الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ . فِي النَّظْمِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ لَمّا أمَرَ المُؤْمِنِينَ بِالجِهادِ أمَرَهم أيْضًا بِأنَّ الأعْداءَ لَوْ رَضُوا بِالمَسْألَةِ فَكُونُوا أنْتُمْ أيْضًا راضِينَ بِها، فَقَوْلُهُ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فاجْنَحْ لَها﴾ [الأنفال: ٦١] . الثّانِي: أنَّ الرَّجُلَ في الجِهادِ كانَ يَلْقاهُ الرَّجُلُ في دارِ الحَرْبِ أوْ ما يُقارِبُها فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ، فَقَدْ لا يَلْتَفِتُ إلى سَلامِهِ عَلَيْهِ ويَقْتُلُهُ، ورُبَّما ظَهَرَ أنَّهُ كانَ مُسْلِمًا، فَمَنَعَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ عَنْهُ وأمَرَهم أنَّ كُلَّ مَن يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ويُكْرِمُهم بِنَوْعٍ مِنَ الإكْرامِ يُقابِلُونَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الإكْرامِ أوْ أزْيَدَ، فَإنَّهُ إنْ كانَ كافِرًا لا يَضُرُّ المُسْلِمَ أنْ قابَلَ إكْرامَ ذَلِكَ الكافِرِ بِنَوْعٍ مِنَ الإكْرامِ، أمّا إنْ كانَ مُسْلِمًا وقَتَلَهُ فَفِيهِ أعْظَمُ المَضارِّ والمَفاسِدِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: التَّحِيَّةُ تَفْعِلَةٌ مِن حَيَّيْتُ، وكانَ في الأصْلِ تَحْيِيَةٌ، مِثْلُ التَّوْصِيَةِ والتَّسْمِيَةِ، والعَرَبُ تُؤْثِرُ التَّفْعِلَةَ عَلى التَّفْعِيلِ في ذَواتِ الأرْبَعَةِ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: ٩٤] فَثَبَتَ أنَّ التَّحِيَّةَ أصْلُها (p-١٦٧)التَّحْيِيَةُ ثُمَّ أدْغَمُوا الياءَ في الياءِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ عادَةَ العَرَبِ قَبْلَ الإسْلامِ أنَّهُ إذا لَقِيَ بَعْضُهم بَعْضًا قالُوا: حَيّاكَ اللَّهُ، واشْتِقاقُهُ مِنَ الحَياةِ كَأنَّهُ يَدْعُو لَهُ بِالحَياةِ، فَكانَتِ التَّحِيَّةُ عِنْدَهم عِبارَةً عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ حَيّاكَ اللَّهُ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أُبْدِلَ ذَلِكَ بِالسَّلامِ، فَجَعَلُوا التَّحِيَّةَ اسْمًا لِلسَّلامِ. قالَ تَعالى: ﴿تَحِيَّتُهم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ [الأحزاب: ٤٤] ومِنهُ قَوْلُ المُصَلِّي: التَّحِيّاتُ لِلَّهِ، أيِ السَّلامُ مِنَ الآفاتِ لِلَّهِ، والأشْعارُ ناطِقَةٌ بِذَلِكَ. قالَ عَنْتَرَةُ: ؎حَيْيَتُ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ وقالَ آخَرُ: ؎إنّا مُحَيُّوكِ يا سَلْمى فَحَيِّينا واعْلَمْ أنَّ قَوْلَ القائِلِ لِغَيْرِهِ: السَّلامُ عَلَيْكَ أتَمُّ وأكْمَلُ مِن قَوْلِهِ: حَيّاكَ اللَّهُ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ الحَيَّ إذا كانَ سَلِيمًا كانَ حَيًّا لا مَحالَةَ، ولَيْسَ إذا كانَ حَيًّا كانَ سَلِيمًا، فَقَدْ تَكُونُ حَياتُهُ مَقْرُونَةً بِالآفاتِ والبَلِيّاتِ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: السَّلامُ عَلَيْكَ أتَمُّ وأكْمَلُ مِن قَوْلِهِ: حَيّاكَ اللَّهُ. الثّانِي: أنَّ السَّلامَ اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، فالِابْتِداءُ بِذِكْرِ اللَّهِ أوْ بِصِفَةٍ مِن صِفاتِهِ الدّالَّةِ عَلى أنَّهُ يُرِيدُ إبْقاءَ السَّلامَةِ عَلى عِبادِهِ أكْمَلُ مِن قَوْلِهِ: حَيّاكَ اللَّهُ. الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَ الإنْسانِ لِغَيْرِهِ: السَّلامُ عَلَيْكَ فِيهِ بِشارَةٌ بِالسَّلامَةِ، وقَوْلَهُ: حَيّاكَ اللَّهُ لا يُفِيدُ ذَلِكَ، فَكانَ هَذا أكْمَلُ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى فَضِيلَةِ السَّلامِ القُرْآنُ والأحادِيثُ والمَعْقُولُ، أمّا القُرْآنُ فَمِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى سَلَّمَ عَلى المُؤْمِنِ في اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا: أوَّلُها: أنَّهُ تَعالى كَأنَّهُ سَلَّمَ عَلَيْكَ في الأزَلِ، ألا تَرى أنَّهُ قالَ في وصْفِ ذاتِهِ: المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ. وثانِيها: أنَّهُ سَلَّمَ عَلى نُوحٍ وجَعَلَ لَكَ مِن ذَلِكَ السَّلامِ نَصِيبًا، فَقالَ: ﴿قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ [هود: ٤٨] والمُرادُ مِنهُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ . وثالِثُها: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلى لِسانِ جِبْرِيلَ، فَقالَ: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِن كُلِّ أمْرٍ﴾ ﴿سَلامٌ هي حَتّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر: ٥] قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خافَ عَلى أُمَّتِهِ أنْ يَصِيرُوا مِثْلَ أُمَّةِ مُوسى وعِيسى عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَقالَ اللَّهُ: لا تَهْتَمَّ لِذَلِكَ فَإنِّي وإنْ أخْرَجْتُكَ مِنَ الدُّنْيا، إلّا إنِّي جَعَلْتُ جِبْرِيلَ خَلِيفَةً لَكَ، يَنْزِلُ إلى أُمَّتِكَ كُلَّ لَيْلَةِ قَدْرٍ ويُبْلِغُهُمُ السَّلامَ مِنِّي. ورابِعُها: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلى لِسانِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ قالَ: ﴿والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ [طه: ٤٧] فَإذا كُنْتَ مُتَّبِعَ الهُدى وصَلَ سَلامُ مُوسى إلَيْكَ. وخامِسُها: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلى لِسانِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَقالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ [النمل: ٥٩] وكُلُّ مَن هَدى اللَّهُ إلى الإيمانِ فَقَدِ اصْطَفاهُ، كَما قالَ: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ [فاطر: ٣٢] . وسادِسُها: أمَرَ مُحَمَّدًا ﷺ بِالسَّلامِ عَلى سَبِيلِ المُشافَهَةِ، فَقالَ: ﴿وإذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] . وسابِعُها: أمَرَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْكَ قالَ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ . وثامِنُها: سَلَّمَ عَلَيْكَ عَلى لِسانِ مَلَكِ المَوْتِ فَقالَ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ﴾ [النحل: ٣٢] قِيلَ: إنَّ مَلَكَ المَوْتِ يَقُولُ في أُذُنِ المُسْلِمِ: السَّلامُ يُقْرِئُكَ السَّلامَ، ويَقُولُ: أجِبْنِي فَإنِّي مُشْتاقٌ إلَيْكَ، واشْتاقَتِ الجَنّاتُ والحُورُ العِينُ إلَيْكَ، فَإذا سَمِعَ المُؤْمِنُ البِشارَةَ، يَقُولُ لِمَلَكِ المَوْتِ: لِلْبَشِيرِ مِنِّي هَدِيَّةٌ، ولا هَدِيَّةَ أعَزُّ مِن رُوحِي، فاقْبِضْ رُوحِي هَدِيَّةً لَكَ. وتاسِعُها: السَّلامُ مِنَ الأرْواحِ الطّاهِرَةِ المُطَهَّرَةِ، قالَ تَعالى: ﴿وأمّا إنْ كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ ﴿فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ﴾ [الواقعة: ٩١] . وعاشِرُها: سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ عَلى لِسانِ رِضْوانَ خازِنِ (p-١٦٨)الجَنَّةِ فَقالَ تَعالى: ﴿وسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم إلى الجَنَّةِ زُمَرًا﴾ [الزمر: ٧٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿وقالَ لَهم خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكم طِبْتُمْ﴾ [الزمر: ٧٣] . والحادِيَ عَشَرَ: إذا دَخَلُوا الجَنَّةَ فالمَلائِكَةُ يَزُورُونَهم ويُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ. قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ [الرعد: ٢٤] . والثّانِي عَشَرَ: السَّلامُ مِنَ اللَّهِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ وهو قَوْلُهُ: ﴿تَحِيَّتُهم يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ [الأحزاب: ٤٤] وقَوْلُهُ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٧] وعِنْدَ ذَلِكَ يَتَلاشى سَلامُ الكُلِّ لِأنَّ المَخْلُوقَ لا يَبْقى عَلى تَجَلِّي نُورِ الخالِقِ. الوَجْهُ الثّانِي: مِنَ الدَّلائِلِ القُرْآنِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى فَضِيلَةِ السَّلامِ أنَّ أشَدَّ الأوْقاتِ حاجَةً إلى السَّلامَةِ والكَرامَةِ ثَلاثَةُ أوْقاتٍ: وقْتُ الِابْتِداءِ، ووَقْتُ المَوْتِ، ووَقْتُ البَعْثِ، واللَّهُ تَعالى لَمّا أكْرَمَ يَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّما أكْرَمَهُ بِأنْ وعَدَهُ السَّلامَ في هَذِهِ الأوْقاتِ الثَّلاثَةِ فَقالَ: ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ١٥] وعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَ أيْضًا ذَلِكَ فَقالَ: ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ [مريم: ٣٣] . الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ تَعْظِيمَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٥] يُرْوى في التَّفْسِيرِ أنَّ اليَهُودَ كانُوا إذا دَخَلُوا قالُوا: السّامُ عَلَيْكَ، فَحَزِنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِهَذا المَعْنى، فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ وقالَ: إنْ كانَ اليَهُودُ يَقُولُونَ السّامُ عَلَيْكَ، فَأنا أقُولُ مِن سُرادِقاتِ الجَلالِ: السَّلامُ عَلَيْكَ، وأنْزَلَ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: ٥٦] . وأمّا ما يَدُلُّ مِنَ الأخْبارِ عَلى فَضِيلَةِ السَّلامِ فَما رُوِيَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ قالَ: لَمّا سَمِعْتُ بِقُدُومِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ دَخَلْتُ في غِمارِ النّاسِ، فَأوَّلُ ما سَمِعْتُ مِنهُ: ”«يا أيُّها النّاسُ أفْشُوا السَّلامَ وأطْعِمُوا الطَّعامَ وصِلُوا الأرْحامَ وصَلُّوا بِاللَّيْلِ والنّاسُ نِيامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ» “ . وأمّا ما يَدُلُّ عَلى فَضْلِ السَّلامِ مِن جِهَةِ المَعْقُولِ فَوُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالُوا: تَحِيَّةُ النَّصارى وضْعُ اليَدِ عَلى الفَمِ، وتَحِيَّةُ اليَهُودِ بَعْضُهم لِبَعْضٍ الإشارَةُ بِالأصابِعِ، وتَحِيَّةُ المَجُوسِ الِانْحِناءُ، وتَحِيَّةُ العَرَبِ بَعْضُهم لِبَعْضٍ أنْ يَقُولُوا: حَيّاكَ اللَّهُ، ولِلْمُلُوكِ أنْ يَقُولُوا: أنْعِمْ صَباحًا، وتَحِيَّةُ المُسْلِمِينَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ أنْ يَقُولُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ التَّحِيَّةَ أشْرَفُ التَّحِيّاتِ وأكْرَمُها. الثّانِي: أنَّ السَّلامَ مُشْعِرٌ بِالسَّلامَةِ مِنَ الآفاتِ والبَلِيّاتِ. ولا شَكَّ أنَّ السَّعْيَ في تَحْصِيلِ الصَّوْنِ عَنِ الضَّرَرِ أوْلى مِنَ السَّعْيِ في تَحْصِيلِ النَّفْعِ. الثّالِثُ: أنَّ الوَعْدَ بِالنَّفْعِ يَقْدِرُ الإنْسانُ عَلى الوَفاءِ بِهِ وقَدْ لا يَقْدِرُ، أمّا الوَعْدُ بِتَرْكِ الضَّرَرِ فَإنَّهُ يَكُونُ قادِرًا عَلَيْهِ لا مَحالَةَ، والسَّلامُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. فَثَبَتَ أنَّ السَّلامَ أفْضَلُ أنْواعِ التَّحِيَّةِ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: مَن دَخَلَ دارًا وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُسَلِّمَ عَلى الحاضِرِينَ، واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها﴾ [النور: ٢٧] وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أفْشُوا السَّلامَ» “ والأمْرُ لِلْوُجُوبِ. الثّانِي: أنَّ مَن دَخَلَ عَلى إنْسانٍ كانَ كالطّالِبِ لَهُ، ثُمَّ المَدْخُولُ عَلَيْهِ لا يَعْلَمُ أنَّهُ يَطْلُبُهُ لِخَيْرٍ أوْ لِشَرٍّ، فَإذا قالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ فَقَدْ بَشَّرَهُ بِالسَّلامَةِ وآمَنَهُ مِنَ الخَوْفِ، وإزالَةُ الضَّرَرِ عَنِ المُسْلِمِ واجِبَةٌ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن يَدِهِ ولِسانِهِ» “ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ السَّلامُ واجِبًا. الثّالِثُ: أنَّ السَّلامَ مِن شَعائِرَ أهْلِ الإسْلامِ، وإظْهارُ شَعائِرِ (p-١٦٩)الإسْلامِ واجِبٌ، وأمّا المَشْهُورُ فَهو أنَّ السَّلامَ سُنَّةٌ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والنَّخَعِيِّ. وأمّا الجَوابُ عَلى السَّلامِ فَقَدْ أجْمَعُوا عَلى وُجُوبِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ . الثّانِي: أنَّ تَرْكَ الجَوابِ إهانَةٌ، والإهانَةُ ضَرَرٌ والضَّرَرُ حَرامٌ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مُنْتَهى الأمْرِ في السَّلامِ أنْ يُقالَ: السَّلامُ عَلَيْكم ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، بِدَلِيلِ أنَّ هَذا القَدْرَ هو الوارِدُ في التَّشَهُّدِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ فَقالَ العُلَماءُ: الأحْسَنُ هو أنَّ المُسْلِمَ إذا قالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ زِيدَ في جَوابِهِ الرَّحْمَةُ، وإنْ ذَكَرَ السَّلامَ والرَّحْمَةَ في الِابْتِداءِ زِيدَ في جَوابِهِ البَرَكَةُ، وإنْ ذَكَرَ الثَّلاثَةَ في الِابْتِداءِ أعادَها في الجَوابِ. رُوِيَ «أنَّ رَجُلًا قالَ لِلرَّسُولِ ﷺ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: وعَلَيْكَ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ. وآخَرُ قالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ، فَقالَ: وعَلَيْكَ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، وجاءَ ثالِثٌ فَقالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: وعَلَيْكَ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكاتُهُ، فَقالَ الرَّجُلُ: نَقَصْتَنِي، فَأيْنَ قَوْلُ اللَّهِ: ﴿فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها﴾ فَقالَ ﷺ: إنَّكَ ما تَرَكْتَ لِي فَضْلًا فَرَدَدْتُ عَلَيْكَ ما ذَكَرْتَ» . * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: المُبْتَدِئُ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ والمُجِيبُ، يَقُولُ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، هَذا هو التَّرْتِيبُ الحَسَنُ، والَّذِي خَطَرَ بِبالِي فِيهِ أنَّهُ إذا قالَ: السَّلامُ عَلَيْكم كانَ الِابْتِداءُ واقِعًا بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإذا قالَ المُجِيبُ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ كانَ الِاخْتِتامُ واقِعًا بِذِكْرِ اللَّهِ، وهَذا يُطابِقُ قَوْلَهُ: ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ﴾ [الحديد: ٣] وأيْضًا لَمّا وقَعَ الِابْتِداءُ والِاخْتِتامُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإنَّهُ يُرْجى أنْ يَكُونَ ما وقَعَ بَيْنَهُما يَصِيرُ مَقْبُولًا بِبَرَكَتِهِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ [هود: ١١٤] فَلَوْ خالَفَ المُبْتَدِئُ فَقالَ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ فَقَدْ خالَفَ السُّنَّةَ، فالأوْلى لِلْمُجِيبِ أنْ يَقُولَ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، لِأنَّ الأوَّلَ لَمّا تَرَكَ الِافْتِتاحَ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَهَذا لا يَنْبَغِي أنْ يَتْرُكَ الِاخْتِتامَ بِذِكْرِ اللَّهِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: إنْ شاءَ قالَ: سَلامٌ عَلَيْكم، وإنْ شاءَ قالَ: السَّلامُ عَلَيْكم، قالَ تَعالى في حَقِّ نُوحٍ: ﴿قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا﴾ [هود: ٤٨] وقالَ عَنِ الخَلِيلِ: ﴿قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧] وقالَ في قِصَّةِ لُوطٍ: ﴿فَقالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ﴾ [الذاريات: ٢٥] وقالَ عَنْ يَحْيى: ﴿وسَلامٌ عَلَيْهِ﴾ [مَرْيَمَ: ١٥ ] وقالَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ﴾ [النمل: ٥٩] وقالَ عَنِ المَلائِكَةِ: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الرعد: ٢٣] وقالَ عَنْ رَبِّ العِزَّةِ: ﴿سَلامٌ قَوْلًا مِن رَبٍّ رَحِيمٍ﴾ [يس: ٥٨] وقالَ: ﴿فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ﴾ [الأنعام: ٥٤] وأمّا بِالألِفِ واللّامِ فَقَوْلُهُ عَنْ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فَأرْسِلْ مَعَنا بَنِي إسْرائِيلَ ولا تُعَذِّبْهم قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِن رَبِّكَ والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ [طه: ٤٧] وقالَ عَنْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ﴾ [مريم: ٣٣] فَثَبَتَ أنَّ الكُلَّ جائِزٌ، وأمّا في التَّحْلِيلِ مِنَ الصَّلاةِ فَلا بُدَّ مِنَ الألِفِ واللّامِ بِالِاتِّفاقِ، واخْتَلَفُوا في سائِرِ المَواضِعِ أنَّ التَّنْكِيرَ أفْضَلُ أمِ التَّعْرِيفُ ؟ فَقِيلَ التَّنْكِيرُ أفْضَلُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ لَفْظَ السَّلامِ عَلى سَبِيلِ التَّنْكِيرِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ فَكانَ أفْضَلَ. الثّانِي: أنَّ كُلَّ ما ورَدَ مِنَ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والمُؤْمِنِينَ فَقَدْ ورَدَ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ عَلى ما عَدَدْناهُ في الآياتِ، وأمّا بِالألِفِ واللّامِ فَإنَّما ورَدَ في تَسْلِيمِ الإنْسانِ عَلى نَفْسِهِ قالَ مُوسى ﷺ: ﴿والسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى﴾ [طه: ٤٧] وقالَ عِيسى عَلَيْهِ (p-١٧٠)الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ﴾ . والثّالِثُ: وهو المَعْنى المَعْقُولُ أنَّ لَفْظَ السَّلامِ بِالألِفِ واللّامِ يَدُلُّ عَلى أصْلِ الماهِيَّةِ، والتَّنْكِيرُ يَدُلُّ عَلى أصْلِ الماهِيَّةِ مَعَ وصْفِ الكَمالِ، فَكانَ هَذا أوْلى. * * * المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ ﷺ: ”«السُّنَّةُ أنْ يُسَلِّمَ الرّاكِبُ عَلى الماشِي، وراكِبُ الفَرَسِ عَلى راكِبِ الحِمارِ، والصَّغِيرُ عَلى الكَبِيرِ، والأقَلُّ عَلى الأكْثَرِ، والقائِمُ عَلى القاعِدِ» “ . وأقُولُ: أمّا الأوَّلُ فَلِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ الرّاكِبَ أكْثَرُ هَيْبَةً فَسَلامُهُ يُفِيدُ زَوالَ الخَوْفِ. والثّانِي: أنَّ التَّكَبُّرَ بِهِ ألْيَقُ، فَأُمِرَ بِالِابْتِداءِ بِالتَّسْلِيمِ كَسْرًا لِذَلِكَ التَّكَبُّرِ، وأمّا أنَّ القائِمَ يُسَلِّمُ عَلى القاعِدِ فَلِأنَّهُ هو الَّذِي وصَلَ إلَيْهِ، فَلا بُدَّ وأنَّ يَفْتَتِحَ هَذا الواصِلُ المَوْصُولَ بِالخَيْرِ. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: السُّنَّةُ في السَّلامِ الجَهْرُ لِأنَّهُ أقْوى في إدْخالِ السُّرُورِ في القَلْبِ. المَسْألَةُ التّاسِعَةُ: السُّنَّةُ في السَّلامِ الإفْشاءُ والتَّعْمِيمُ لِأنَّ في التَّخْصِيصِ إيحاشًا. المَسْألَةُ العاشِرَةُ: المُصافَحَةُ عِنْدَ السَّلامِ عادَةُ الرَّسُولِ ﷺ، قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا تَصافَحَ المُسْلِمانِ تَحاتَّتْ ذُنُوبُهُما كَما يَتَحاتُّ ورَقُ الشَّجَرِ» “ . المَسْألَةُ الحادِيَةَ عَشْرَةَ: قالَ أبُو يُوسُفَ: مَن قالَ لِآخَرَ: أقْرِئْ فُلانًا عَنِّي السَّلامَ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَفْعَلَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةَ عَشْرَةَ: إذا اسْتَقْبَلَكَ رَجُلٌ واحِدٌ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكم، واقْصِدِ الرَّجُلَ والمَلَكَيْنِ فَإنَّكَ إذا سَلَّمْتَ عَلَيْهِما رَدّا السَّلامَ عَلَيْكَ، ومَن سَلَّمَ المَلَكُ عَلَيْهِ فَقَدْ سَلِمَ مِن عَذابِ اللَّهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةَ عَشْرَةَ: إذا دَخَلْتَ بَيْتًا خالِيًا فَسَلِّمْ، وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّكَ تُسَلِّمُ مِنَ اللَّهِ عَلى نَفْسِكَ. والثّانِي: أنَّكَ تُسَلِّمُ عَلى مَن فِيهِ مِن مُؤْمِنِي الجِنِّ. والثّالِثُ: أنَّكَ تَطْلُبُ السَّلامَةَ بِبَرَكَةِ السَّلامِ مِمَّنْ في البَيْتِ مِنَ الشَّياطِينِ والمُؤْذِياتِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ: السُّنَّةُ أنْ يَكُونَ المُبْتَدِئُ بِالسَّلامِ عَلى الطَّهارَةِ، وكَذا المُجِيبُ. رُوِيَ أنَّ واحِدًا سَلَّمَ عَلى الرَّسُولِ ﷺ وهو كانَ في قَضاءِ الحاجَةِ، فَقامَ وتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ السَّلامَ. المَسْألَةُ الخامِسَةَ عَشْرَةَ: السُّنَّةُ إذا التَقى إنَسانانِ أنْ يَبْتَدِرا بِالسَّلامِ إظْهارًا لِلتَّواضُعِ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةَ عَشْرَةَ: لِنَذْكُرِ المَواضِعَ الَّتِي لا يُسَلَّمُ فِيها، وهي ثَمانِيَةٌ: الأوَّلُ: رُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا يُبْدَأُ اليَهُودِيُّ بِالسَّلامِ»، وعَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ قالَ: لا يُبْدَأُ بِالسَّلامِ في كِتابٍ ولا في غَيْرِهِ، وعَنْ أبِي يُوسُفَ: لا تُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ولا تُصافِحْهم، وإذا دَخَلْتَ فَقُلْ: السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى. ورَخَّصَ في ابْتِداءِ السَّلامِ عَلَيْهِمْ إذا دَعَتْ إلى ذَلِكَ حاجَةٌ، وأمّا إذا سَلَّمُوا عَلَيْنا فَقالَ أكْثَرُ العُلَماءِ: يَنْبَغِي أنْ يُقالَ وعَلَيْكَ، والأصْلُ فِيهِ أنَّهم كانُوا يَقُولُونَ عِنْدَ الدُّخُولِ عَلى الرَّسُولِ: السّامُ عَلَيْكَ، فَكانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ وعَلَيْكم، فَجَرَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، ثُمَّ هَهُنا تَفْرِيعٌ وهو أنّا إذا قُلْنا لَهم: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، فَهَلْ يَجُوزُ ذِكْرُ الرَّحْمَةِ فِيهِ ؟ قالَ الحَسَنُ يَجُوزُ أنْ يُقالَ لِلْكافِرِ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ، لَكِنْ لا يُقالُ ورَحْمَةُ اللَّهِ لِأنَّها اسْتِغْفارٌ. وعَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ قالَ لِنَصْرانِيٍّ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ ورَحْمَةُ اللَّهِ فَقِيلَ لَهُ فِيهِ، فَقالَ: ألَيْسَ في رَحْمَةِ اللَّهِ يَعِيشُ. الثّانِي: إذا دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ والإمامُ يَخْطُبُ، فَلا يَنْبَغِي أنْ يُسَلِّمَ لِاشْتِغالِ النّاسِ بِالِاجْتِماعِ، فَإنْ سَلَّمَ فَرَدَّ بَعْضُهم فَلا بَأْسَ، ولَوِ اقْتَصَرُوا عَلى الإشارَةِ كانَ أحْسَنَ. الثّالِثُ: إذا دَخَلَ الحَمّامَ فَرَأى النّاسَ مُتَّزِرِينَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ، وإنْ لَمْ يَكُونُوا (p-١٧١)مُتَّزِرِينَ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ. الرّابِعُ: الأوْلى تَرْكُ السَّلامِ عَلى القارِئِ، لِأنَّهُ إذا اشْتَغَلَ بِالجَوابِ يَقْطَعُ عَلَيْهِ التِّلاوَةَ وكَذَلِكَ القَوْلُ فِيمَن كانَ مُشْتَغِلًا بِرِوايَةِ الحَدِيثِ ومُذاكَرَةِ العِلْمِ. الخامِسُ: لا يُسَلِّمُ عَلى المُشْتَغِلِ بِالأذانِ والإقامَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْناها. السّادِسُ: قالَ أبُو يُوسُفَ: لا يُسَلِّمُ عَلى لاعِبِ النَّرْدِ، ولا عَلى المُغَنِّي، ومُطَيِّرِ الحَمامِ، وفي مَعْناهُ كُلُّ مَن كانَ مُشْتَغِلًا بِنَوْعِ مَعْصِيَةٍ. السّابِعُ: لا يُسَلِّمُ عَلى مَن كانَ مُشْتَغِلًا بِقَضاءِ الحاجَةِ، مَرَّ عَلى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَجُلٌ وهو يَقْضِي حاجَتَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقامَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الجِدارِ فَتَيَمَّمَ ثُمَّ رَدَّ الجَوابَ، وقالَ: ”«لَوْلا أنِّي خَشِيتُ أنَّ تَقُولَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ الجَوابَ لَما أجَبْتُكَ إذا رَأيْتَنِي عَلى مِثْلِ هَذِهِ الحالَةِ فَلا تُسَلِّمْ عَلَيَّ فَإنَّكَ إنْ سَلَّمْتَ عَلَيَّ لَمْ أرُدَّ عَلَيْكَ» “ . الثّامِنُ: إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ سَلَّمَ عَلى امْرَأتِهِ، فَإنْ حَضَرَتْ أجْنَبِيَّةٌ هُناكَ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِما. * * * المَسْألَةُ السّابِعَةَ عَشْرَةَ: في أحْكامِ الجَوابِ وهي ثَمانِيَةٌ: الأوَّلُ: رَدُّ الجَوابِ واجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ ولِأنَّ تَرْكَ الجَوابِ إهانَةٌ وضَرَرٌ وحَرامٌ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ما مِن رَجُلٍ يَمُرُّ عَلى قَوْمٍ مُسْلِمِينَ فَيُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ولا يَرُدُّونَ عَلَيْهِ إلّا نَزَعَ عَنْهم رُوحُ القُدُسِ ورَدَّتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ. الثّانِي: رَدُّ الجَوابِ فَرْضٌ عَلى الكِفايَةِ إذا قامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ الباقِينَ، والأوْلى لِلْكُلِّ أنْ يَذْكُرُوا الجَوابَ إظْهارًا لِلْإكْرامِ ومُبالَغَةً فِيهِ. الثّالِثُ: أنَّهُ واجِبٌ عَلى الفَوْرِ، فَإنْ أخَّرَ حَتّى انْقَضى الوَقْتُ فَإنْ أجابَ بَعْدَ فَوْتِ الوَقْتِ كانَ ذَلِكَ ابْتِداءَ سَلامٍ ولا يَكُونُ جَوابًا. الرّابِعُ: إذا ورَدَ عَلَيْهِ سَلامٌ في كِتابٍ فَجَوابُهُ بِالكَتَبَةِ أيْضًا واجِبٌ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ . الخامِسُ: إذا قالَ السَّلامُ عَلَيْكم، فالواجِبُ أنْ يَقُولَ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ. السّادِسُ: رُوِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: لا يَجْهَرُ بِالرَّدِّ يَعْنِي الجَهْرَ الكَثِيرَ. السّابِعُ: إنْ سَلَّمَتِ المَرْأةُ الأجْنَبِيَّةُ عَلَيْهِ وكانَ يَخافُ في رَدِّ الجَوابِ عَلَيْها تُهْمَةً أوْ فِتْنَةً لَمْ يَجِبِ الرَّدُّ، بَلِ الأوْلى أنْ لا يَفْعَلَ. الثّامِنُ: حَيْثُ قُلْنا إنَّهُ لا يُسَلِّمُ، فَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْها الرَّدُّ، لِأنَّهُ أتى بِفِعْلٍ مَنهِيٍّ عَنْهُ فَكانَ وجُودُهُ كَعَدَمِهِ. * * * المَسْألَةُ الثّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أنَّ لَفْظَ التَّحِيَّةِ عَلى ما بَيَّناهُ صارَ كِنايَةً عَنِ الإكْرامِ، فَجَمِيعُ أنْواعِ الإكْرامِ يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ التَّحِيَّةِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَن وهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمِ مُحَرَّمٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيها ما لَمْ يُثَبْ مِنها، فَإذا أُثِيبَ مِنها فَلا رُجُوعَ فِيها. وقالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَهُ الرُّجُوعُ في حَقِّ الوَلَدِ، ولَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ في حَقِّ الأجْنَبِيِّ، احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى صِحَّةِ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ يَدْخُلُ فِيهِ التَّسْلِيمُ، ويَدْخُلُ فِيهِ الهِبَةُ، ومُقْتَضاهُ وُجُوبُ الرَّدِّ إذا لَمْ يَصِرْ مُقابِلًا بِالأحْسَنِ، فَإذا لَمْ يَثْبُتِ الوُجُوبُ فَلا أقَلَّ مِنَ الجَوازِ، وقالَ الشّافِعِيُّ: هَذا الأمْرُ مَحْمُولٌ عَلى النَّدْبِ، بِدَلِيلٍ أنَّهُ لَوْ أُثِيبَ بِما هو أقَلُّ مِنهُ سَقَطَتْ مُكْنَةُ الرَّدِّ بِالإجْماعِ، مَعَ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَقْتَضِي أنْ يَأْتِيَ بِالأحْسَنِ، ثُمَّ احْتَجَّ الشّافِعِيُّ عَلى قَوْلِهِ بِما رَوى ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ”«لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيها إلّا الوالِدُ فِيما يُعْطِي ولَدَهُ» “ وهَذا نَصٌّ في أنَّ هِبَةَ الأجْنَبِيِّ يَحْرُمُ الرُّجُوعُ (p-١٧٢)فِيها، وهِبَةَ الوَلَدِ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيها. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في الحَسِيبِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ بِمَعْنى المُحاسِبِ عَلى العَمَلِ، كالأكِيلِ والشَّرِيبِ والجَلِيسِ بِمَعْنى المُؤاكِلِ والمُشارِبِ والمُجالِسِ. الثّانِي: أنَّهُ بِمَعْنى الكافِي في قَوْلِهِمْ: حَسْبِي كَذا؛ أيْ كافِيَّ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَسْبِيَ اللَّهُ﴾ [التوبة: ١٢٩] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَقْصُودُ مِنهُ الوَعِيدُ، فَإنّا بَيَّنّا أنَّ الواحِدَ مِنهم قَدْ كانَ يُسَلِّمُ عَلى الرَّجُلِ المُسْلِمِ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ المُسْلِمَ ما كانَ يَتَفَحَّصُ عَنْ حالِهِ، بَلْ رُبَّما قَتَلَهُ طَمَعًا في سَلَبِهِ، فاللَّهُ تَعالى زَجَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ وإيّاكم أنْ تَتَعَرَّضُوا لَهُ بِالقَتْلِ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ أيْ هو مُحاسِبُكم عَلى أعْمالِكم وكافِي في إيصالِ جَزاءِ أعْمالِكم إلَيْكم فَكُونُوا عَلى حَذَرٍ مِن مُخالَفَةِ التَّكالِيفِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ العِنايَةِ بِحِفْظِ الدِّماءِ والمَنعِ مِن إهْدارِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب