الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياقَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ فَمَن يَنْصُرُنا مِن بَأْسِ اللَّهِ إنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكم إلّا ما أرى وما أهْدِيكم إلّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ ﴿وقالَ الَّذِي آمَنَ ياقَوْمِ إنِّي أخافُ عَلَيْكم مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ﴾ ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ ﴿ويا قَوْمِ إنِّي أخافُ عَلَيْكم يَوْمَ التَّنادِ﴾ ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكم مِنَ اللَّهِ مِن عاصِمٍ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ اعْلَمْ أنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمّا أقامَ أنْواعَ الدَّلائِلِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ الإقْدامُ عَلى قَتْلِ مُوسى، خَوَّفَهم في ذَلِكَ بِعَذابِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿ياقَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ﴾ يَعْنِي قَدْ عَلَوْتُمُ النّاسَ وقَهَرْتُمُوهم، فَلا تُفْسِدُوا أمْرَكم عَلى أنْفُسِكم ولا تَتَعَرَّضُوا لِبَأْسِ اللَّهِ وعَذابِهِ، فَإنَّهُ لا قِبَلَ لَكم بِهِ، وإنَّما قالَ: ﴿يَنْصُرُنا﴾ و﴿جاءَنا﴾ لِأنَّهُ كانَ يُظْهِرُ مِن نَفْسِهِ أنَّهُ مِنهم وأنَّ الَّذِي يَنْصَحُهم بِهِ هو مُشارِكٌ لَهم فِيهِ، ولَمّا قالَ ذَلِكَ المُؤْمِنُ هَذا الكَلامَ ﴿قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكم إلّا ما أرى﴾ أيْ لا أُشِيرُ إلَيْكم بِرَأْيٍ سِوى ما ذَكَرْتُهُ أنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ حَسْمًا (p-٥٣)لِمادَّةِ الفِتْنَةِ ﴿وما أهْدِيكُمْ﴾ بِهَذا الرَّأْيِ ﴿إلّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ والصَّلاحِ، ثُمَّ حَكى تَعالى أنَّ ذَلِكَ المُؤْمِنَ رَدَّ هَذا الكَلامَ عَلى فِرْعَوْنَ فَقالَ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ ذَلِكَ المُؤْمِنِ أنَّهُ كانَ يَكْتُمُ إيمانَهُ، والَّذِي يَكْتُمُ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أنَّ يَذْكُرَ هَذِهِ الكَلِماتِ مَعَ فِرْعَوْنَ، ولِهَذا السَّبَبِ حَصَلَ هاهُنا قَوْلانِ؛ الأوَّلُ: أنَّ فِرْعَوْنَ لَمّا قالَ: ﴿ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى﴾ لَمْ يُصَرِّحْ ذَلِكَ المُؤْمِنُ بِأنَّهُ عَلى دِينِ مُوسى، بَلْ أوْهَمَ أنَّهُ مَعَ فِرْعَوْنَ وعَلى دِينِهِ، إلّا أنَّهُ زَعَمَ أنَّ المَصْلَحَةَ تَقْتَضِي تَرْكَ قَتْلِ مُوسى؛ لِأنَّهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ إلّا الدَّعْوَةُ إلى اللَّهِ والإتْيانُ بِالمُعْجِزاتِ القاهِرَةِ، وهَذا لا يُوجِبُ القَتْلَ، والإقْدامُ عَلى قَتْلِهِ يُوجِبُ الوُقُوعَ في ألْسِنَةِ النّاسِ بِأقْبَحِ الكَلِماتِ، بَلِ الأوْلى أنْ يُؤَخَّرَ قَتْلُهُ وأنْ يُمْنَعَ مِن إظْهارِ دِينِهِ؛ لِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ إنْ كانَ كاذِبًا كانَ وبالُ كَذِبِهِ عائِدًا إلَيْهِ، وإنْ كانَ صادِقًا حَصَلَ الِانْتِفاعُ بِهِ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ يَعْنِي أنَّهُ إنْ صَدَقَ فِيما يَدَّعِيهِ مِن إثْباتِ الإلَهِ القادِرِ الحَكِيمِ فَهو لا يَهْدِي المُسْرِفَ الكَذّابَ، فَأوْهَمَ فِرْعَوْنَ أنَّهُ أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ أنَّهُ يُرِيدُ مُوسى وهو إنَّما كانَ يَقْصِدُ بِهِ فِرْعَوْنَ؛ لِأنَّ المُسْرِفَ الكَذّابَ هو فِرْعَوْنُ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كانَ يَكْتُمُ إيمانَهُ أوَّلًا، فَلَمّا قالَ فِرْعَوْنُ: ﴿ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى﴾ أزالَ الكِتْمانَ وأظْهَرَ كَوْنَهُ عَلى دِينِ مُوسى، وشافَهَ فِرْعَوْنَ بِالحَقِّ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْ هَذا المُؤْمِنِ أنْواعًا مِنَ الكَلِماتِ ذَكَرَها لِفِرْعَوْنَ. فالأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿ياقَوْمِ إنِّي أخافُ عَلَيْكم مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ﴾ والتَّقْدِيرُ مِثْلُ أيّامِ الأحْزابِ، إلّا أنَّهُ لَمّا أضافَ اليَوْمَ إلى الأحْزابِ، وفَسَّرَهم بِقَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ، فَحِينَئِذٍ ظَهَرَ أنَّ كُلَّ حِزْبٍ كانَ لَهُ يَوْمٌ مُعَيَّنٌ في البَلاءِ، فاقْتَصَرَ مِنَ الجَمْعِ عَلى ذِكْرِ الواحِدِ لِعَدَمِ الِالتِباسِ، ثُمَّ فَسَّرَ قَوْلَهُ: ﴿إنِّي أخافُ عَلَيْكم مِثْلَ يَوْمِ الأحْزابِ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ﴾ ودَأْبُ هَؤُلاءِ دُونَهم في عَمَلِهِمْ مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ وسائِرِ المَعاصِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ دائِبًا ودائِمًا لا يَفْتَرُونَ عَنْهُ، ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مُضافٍ، يُرِيدُ: مِثْلَ جَزاءِ دَأْبِهِمْ، والحاصِلُ أنَّهُ خَوَّفَهم بِهَلاكٍ مُعَجَّلٍ في الدُّنْيا، ثُمَّ خَوَّفَهم أيْضًا بِهَلاكِ الآخِرَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى عَذابِ الآخِرَةِ. والنَّوْعُ الثّانِي مِن كَلِماتِ ذَلِكَ المُؤْمِنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ يَعْنِي أنَّ تَدْمِيرَ أُولَئِكَ الأحْزابِ كانَ عَدْلًا؛ لِأنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوهُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ لِلْأنْبِياءِ، فَتِلْكَ الجُمْلَةُ قائِمَةٌ هاهُنا، فَوَجَبَ حُصُولُ الحُكْمِ هاهُنا، قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: ﴿وما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يُرِيدُ أنْ يَظْلِمَ بَعْضُ العِبادِ بَعْضًا، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يُرِيدُ ظُلْمَ أحَدٍ مِنَ العِبادِ، فَلَوْ خَلَقَ الكُفْرَ فِيهِمْ ثُمَّ عَذَّبَهم عَلى ذَلِكَ الكُفْرِ لَكانَ ظالِمًا، وإذا ثَبَتَ أنَّهُ لا يُرِيدُ الظُّلْمَ البَتَّةَ ثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ خالِقٍ لِأفْعالِ العِبادِ؛ لِأنَّهُ لَوْ خَلَقَها لَأرادَها، وثَبَتَ أيْضًا أنَّهُ قادِرٌ عَلى الظُّلْمِ، إذْ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ لَما حَصَلَ المَدْحُ بِتَرْكِ الظُّلْمِ، وهَذا الِاسْتِدْلالُ قَدْ ذَكَرْناهُ مِرارًا في هَذا الكِتابِ مَعَ الجَوابِ، فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. النَّوْعُ الثّالِثُ مِن كَلِماتِ هَذا المُؤْمِنِ قَوْلُهُ: ﴿ويا قَوْمِ إنِّي أخافُ عَلَيْكم يَوْمَ التَّنادِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: التَّنادِي تَفاعُلٌ مِنَ النِّداءِ، يُقالُ: تَنادى القَوْمُ؛ أيْ نادى بَعْضُهم بَعْضًا، والأصْلُ الياءُ وحَذْفُ الياءِ حَسَنٌ في الفَواصِلِ، وذَكَرْنا ذَلِكَ في ﴿يَوْمَ التَّلاقِ﴾ وأجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ ﴿يَوْمَ التَّنادِ﴾ يَوْمُ (p-٥٤)القِيامَةِ، وفي سَبَبِ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ اليَوْمِ بِذَلِكَ الِاسْمِ وُجُوهٌ؛ الأوَّلُ: أنَّ أهْلَ النّارِ يُنادُونَ أهْلَ الجَنَّةِ، وأهْلَ الجَنَّةِ يُنادُونَ أهْلَ النّارِ، كَما ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهم في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ أصْحابَ الجَنَّةِ﴾ [الأعْرافِ: ٥٠]، ﴿ونادى أصْحابُ الجَنَّةِ أصْحابَ النّارِ﴾، الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإمامِهِمْ﴾ [الإسْراءِ: ٧١] . الثّالِثُ: أنَّهُ يُنادِي بَعْضُ الظّالِمِينَ بَعْضًا بِالوَيْلِ والثُّبُورِ فَيَقُولُونَ: ﴿ياوَيْلَنا﴾ [الأنْبِياءِ: ٩٧] . الرّابِعُ: يُنادَوْنَ إلى المَحْشَرِ، أيْ يُدْعَوْنَ. الخامِسُ: يُنادِي المُؤْمِنُ ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ [الحاقَّةِ: ١٩] والكافِرُ ﴿يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ﴾ [الحاقَّةِ: ٢٥] . السّادِسُ: يُنادى بِاللَّعْنَةِ عَلى الظّالِمِينَ. السّابِعُ: يُجاءُ بِالمَوْتِ عَلى صُورَةِ كَبْشٍ أمْلَحَ ثُمَّ يُذْبَحُ ويُنادى: يا أهْلَ القِيامَةِ لا مَوْتَ، فَيَزْدادُ أهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا عَلى فَرَحِهِمْ، وأهْلُ النّارِ حُزْنًا عَلى حُزْنِهِمْ. الثّامِنُ: قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: التَّنادِي مُشْتَقٌّ مِنَ التَّنادِّ، مِن قَوْلِهِمْ: نَدَّ فُلانٌ: إذا هَرَبَ، وهو قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ، وفَسَّرَها فَقالَ: يَنِدُّونَ كَما تَنِدُّ الإبِلُ، ويَدُلُ عَلى صِحَّةِ هَذِهِ القِراءَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِن أخِيهِ﴾ [عَبَسَ: ٣٤] الآيَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ لِأنَّهم إذا سَمِعُوا زَفِيرَ النّارِ يَنِدُّونَ هارِبِينَ، فَلا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنَ الأقْطارِ إلّا وجَدُوا مَلائِكَةً صُفُوفًا، فَيَرْجِعُونَ إلى المَكانِ الَّذِي كانُوا فِيهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: انْتَصَبَ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ التَّنادِ﴾ لِوَجْهَيْنِ؛ أحَدُهُما: الظَّرْفُ لِلْخَوْفِ، كَأنَّهُ خافَ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ، لِما يَلْحَقُهم مِنَ العَذابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. والآخَرُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ”إنِّي أخافُ عَلَيْكم عَذابَ يَوْمِ التَّنادِ“ وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ انْتِصابُ يَوْمٍ انْتِصابَ المَفْعُولِ بِهِ، لا انْتِصابَ الظَّرْفِ؛ لِأنَّ إعْرابَهُ إعْرابُ المُضافِ المَحْذُوفِ، ثُمَّ قالَ: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ وهو بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ التَّنادِ﴾ عَنْ قَتادَةَ: مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَوْقِفِ يَوْمِ الحِسابِ إلى النّارِ، وعَنْ مُجاهِدٍ: فارِّينَ عَنِ النّارِ غَيْرَ مُعْجِزِينَ، ثُمَّ أكَّدَ التَّهْدِيدَ فَقالَ: ﴿ما لَكم مِنَ اللَّهِ مِن عاصِمٍ﴾ ثُمَّ نَبَّهَ عَلى قُوَّةِ ضَلالَتِهِمْ وشِدَّةِ جَهالَتِهِمْ فَقالَ: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن هادٍ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب