيْفَ يُعْقَلُ حُصُولُ اليَوْمِ ؟ قُلْنا: مَعْناهُ إنَّهُ مَضى مِنَ المُدَّةِ ما لَوْ حَصَلَ هُناكَ فَلَكٌ وشَمْسٌ لَكانَ المِقْدارُ مُقَدَّرًا بِيَوْمٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب