الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ ﴿أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى وإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلّا في تَبابٍ﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا وصَفَ فِرْعَوْنَ بِكَوْنِهِ مُتَكَبِّرًا جَبّارًا بَيَّنَ أنَّهُ أبْلَغَ في البَلادَةِ والحَماقَةِ إلى أنْ قَصَدَ الصُّعُودَ إلى السَّماواتِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ الجَمْعُ الكَثِيرُ مِنَ المُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ في إثْباتِ أنَّ اللَّهَ في السَّماواتِ وقَرَّرُوا ذَلِكَ مِن وُجُوهٍ؛ الأوَّلُ: أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ مِنَ المُنْكِرِينَ لِوُجُودِ اللَّهِ، وكُلُّ ما يَذْكُرُهُ في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى فَذَلِكَ إنَّما يَذْكُرُهُ لِأجْلِ أنَّهُ سَمِعَ أنَّ مُوسى يَصِفُ اللَّهَ بِذَلِكَ، فَهو أيْضًا يَذْكُرُهُ كَما سَمِعَهُ، فَلَوْلا أنَّهُ سَمِعَ مُوسى يَصِفُ اللَّهَ بِأنَّهُ مَوْجُودٌ في السَّماءِ وإلّا لَما طَلَبَهُ في السَّماءِ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ قالَ: وإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا، ولَمْ يُبَيِّنْ أنَّهُ كاذِبٌ في ماذا، والمَذْكُورُ السّابِقُ مُتَعَيِّنٌ لِصَرْفِ الكَلامِ إلَيْهِ، فَكَأنَّ التَّقْدِيرَ: فَأطَّلِعَ إلى الإلَهِ الَّذِي يَزْعُمُ مُوسى أنَّهُ مَوْجُودٌ في السَّماءِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ أيْ وإنِّي لَأظُنُّ مُوسى كاذِبًا في ادِّعائِهِ أنَّ الإلَهَ مَوْجُودٌ في السَّماءِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ دِينَ مُوسى هو أنَّ الإلَهَ مَوْجُودٌ في السَّماءِ. الوَجْهُ الثّالِثُ: العِلْمُ بِأنَّهُ لَوْ وُجِدَ إلَهٌ لَكانَ مَوْجُودًا في السَّماءِ، عِلْمٌ بَدِيهِيٌّ مُتَقَرِّرٌ في كُلِّ العُقُولِ، ولِذَلِكَ فَإنَّ الصِّبْيانَ إذا تَضَرَّعُوا إلى اللَّهِ رَفَعُوا (p-٥٧)وُجُوهَهم وأيْدِيَهم إلى السَّماءِ، وإنَّ فِرْعَوْنَ مَعَ نِهايَةِ كُفْرِهِ لَمّا طَلَبَ الإلَهَ فَقَدْ طَلَبَهُ في السَّماءِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ العِلْمَ بِأنَّ الإلَهَ مَوْجُودٌ في السَّماءِ عِلْمٌ مُتَقَرِّرٌ في عَقْلِ الصِّدِّيقِ والزِّنْدِيقِ والمُلْحِدِ والعالِمِ والجاهِلِ. فَهَذا جُمْلَةُ اسْتِدْلالاتِ المُشَبِّهَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ، والجَوابُ: أنَّ هَؤُلاءِ الجُهّالَ يَكْفِيهِمْ في كَمالِ الخِزْيِ والضَّلالِ أنْ جَعَلُوا قَوْلَ فِرْعَوْنَ اللَّعِينَ حُجَّةً لَهم عَلى صِحَّةِ دِينِهِمْ، وأمّا مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّهُ لَمْ يَزِدْ في تَعْرِيفِ إلَهِ العالَمِ عَلى ذِكْرِ صِفَةِ الخَلّاقِيَّةِ فَقالَ في سُورَةِ طه: ﴿رَبُّنا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ [طه: ٥٠] وقالَ في سُورَةِ الشُّعَراءِ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما﴾ [الشُّعَراءِ: ٢٨] فَظَهَرَ أنَّ تَعْرِيفَ ذاتِ اللَّهِ بِكَوْنِهِ في السَّماءِ دِينُ فِرْعَوْنَ وتَعْرِيفَهُ بِالخَلّاقِيَّةِ والمَوْجُودِيَّةِ دِينُ مُوسى، فَمَن قالَ بِالأوَّلِ كانَ عَلى دِينِ فِرْعَوْنَ، ومَن قالَ بِالثّانِي كانَ عَلى دِينِ مُوسى، ثُمَّ نَقُولُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ كُلَّ ما يَقُولُهُ فِرْعَوْنُ في صِفاتِ اللَّهِ تَعالى فَذَلِكَ قَدْ سَمِعَهُ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، بَلْ لَعَلَّهُ كانَ عَلى دِينِ المُشَبِّهَةِ فَكانَ يَعْتَقِدُ أنَّ الإلَهَ لَوْ كانَ مَوْجُودًا لَكانَ حاصِلًا في السَّماءِ، فَهو إنَّما ذَكَرَ هَذا الِاعْتِقادَ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ لا لِأجْلِ أنَّهُ قَدْ سَمِعَهُ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وإنِّي لَأظُنُّهُ كاذِبًا﴾ فَنَقُولُ: لَعَلَّهُ لَمّا سَمِعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الإسْراءِ: ١٠٢] ظَنَّ أنَّهُ عَنى بِهِ أنَّهُ رَبُّ السَّماواتِ، كَما يُقالُ لِلْواحِدِ مِنّا: إنَّهُ رَبُّ الدّارِ بِمَعْنى كَوْنِهِ ساكِنًا فِيهِ، فَلَمّا غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ ذَلِكَ حَكى عَنْهُ، وهَذا لَيْسَ بِمُسْتَبْعَدٍ، فَإنَّ فِرْعَوْنَ كانَ بَلَغَ في الجَهْلِ والحَماقَةِ إلى حَيْثُ لا يَبْعُدُ نِسْبَةُ هَذا الخَيالِ إلَيْهِ، فَإنِ اسْتَبْعَدَ الخَصْمُ نِسْبَةَ هَذا الخَيالِ إلَيْهِ كانَ ذَلِكَ لائِقًا بِهِمْ؛ لِأنَّهم لَمّا كانُوا عَلى دِينِ فِرْعَوْنَ وجَبَ عَلَيْهِمْ تَعْظِيمُهُ. وأمّا قَوْلُهُ: إنَّ فِطْرَةَ فِرْعَوْنَ شَهِدَتْ بِأنَّ الإلَهَ لَوْ كانَ مَوْجُودًا لَكانَ في السَّماءِ، قُلْنا: نَحْنُ لا نُنْكِرُ أنَّ فِطْرَةَ أكْثَرِ النّاسِ تُخَيِّلُ إلَيْهِمْ صِحَّةَ ذَلِكَ لا سِيَّما مَن بَلَغَ في الحَماقَةِ إلى دَرَجَةِ فِرْعَوْنَ فَثَبَتَ أنَّ هَذا الكَلامَ ساقِطٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النّاسُ في أنَّ فِرْعَوْنَ هَلْ قَصَدَ بِناءَ الصَّرْحِ لِيَصْعَدَ مِنهُ إلى السَّماءِ أمْ لا؟ أمّا الظّاهِرِيُّونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ فَقَدْ قَطَعُوا بِذَلِكَ، وذَكَرُوا حِكايَةً طَوِيلَةً في كَيْفِيَّةِ بِناءِ ذَلِكَ الصَّرْحِ، والَّذِي عِنْدِي أنَّهُ بَعِيدٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنْ يُقالَ: فِرْعَوْنُ لا يَخْلُو إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مِنَ المَجانِينِ أوْ كانَ مِنَ العُقَلاءِ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ مِنَ المَجانِينِ لَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ تَعالى إرْسالُ الرَّسُولِ إلَيْهِ؛ لِأنَّ العَقْلَ شَرْطٌ في التَّكْلِيفِ، ولَمْ يَجُزْ مِنَ اللَّهِ أنْ يَذْكُرَ حِكايَةَ كَلامِ مَجْنُونٍ في القُرْآنِ، وأمّا إنْ قُلْنا: إنَّهُ كانَ مِنَ العُقَلاءِ فَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ عاقِلٍ يَعْلَمُ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أنَّهُ يَتَعَذَّرُ في قُدْرَةِ البَشَرِ وضْعُ بِناءٍ يَكُونُ أرْفَعَ مِنَ الجَبَلِ العالِي، ويَعْلَمُ أيْضًا بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ أنَّهُ لا يَتَفاوَتُ في البَصَرِ حالُ السَّماءِ بَيْنَ أنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِن أسْفَلِ الجِبالِ وبَيْنَ أنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ مِن أعْلى الجِبالِ، وإذا كانَ هَذانِ العِلْمانِ بَدِيهِيَّيْنِ امْتَنَعَ أنْ يَقْصِدَ العاقِلُ وضْعَ بِناءٍ يَصْعَدُ مِنهُ إلى السَّماءِ، وإذا كانَ فَسادُ هَذا مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ امْتَنَعَ إسْنادُهُ إلى فِرْعَوْنَ، والَّذِي عِنْدِي في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ فِرْعَوْنَ كانَ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وغَرَضُهُ مِن ذِكْرِ هَذا الكَلامِ إيرادُ شُبْهَةٍ في نَفْيِ الصّانِعِ، وتَقْرِيرُهُ أنَّهُ قالَ: إنّا لا نَرى شَيْئًا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأنَّهُ إلَهُ العالَمِ فَلَمْ يَجُزْ إثْباتُ هَذا الإلَهِ، أمّا إنَّهُ لا نَراهُ فَلِأنَّهُ لَوْ كانَ مَوْجُودًا لَكانَ في السَّماءِ ونَحْنُ لا سَبِيلَ لَنا إلى صُعُودِ السَّماواتِ فَكَيْفَ يُمْكِنُنا أنْ نَراهُ، ثُمَّ إنَّهُ لِأجْلِ المُبالَغَةِ في بَيانِ أنَّهُ لا يُمْكِنُهُ صُعُودُ السَّماواتِ قالَ: ﴿ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ﴾ والمَقْصُودُ أنَّهُ لَمّا عَرَفَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ هَذا الطَّرِيقَ مُمْتَنِعٌ كانَ الوُصُولُ إلى مَعْرِفَةِ وُجُودِ اللَّهِ (p-٥٨)بِطَرِيقِ الحِسِّ مُمْتَنِعًا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا في الأرْضِ أوْ سُلَّمًا في السَّماءِ فَتَأْتِيَهم بِآيَةٍ﴾ [الأنْعامِ: ٣٥] ولَيْسَ المُرادُ مِنهُ أنَّ مُحَمَّدًا ﷺ طَلَبَ نَفَقًا في الأرْضِ أوْ وضَعَ سُلَّمًا إلى السَّماءِ، بَلِ المَعْنى أنَّهُ لَمّا عُرِفَ أنَّ هَذا المَعْنى مُمْتَنِعٌ فَقَدْ عُرِفَ أنَّهُ لا سَبِيلَ لَكَ إلى تَحْصِيلِ ذَلِكَ المَقْصُودِ، فَكَذا هاهُنا غَرَضُ فِرْعَوْنَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا﴾ يَعْنِي أنَّ الِاطِّلاعَ عَلى إلَهِ مُوسى لَمّا كانَ لا سَبِيلَ إلَيْهِ إلّا بِهَذا الطَّرِيقِ وكانَ هَذا الطَّرِيقُ مُمْتَنِعًا، فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ مِنهُ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَةِ الإلَهِ الَّذِي يُثْبِتُهُ مُوسى. فَنَقُولُ: هَذا ما حَصَّلْتُهُ في هَذا البابِ. واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ فاسِدَةٌ؛ لِأنَّ طُرُقَ العِلْمِ ثَلاثَةٌ الحِسُّ والخَبَرُ والنَّظَرُ، ولا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفاءِ طَرِيقٍ واحِدٍ وهو الحِسُّ انْتِفاءَ المَطْلُوبِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ قَدْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ أنَّ الطَّرِيقَ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى إنَّما هو الحُجَّةُ والدَّلِيلُ كَما قالَ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ﴾ (الشُّعَراءِ: ٢٨) إلّا أنَّ فِرْعَوْنَ لِخُبْثِهِ ومَكْرِهِ تَغافَلَ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وألْقى إلى الجُهّالِ أنَّهُ لَمّا كانَ لا طَرِيقَ إلّا الإحْساسُ بِهَذا الإلَهِ وجَبَ نَفْيُهُ، فَهَذا ما عِنْدِي في هَذا البابِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ والعِصْمَةُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ تَعالى خَلَقَ جَواهِرَ الأفْلاكِ وحَرَكاتِها بِحَيْثُ تَكُونُ هي الأسْبابُ لِحُدُوثِ الحَوادِثِ في هَذا العالَمِ الأسْفَلِ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السَّماواتِ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّها لَيْسَتْ أسْبابًا إلّا لِحَوادِثِ هَذا العالَمِ قالُوا: ويُؤَكِّدُ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ ص: ﴿فَلْيَرْتَقُوا في الأسْبابِ﴾ [ص: ١٠] أمّا المُفَسِّرُونَ فَقَدْ ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السَّماواتِ﴾ أنَّ المُرادَ بِأسْبابِ السَّماواتِ طُرُقُها وأبْوابُها وما يُؤَدِّي إلَيْها، وكُلُّ ما أدّاكَ إلى شَيْءٍ فَهو سَبَبٌ كالرَّشادِ ونَحْوِهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَتِ اليَهُودُ: أطْبَقَ الباحِثُونَ عَنْ تَوارِيخِ بَنِي إسْرائِيلَ وفِرْعَوْنَ أنَّ هامانَ ما كانَ مَوْجُودًا البَتَّةَ في زَمانِ مُوسى وفِرْعَوْنَ وإنَّما جاءَ بَعْدَهُما بِزَمانٍ مَدِيدٍ ودَهْرٍ داهِرٍ، فالقَوْلُ بِأنَّ هامانَ كانَ مَوْجُودًا في زَمانِ فِرْعَوْنَ خَطَأٌ في التّارِيخِ، ولَيْسَ لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ وُجُودَ شَخْصٍ يُسَمّى بِهامانَ بَعْدَ زَمانِ فِرْعَوْنَ لا يَمْنَعُ مِن وُجُودِ شَخْصٍ آخَرَ يُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ في زَمانِهِ، قالُوا: لِأنَّ هَذا الشَّخْصَ المُسَمّى بِهامانَ الَّذِي كانَ مَوْجُودًا في زَمانِ فِرْعَوْنَ ما كانَ شَخْصًا خَسِيسًا في حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ بَلْ كانَ كالوَزِيرِ لَهُ، ومِثْلُ هَذا الشَّخْصِ لا يَكُونُ مَجْهُولَ الوَصْفِ والحِلْيَةِ، فَلَوْ كانَ مَوْجُودًا لَعُرِفَ حالُهُ، وحَيْثُ أطْبَقَ الباحِثُونَ عَنْ أحْوالِ فِرْعَوْنَ ومُوسى أنَّ الشَّخْصَ المُسَمّى بِهامانَ ما كانَ مَوْجُودًا في زَمانِ فِرْعَوْنَ وإنَّما جاءَ بَعْدَهُ بِأدْوارٍ عُلِمَ أنَّهُ غَلَطٌ وقَعَ في التَّوارِيخِ، قالُوا: ونَظِيرُ هَذا أنّا نَعْرِفُ في دِينِ الإسْلامِ أنَّ أبا حَنِيفَةَ إنَّما جاءَ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَوْ أنَّ قائِلًا ادَّعى أنَّ أبا حَنِيفَةَ كانَ مَوْجُودًا في زَمانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وزَعَمَ أنَّهُ شَخْصٌ آخَرُ سِوى الأوَّلِ وهو أيْضًا يُسَمّى بِأبِي حَنِيفَةَ، فَإنَّ أصْحابَ التَّوارِيخِ يَقْطَعُونَ بِخَطَئِهِ فَكَذا هاهُنا. والجَوابُ: أنَّ تَوارِيخَ مُوسى وفِرْعَوْنَ قَدْ طالَ العَهْدُ بِها واضْطَرَبَتِ الأحْوالُ والأدْوارُ فَلَمْ يَبْقَ عَلى كَلامِ أهْلِ التَّوارِيخِ اعْتِمادٌ في هَذا البابِ، فَكانَ الأخْذُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى أوْلى بِخِلافِ حالِ رَسُولِنا مَعَ أبِي حَنِيفَةَ فَإنَّ هَذِهِ التَّوارِيخَ قَرِيبَةٌ غَيْرُ مُضْطَرِبَةٍ، بَلْ هي مَضْبُوطَةٌ فَظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ البابَيْنِ، فَهَذا جُمْلَةُ ما يَتَعَلَّقُ بِالمَباحِثِ المَعْنَوِيَّةِ في هَذِهِ الآيَةِ، وبَقِيَ ما يَتَعَلَّقُ بِالمَباحِثِ اللَّفْظِيَّةِ. قِيلَ: ”الصَّرْحُ“ البِناءُ الظّاهِرُ لا يَخْفى عَلى النّاظِرِ وإنْ بَعُدَ، اشْتَقُّوهُ مِن صَرْحِ الشَّيْءِ إذا ظَهَرَ و﴿أسْبابَ السَّماواتِ﴾ طُرُقُها، فَإنْ قِيلَ: ما فائِدَةُ هَذا التَّكْرِيرِ، لَوْ قِيلَ: لَعَلِّي أبْلُغُ أسْبابَ السَّماواتِ، كانَ (p-٥٩)كافِيًا؟ أجابَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ عَنْهُ فَقالَ: إذا أُبْهِمَ الشَّيْءُ ثُمَّ أُوضِحَ كانَ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ، فَلَمّا أرادَ تَفْخِيمَ أسْبابِ السَّماواتِ أبْهَمَها ثُمَّ أوْضَحَها، وقَوْلُهُ: ﴿فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى﴾ قَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ”فَأطَّلِعَ“ بِفَتْحِ العَيْنِ والباقُونَ بِالرَّفْعِ، قالَ المُبَرِّدُ: مَن رَفَعَ فَقَدْ عَطَفَهُ عَلى قَوْلِهِ: ﴿أبْلُغُ﴾ والتَّقْدِيرُ ﴿لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ﴾ ثُمَّ أطَّلِعُ إلّا أنَّ حَرْفَ ثُمَّ أشَدُّ تَراخِيًا مِنَ الفاءِ، ومَن نَصَبَ جَعَلَهُ جَوابًا، والمَعْنى لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ فَمَتى بَلَغْتُها أطَّلِعُ والمَعْنى مُخْتَلِفٌ؛ لِأنَّ الأوَّلَ: لَعَلِّي أطَّلِعُ، والثّانِي: لَعَلِّي أبْلُغُ وأنا ضامِنٌ أنِّي مَتى بَلَغْتُ فَلا بُدَّ وأنْ أطَّلِعَ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْ فِرْعَوْنَ هَذِهِ القِصَّةَ قالَ بَعْدَها: ﴿وكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”وصُدَّ“ بِضَمِّ الصّادِ، قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: وبِهِ يُقْرَأُ؛ لِأنَّ ما قَبْلَهُ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ بِهِ فَجَعَلَ ما عُطِفَ عَلَيْهِ مِثْلُهُ، والباقُونَ ”وصَدَّ“ بِفَتْحِ الصّادِ عَلى أنَّهُ مَنَعَ النّاسَ عَنِ الإيمانِ، قالُوا: ومِن صَدِّهِ قَوْلُهُ ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكُمْ﴾ [الأعْرافِ: ١٢٤] ويُؤَيِّدُ هَذِهِ القِراءَةَ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ [الفَتْحِ: ٢٥] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿زُيِّنَ﴾ لا بُدَّ لَهُ مِنَ المُزَيِّنِ، فَقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: إنَّهُ الشَّيْطانُ، فَقِيلَ لَهم: إنْ كانَ المُزَيِّنُ لِفِرْعَوْنَ هو الشَّيْطانُ، فالمُزَيِّنُ لِلشَّيْطانِ إنْ كانَ شَيْطانًا آخَرَ لَزِمَ إثْباتُ التَّسَلْسُلِ في الشَّياطِينِ أوِ الدَّوْرِ وهو مُحالٌ، ولَمّا بَطَلَ ذَلِكَ وجَبَ انْتِهاءُ الأسْبابِ والمُسَبِّباتِ في دَرَجاتِ الحاجاتِ إلى واجِبِ الوُجُودِ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ ﴿زُيِّنَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الشَّيْءَ إنْ لَمْ يَكُنْ في اعْتِقادِ الفاعِلِ مَوْصُوفًا بِأنَّهُ خَيْرٌ وزِينَةٌ وحُسْنٌ فَإنَّهُ لا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، إلّا أنَّ ذَلِكَ الِاعْتِقادَ إنْ كانَ صَوابًا فَهو العِلْمُ، وإنْ كانَ خَطَأً فَهو الجَهْلُ، فَفاعِلُ ذَلِكَ الجَهْلِ لَيْسَ هو ذَلِكَ الإنْسانُ؛ لِأنَّ العاقِلَ لا يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الجَهْلِ لِنَفْسِهِ، ولِأنَّهُ إنَّما يَقْصِدُ تَحْصِيلَ الجَهْلِ لِنَفْسِهِ إذا عَرَفَ كَوْنَهُ جَهْلًا، ومَتى عَرَفَ كَوْنَهُ جَهْلًا امْتَنَعَ بَقاؤُهُ جاهِلًا، فَثَبَتَ أنَّ فاعِلَ ذَلِكَ الجَهْلِ لَيْسَ هو ذَلِكَ الإنْسانُ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ فاعِلُهُ هو الشَّيْطانُ؛ لِأنَّ البَحْثَ الأوَّلَ بِعَيْنِهِ عائِدٌ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يَكُونَ فاعِلُهُ هو اللَّهُ تَعالى. واللَّهُ أعْلَمُ. ويُقَوِّي ما قُلْناهُ أنَّ صاحِبَ ”الكَشّافِ“ نَقَلَ أنَّهُ قُرِئَ ”وزَيَّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ“ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ والفِعْلُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿إلى إلَهِ مُوسى﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلّا في تَبابٍ﴾ والتَّبابُ الهَلاكُ والخُسْرانُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما زادُوهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ [هُودٍ: ١٠١] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ [المَسَدِ: ١] . واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب