الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما لَكم في المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ واللَّهُ أرْكَسَهم بِما كَسَبُوا أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَن أضَلَّ اللَّهُ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِن أحْوالِ المُنافِقِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى، وهَهُنا مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ وُجُوهًا:
الأوَّلُ: أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ قَدِمُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ وآلِهِ مُسْلِمِينَ فَأقامُوا بِالمَدِينَةِ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قالُوا يا رَسُولَ اللَّهِ: نُرِيدُ أنْ نَخْرُجَ إلى الصَّحْراءِ فائْذَنْ لَنا فِيهِ، فَأذِنَ لَهم، فَلَمّا خَرَجُوا لَمْ يَزالُوا يَرْحَلُونَ مَرْحَلَةً مَرْحَلَةً حَتّى لَحِقُوا بِالمُشْرِكِينَ فَتَكَلَّمَ المُؤْمِنُونَ فِيهِمْ، فَقالَ بَعْضُهم: لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مِثْلَنا لَبَقَوْا مَعَنا وصَبَرُوا كَما صَبَرْنا، وقالَ قَوْمٌ: هم مُسْلِمُونَ، ولَيْسَ لَنا أنْ نَنْسِبَهم إلى الكُفْرِ إلى أنْ يَظْهَرَ أمْرُهم، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى نِفاقَهم في هَذِهِ الآيَةِ.
الثّانِي: نَزَلَتِ الآيَةُ في قَوْمٍ أظْهَرُوا الإسْلامَ بِمَكَّةَ، وكانُوا يُعِينُونَ المُشْرِكِينَ عَلى المُسْلِمِينَ. فاخْتَلَفَ المُسْلِمُونَ فِيهِمْ وتَشاجَرُوا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ.
الثّالِثُ: نَزَلَتِ الآيَةُ في الَّذِينَ تَخَلَّفُوا يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وقالُوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لاتَّبَعْناكم، فاخْتَلَفَ أصْحابُ الرَّسُولِ ﷺ فِيهِمْ، فَمِنهم فِرْقَةٌ يَقُولُونَ: كَفَرُوا، وآخَرُونَ قالُوا: لَمْ يَكْفُرُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وهو قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ، ومِنهم مَن طَعَنَ في هَذا الوَجْهِ وقالَ: في نَسَقِ الآيَةِ ما يَقْدَحُ فِيهِ، وإنَّهم مِن أهْلِ مَكَّةَ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنهم أوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
الرّابِعُ: نَزَلَتِ الآيَةُ في قَوْمٍ ضَلُّوا وأخَذُوا أمْوالَ المُسْلِمِينَ وانْطَلَقُوا بِها إلى اليَمامَةِ فاخْتَلَفَ المُسْلِمُونَ فِيهِمْ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ: وهو قَوْلُ عِكْرِمَةَ.
الخامِسُ: هُمُ العُرَنِيُّونَ الَّذِينَ أغارُوا وقَتَلُوا يَسارًا مَوْلى الرَّسُولِ ﷺ .
السّادِسُ: قالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ في أهْلِ الإفْكِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في مَعْنى الآيَةِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ ”فِئَتَيْنِ“ نُصِبَ عَلى الحالِ: كَقَوْلِكَ: ما لَكَ قائِمًا، أيْ ما لَكَ في حالِ القِيامِ، وهَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ.
الثّانِي: أنَّهُ نُصِبَ عَلى خَبَرِ كانَ، والتَّقْدِيرُ: ما لَكم صِرْتُمْ في المُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ؟ وهو اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، أيْ لِمَ تَخْتَلِفُونَ في كُفْرِهِمْ مَعَ أنَّ دَلائِلَ كُفْرِهِمْ ونِفاقِهِمْ ظاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، فَلَيْسَ لَكم أنْ تَخْتَلِفُوا فِيهِ بَلْ يَجِبُ أنْ تَقْطَعُوا بِكُفْرِهِمْ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الحَسَنُ: إنَّما سَمّاهم مُنافِقِينَ وإنْ أظْهَرُوا الكُفْرَ لِأنَّهم وُصِفُوا بِالصِّفَةِ الَّتِي كانُوا عَلَيْها مِن قَبْلُ، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فِئَتَيْنِ﴾ ما بَيَّنّا أنَّ فِرْقَةً مِنهم كانَتْ تَمِيلُ إلَيْهِمْ وتَذُبُّ عَنْهم وتُوالِيهِمْ، وفِرْقَةً مِنهم تُبايِنُهم وتُعادِيهِمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وأُمِرُوا بِأنْ يَكُونُوا عَلى نَهْجٍ واحِدٍ في التَّبايُنِ والتَّبَرِّي والتَّكْفِيرِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى مُخْبِرًا عَنْ كُفْرِهِمْ: ﴿واللَّهُ أرْكَسَهم بِما كَسَبُوا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الرَّكْسُ: رَدُّ الشَّيْءِ مِن آخِرِهِ إلى أوَّلِهِ، فالرَّكْسُ والنَّكْسُ والمَرْكُوسُ والمَنكُوسُ واحِدٌ، ومِنهُ يُقالُ لِلرَّوَثِ الرَّكْسُ لِأنَّهُ رُدَّ إلى حالَةٍ خَسِيسَةٍ، وهي حالَةُ النَّجاسَةِ، ويُسَمّى رَجِيعًا لِهَذا المَعْنى (p-١٧٥)أيْضًا، وفِيهِ لُغَتانِ: رَكَسَهم وأرْكَسَهم فارْتَكَسُوا، أيِ ارْتَدُّوا. وقالَ أُمَيَّةُ.
؎فَأُرْكِسُوا في حَمِيمِ النّارِ إنَّهم كانُوا عُصاةً وقالُوا الإفْكَ والزُّورا
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَعْنى الآيَةِ أنَّهُ رَدَّهم إلى أحْكامِ الكُفّارِ مِنَ الذُّلِّ والصَّغارِ والسَّبْيِ والقَتْلِ بِما كَسَبُوا، أيْ بِما أظْهَرُوا مِنَ الِارْتِدادِ بَعْدَما كانُوا عَلى النِّفاقِ، وذَلِكَ أنَّ المُنافِقَ ما دامَ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا في الظّاهِرِ بِالشَّهادَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَنا سَبِيلٌ إلى قَتْلِهِ، فَإذا أظْهَرَ الكُفْرَ فَحِينَئِذٍ يُجْرِي اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ أحْكامَ الكُفّارِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ﴿واللَّهُ أرْكَسَهُمْ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ أرْكَسَ ورَكَسَ لُغَتانِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَن أضَلَّ اللَّهُ ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ قالَتِ المُعْتَزِلَةُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿أضَلَّ اللَّهُ﴾ لَيْسَ أنَّهُ هو خَلَقَ الضَّلالَ فِيهِ لِلْوُجُوهِ المَشْهُورَةِ، ولِأنَّهُ تَعالى قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿واللَّهُ أرْكَسَهم بِما كَسَبُوا﴾ فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما رَدَّهم وطَرَدَهم بِسَبَبِ كَسْبِهِمْ وفِعْلِهِمْ، وذَلِكَ يَنْفِي القَوْلَ بِأنَّ إضْلالَهم حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّهِ وعِنْدَ هَذا حَمَلُوا قَوْلَهُ: ﴿مَن أضَلَّ اللَّهُ﴾ عَلى وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: المُرادُ مِنهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكَمَ بِضَلالِهِمْ وكُفْرِهِمْ كَما يُقالُ فُلانٌ يُكَفِّرُ فُلانًا ويُضِلُّهُ: بِمَعْنى أنَّهُ حَكَمَ بِهِ وأخْبَرَ عَنْهُ.
الثّانِي: أنَّ المَعْنى أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا إلى الجَنَّةِ مَن أضَلَّهُ اللَّهُ عَنْ طَرِيقِ الجَنَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى يُضِلُّ الكُفّارَ يَوْمَ القِيامَةِ عَنِ الِاهْتِداءِ إلى طَرِيقِ الجَنَّةِ.
الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ هَذا الإضْلالُ مُفَسَّرًا بِمَنعِ الألْطافِ:
واعْلَمْ أنّا قَدْ ذَكَرْنا في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن هَذا الكِتابِ ضَعْفَ هَذِهِ الوُجُوهِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَبْ أنَّها صَحِيحَةٌ، ولَكِنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنْ كُفْرِهِمْ وضَلالِهِمْ، وأنَّهم لا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ فَقَدْ تَوَجَّهَ الإشْكالُ لِأنَّ انْقِلابَ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى جَهْلًا مُحالٌ، والمُفْضِي إلى المُحالِ مُحالٌ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الآيَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى أضَلَّهم عَنِ الدِّينِ قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ فالمُؤْمِنُونَ في الدُّنْيا إنَّما كانُوا يُرِيدُونَ مِنَ المُنافِقِينَ الإيمانَ ويَحْتالُونَ في إدْخالِهِمْ فِيهِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى لَمّا أضَلَّهم عَنِ الإيمانِ امْتَنَعَ أنْ يَجِدَ المَخْلُوقُ سَبِيلًا إلى إدْخالِهِ في الإيمانِ، وهَذا ظاهِرٌ.
* *
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ودُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنهم أوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ .
وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا مَن أضَلَّ اللَّهُ﴾ [النساء: ٨٨] وكانَ ذَلِكَ اسْتِفْهامًا عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ قَرَّرَ ذَلِكَ الِاسْتِبْعادَ بِأنْ قالَ: إنَّهم بَلَغُوا في الكُفْرِ إلى أنَّهم يَتَمَنَّوْنَ أنْ تَصِيرُوا أيُّها المُسْلِمُونَ كُفّارًا، فَلَمّا بَلَغُوا في تَعَصُّبِهِمْ في الكُفْرِ إلى هَذا الحَدِّ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ في إيمانِهِمْ.
{"ayah":"۞ فَمَا لَكُمۡ فِی ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ فِئَتَیۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوۤا۟ۚ أَتُرِیدُونَ أَن تَهۡدُوا۟ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











