الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في كَيْفِيَّةِ النَّظْمِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنّا بَيَّنّا أنَّ المَقْصُودَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ أنْ لا يَصِيرَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ مَقْتُولًا، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ ذَلِكَ بِالوَعِيدِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ ثُمَّ بالَغَ في تَأْكِيدِ ذَلِكَ الوَعِيدِ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَبَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ التَّوْحِيدَ والعَدْلَ مُتَلازِمانِ، فَقَوْلُهُ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ إشارَةٌ إلى التَّوْحِيدِ، وقَوْلُهُ: ﴿لَيَجْمَعَنَّكم إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ إشارَةٌ إلى العَدْلِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] وكَقَوْلِهِ في طه: ﴿إنَّنِي أنا اللَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا فاعْبُدْنِي وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤] وهو إشارَةٌ إلى التَّوْحِيدِ ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ أكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى﴾ [طه: ١٥] وهو إشارَةٌ إلى العَدْلِ، فَكَذا في هَذِهِ الآيَةِ بَيَّنَ أنَّهُ يَجِبُ في حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ أنْ يَجْمَعَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في عَرَصَةِ القِيامَةِ فَيَنْتَصِفَ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ، ولا شَكَّ أنَّهُ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ. الثّانِي: كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: مَن سَلَّمَ عَلَيْكم وحَيّاكم فاقْبَلُوا سَلامَهُ وأكْرِمُوهُ وعامِلُوهُ بِناءً عَلى الظّاهِرِ، فَإنَّ البَواطِنَ إنَّما يَعْرِفُها اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو، إنَّما تَنْكَشِفُ بَواطِنُ الخَلْقِ لِلْخَلْقِ في يَوْمِ القِيامَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَوْلُهُ: ﴿لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ إمّا خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ، وإمّا اعْتِراضٌ والخَبَرُ ﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ﴾ واللّامُ لامُ القَسَمِ، والتَّقْدِيرُ: واللَّهِ لَيَجْمَعَنَّكم. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: لَيَجْمَعَنَّكم في يَوْمِ القِيامَةِ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: المُرادُ لَيَجْمَعَنَّكم في المَوْتِ أوِ القُبُورِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. الثّانِي: التَّقْدِيرُ: (p-١٧٣)لَيَضُمَّنَّكم إلى ذَلِكَ اليَوْمِ ويَجْمَعُ بَيْنَكم وبَيْنَهُ بِأنْ يَجْمَعَكم فِيهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يُقالَ سُمِّيَتِ القِيامَةُ قِيامَةً لِأنَّ النّاسَ يَقُومُونَ مِن قُبُورِهِمْ، ويَجُوزُ أيْضًا أنْ يُقالَ: سُمِّيَتْ بِهَذا الِاسْمِ لِأنَّ النّاسَ يَقُومُونَ لِلْحِسابِ قالَ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ٦] قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: القِيامُ القِيامَةُ، كالطِّلابِ والطِّلابَةِ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى أثْبَتَ أنَّ القِيامَةَ سَتُوجَدُ لا مَحالَةَ، وجَعَلَ الدَّلِيلَ عَلى ذَلِكَ مُجَرَّدَ إخْبارِ اللَّهِ تَعالى عَنْهُ، وهَذا حَقٌّ، وذَلِكَ لِأنَّ المَسائِلَ الأُصُولِيَّةَ عَلى قِسْمَيْنِ مِنها ما العِلْمُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ يَكُونُ مُحْتاجًا إلى العِلْمِ بِصِحَّتِهِ، ومِنها ما لا يَكُونُ كَذَلِكَ: والأوَّلُ مِثْلُ عِلْمِنا بِافْتِقارِ العالَمِ إلى صانِعٍ عالِمٍ بِكُلِّ المَعْلُوماتِ قادِرٍ عَلى كُلِّ المُمْكِناتِ، فَإنّا ما لَمْ نَعْلَمْ ذَلِكَ لا يُمْكِنُنا العِلْمُ بِصِدْقِ الأنْبِياءِ، فَكُلُّ مَسْألَةٍ هَذا شَأْنُها فَإنَّهُ يَمْتَنِعُ إثْباتُها بِالقُرْآنِ وإخْبارِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإلّا وقَعَ الدَّوْرُ. وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو جُمْلَةُ المَسائِلَ الَّتِي لا يَتَوَقَّفُ العِلْمُ بِصِحَّةِ النُّبُوَّةِ عَلى العِلْمِ بِصِحَّتِها فَكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يُمْكِنُ إثْباتُهُ بِكَلامِ اللَّهِ وإخْبارِهِ ومَعْلُومٌ أنَّ قِيامَ القِيامَةِ كَذَلِكَ، فَلا جَرَمَ أمْكَنَ إثْباتُهُ بِالقُرْآنِ وبِكَلامِ اللَّهِ، فَثَبَتَ أنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى قِيامِ القِيامَةِ بِإخْبارِ اللَّهِ عَنْهُ اسْتِدْلالٌ صَحِيحٌ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ومَن أصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، والمَقْصُودُ مِنهُ بَيانُ أنَّهُ يَجِبُ كَوْنُهُ تَعالى صادِقًا وأنَّ الكَذِبَ والخُلْفَ في قَوْلِهِ مُحالٌ. وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدْ بَنَوْا ذَلِكَ عَلى أصْلِهِمْ، وهو أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِكَوْنِ الكَذِبِ قَبِيحًا، وعالَمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ، وكُلُّ مَن كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يَكْذِبَ. إنَّما قُلْنا: إنَّهُ عالِمٌ بِقُبْحِ الكَذِبِ، وعالِمٌ بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهُ لِأنَّ الكَذِبَ قَبِيحٌ لِكَوْنِهِ كَذِبًا، واللَّهُ تَعالى غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى شَيْءٍ أصْلًا، وثَبَتَ أنَّهُ عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ فَوَجَبَ القَطْعُ بِكَوْنِهِ عالِمًا بِهَذَيْنَ الأمْرَيْنِ، وأمّا أنَّ كُلَّ مَن كانَ كَذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يَكْذِبَ فَهو ظاهِرٌ لِأنَّ الكَذِبَ جِهَةُ صَرْفٍ لا جِهَةَ دُعاءٍ، فَإذا خَلا عَنْ مُعارِضِ الحاجَةِ بَقِيَ ضارًّا مَحْضًا فَيَمْتَنِعُ صُدُورُ الكَذِبِ عَنْهُ، وأمّا أصْحابُنا فَدَلِيلُهم أنَّهُ لَوْ كانَ كاذِبًا لَكانَ كَذِبُهُ قَدِيمًا، ولَوْ كانَ كَذِبُهُ قَدِيمًا لامْتَنَعَ زَوالُ كَذِبِهِ لِامْتِناعِ العَدَمِ عَلى القَدِيمِ، ولَوِ امْتَنَعَ زَوالُ كَذِبِهِ قَدِيمًا لامْتَنَعَ كَوْنُهُ صادِقًا، لِأنَّ وُجُودَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ يَمْنَعُ وُجُودَ الضِّدِّ الآخَرِ، فَلَوْ كانَ كاذِبًا لامْتَنَعَ أنْ يَصْدُقَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، لِأنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ كُلَّ مَن عَلِمَ شَيْئًا فَإنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مُطابِقٍ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، والعِلْمُ بِهَذِهِ الصِّحَّةِ ضَرُورِيٌّ، فَإذا كانَ إمْكانُ الصِّدْقِ قائِمًا كانَ امْتِناعُ الكَذِبِ حاصِلًا لا مَحالَةَ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ القَطْعِ بِكَوْنِهِ تَعالى صادِقًا. * * * المَسْألَةُ السّابِعَةُ: اسْتَدَلَّتِ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ تَعالى مُحْدَثٌ، قالُوا لِأنَّهُ تَعالى وصَفَهُ بِكَوْنِهِ حَدِيثًا في هَذِهِ الآيَةِ وفي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ﴾ [الزمر: ٢٣] والحَدِيثُ هو الحادِثُ أوِ المُحْدَثُ، وجَوابُنا عَنْهُ: إنَّكُما إنَّما تَحْكُمُونَ بِحُدُوثِ الكَلامِ الَّذِي هو الحَرْفُ والصَّوْتُ ونَحْنُ لا نُنازِعُ في حُدُوثِهِ، إنَّما الَّذِي نَدَّعِي قِدَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، والآيَةُ لا تَدُلُّ عَلى حُدُوثِ ذَلِكَ الشَّيْءِ البَتَّةَ بِالِاتِّفاقِ مِنّا ومِنكم، فَأمّا مِنّا فَظاهِرٌ، وأمّا مِنكم فَإنَّكم تُنْكِرُونَ وُجُودَ كَلامٍ سِوى هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُكم أنْ تَقُولُوا بِدَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى حُدُوثِهِ واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب