الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولًا وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ . قالَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: قَدْ ثَبَتَ أنَّ لَفْظَ السَّيِّئَةِ تارَةً يَقَعُ عَلى البَلِيَّةِ والمِحْنَةِ، وتارَةً يَقَعُ عَلى الذَّنْبِ والمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أضافَ السَّيِّئَةَ إلى نَفْسِهِ في الآيَةِ الأُولى بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ كُلٌّ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ وأضافَها في هَذِهِ الآيَةِ إلى العَبْدِ بِقَوْلِهِ: ﴿وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ فَلا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ وإزالَةِ التَّناقُضِ عَنْهُما، ولَمّا كانَتِ السَّيِّئَةُ بِمَعْنى البَلاءِ والشِّدَّةِ مُضافَةً إلى اللَّهِ وجَبَ أنْ تَكُونَ السَّيِّئَةُ بِمَعْنى المَعْصِيَةِ مُضافَةً إلى العَبْدِ حَتّى يَزُولَ التَّناقُضُ بَيْنَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ المُتَجاوِرَتَيْنِ، قالَ: وقَدْ حَمَلَ المُخالِفُونَ أنْفُسَهم عَلى تَغْيِيرِ الآيَةِ وقَرَؤُوا: (فَمِن تَعْسِكَ) فَغَيَّرُوا القُرْآنَ وسَلَكُوا مِثْلَ طَرِيقَةِ الرّافِضَةِ مِنَ ادِّعاءِ التَّغْيِيرِ في القُرْآنِ. فَإنْ قِيلَ: فَلِماذا فَصَلَ تَعالى بَيْنَ الحَسَنَةِ والسَّيِّئَةِ في هَذِهِ الآيَةِ فَأضافَ الحَسَنَةَ الَّتِي هي الطّاعَةُ إلى نَفْسِهِ دُونَ السَّيِّئَةِ وكِلاهُما فِعْلُ العَبْدِ عِنْدَكم ؟ قُلْنا: لِأنَّ الحَسَنَةَ وإنْ كانَتْ مِن فِعْلِ العَبْدِ فَإنَّما وصَلَ إلَيْها بِتَسْهِيلِهِ تَعالى وألْطافِهِ فَصَحَّتِ الإضافَةُ إلَيْهِ، وأمّا السَّيِّئَةُ الَّتِي هي مِن فِعْلِ العَبْدِ فَهي غَيْرُ مُضافَةٍ إلى اللَّهِ تَعالى لا بِأنَّهُ تَعالى فَعَلَها ولا بِأنَّهُ أرادَها، ولا بِأنَّهُ أمَرَ بِها، ولا بِأنَّهُ رَغِبَ فِيها، فَلا جَرَمَ انْقَطَعَتْ إضافَةُ هَذِهِ السَّيِّئَةِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ إلى اللَّهِ تَعالى. هَذا مُنْتَهى كَلامِ الرَّجُلِ في هَذا المَوْضِعِ. ونَحْنُ نَقُولُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بِتَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى، والقَوْمُ لا يَقُولُونَ بِهِ فَصارُوا مَحْجُوجِينَ بِالآيَةِ. إنَّما قُلْنا: إنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى ذَلِكَ لِأنَّ الإيمانَ حَسَنَةٌ، وكُلُّ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. إنَّما قُلْنا: إنَّ الإيمانَ حَسَنَةٌ، لِأنَّ الحَسَنَةَ هي الغِبْطَةُ الخالِيَةُ عَنْ جَمِيعِ جِهاتِ القُبْحِ، ولا شَكَّ أنَّ الإيمانَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حَسَنَةً لِأنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إلى اللَّهِ﴾ [فصلت: ٣٢] المُرادُ بِهِ كَلِمَةُ الشَّهادَةِ، وقِيلَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ [النحل: ٩٠] قِيلَ: هو لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَثَبَتَ أنَّ الإيمانَ حَسَنَةٌ، وإنَّما قُلْنا إنَّ كُلَّ حَسَنَةٍ مِنَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ﴾ يُفِيدُ العُمُومَ في جَمِيعِ الحَسَناتِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلى كُلِّها بِأنَّها مِنَ اللَّهِ، فَيَلْزَمُ مِن هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ، أعْنِي أنَّ الإيمانَ حَسَنَةٌ، وكُلُّ حَسَنَةٍ مِنَ اللَّهِ، القَطْعُ بِأنَّ الإيمانَ مِنَ اللَّهِ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن كَوْنِ الإيمانِ مِنَ اللَّهِ هو أنَّ اللَّهَ أقْدَرَهُ عَلَيْهِ وهَداهُ إلى مَعْرِفَةِ حَسَنِهِ، وإلى مَعْرِفَةِ قُبْحِ ضِدِّهِ الَّذِي هو الكُفْرُ ؟ قُلْنا: جَمِيعُ الشَّرائِعِ مُشْتَرِكَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الإيمانِ والكُفْرِ عِنْدَكم، ثُمَّ إنَّ العَبْدَ بِاخْتِيارِ نَفْسِهِ أوْجَدَ الإيمانَ، ولا مَدْخَلَ لِقُدْرَةِ اللَّهِ وإعانَتِهِ في نَفْسِ الإيمانِ، فَكانَ الإيمانُ مُنْقَطِعًا عَنِ اللَّهِ في كُلِّ الوُجُوهِ، فَكانَ هَذا مُناقِضًا لِقَوْلِهِ: ﴿ما أصابَكَ مِن حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ فَثَبَتَ بِدَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الإيمانَ مِنَ اللَّهِ، والخُصُومُ لا (p-١٥٣)يَقُولُونَ بِهِ، فَصارُوا مَحْجُوجِينَ في هَذِهِ المَسْألَةِ. ثُمَّ إذا أرَدْنا أنْ نُبَيِّنَ أنَّ الكُفْرَ أيْضًا مِنَ اللَّهِ، قُلْنا: فِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ مَن قالَ: الإيمانُ مِنَ اللَّهِ قالَ: الكُفْرُ مِنَ اللَّهِ، فالقَوْلُ بِأنَّ أحَدَهُما مِنَ اللَّهِ دُونَ الآخَرِ مُخالِفٌ لِإجْماعِ الأُمَّةِ. الثّانِي: أنَّ العَبْدَ لَوْ قَدَرَ عَلى تَحْصِيلِ الكُفْرِ فالقُدْرَةُ الصّالِحَةُ لِإيجادِ الكُفْرِ إمّا أنْ تَكُونَ صالِحَةً لِإيجادِ الإيمانِ أوْ لا تَكُونَ، فَإنْ كانَتْ صالِحَةً لِإيجادِ الإيمانِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ القَوْلُ في أنَّ إيمانَ العَبْدِ مِنهُ، وإنْ لَمْ تَكُنْ صالِحَةً لِإيجادِ الإيمانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ القادِرُ عَلى الشَّيْءِ غَيْرَ قادِرٍ عَلى ضِدِّهِ، وذَلِكَ عِنْدَهم مُحالٌ، ولِأنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَكُونُ القُدْرَةُ مُوجِبَةً لِلْمَقْدُورِ، وذَلِكَ يَمْنَعُ مِن كَوْنِهِ قادِرًا عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنِ الإيمانُ مِنهُ وجَبَ أنْ لا يَكُونَ الكُفْرُ مِنهُ. الثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنِ العَبْدُ مُوجِدًا لِلْإيمانِ فَبِأنْ لا يَكُونَ مُوجِدًا لِلْكُفْرِ أوْلى، وذَلِكَ لِأنَّ المُسْتَقِلَّ بِإيجادِ الشَّيْءِ هو الَّذِي يُمْكِنُهُ تَحْصِيلُ مُرادِهِ، ولا نَرى في الدُّنْيا عاقِلًا إلّا ويُرِيدُ أنْ يَكُونَ الحاصِلُ في قَلْبِهِ هو الإيمانَ والمَعْرِفَةَ والحَقَّ، وإنَّ أحَدًا مِنَ العُقَلاءِ لا يُرِيدُ أنْ يَكُونَ الحاصِلُ في قَلْبِهِ هو الجَهْلَ والضَّلالَ والِاعْتِقادَ الخَطَأ، فَإذا كانَ العَبْدُ مُوجِدًا لِأفْعالِ نَفْسِهِ وهو لا يَقْصِدُ إلّا تَحْصِيلَ العِلْمِ الحَقِّ المُطابِقِ، وجَبَ أنْ لا يَحْصُلَ في قَلْبِهِ إلّا الحَقُّ، فَإذا كانَ الإيمانُ الَّذِي هو مَقْصُودُهُ ومَطْلُوبُهُ ومُرادُهُ لَمْ يُقْطَعْ بِإيجادِهِ، فَبِأنْ يَكُونَ الجَهْلُ الَّذِي ما أرادَهُ وما قَصَدَ تَحْصِيلَهُ وكانَ في غايَةِ النُّفْرَةِ عَنْهُ والفِرارِ مِنهُ غَيْرَ واقِعٍ بِإيجادِهِ وتَكْوِينِهِ كانَ ذَلِكَ أوْلى. والحاصِلُ أنَّ الشُّبْهَةَ في أنَّ الإيمانَ واقِعٌ بِقُدْرَةِ العَبْدِ أشَدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ في وُقُوعِ الكُفْرِ بِقُدْرَتِهِ، فَلَمّا بَيَّنَ تَعالى في الإيمانِ أنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَرَكَ ذِكْرَ الكُفْرِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في بَيانِ دَلالَةِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى مَذْهَبِ إمامِنا. * * * أمّا ما احْتَجَّ الجُبّائِيُّ بِهِ عَلى مَذْهَبِهِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما أصابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ﴾ . فالجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] أضافَ المَرَضَ إلى نَفْسِهِ والشِّفاءَ إلى اللَّهِ، فَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ في كَوْنِهِ تَعالى خالِقًا لِلْمَرَضِ والشِّفاءِ، بَلْ إنَّما فَصَلَ بَيْنَهُما رِعايَةَ الأدَبِ، فَكَذا هَهُنا، فَإنَّهُ يُقالُ: يا مُدَبِّرَ السَّماواتِ والأرْضِ، ولا يُقالُ يا مُدَبِّرَ القُمَّلِ والصَّيْبانِ والخَنافِسِ، فَكَذا هَهُنا. الثّانِي: أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ قالُوا في تَفْسِيرِ قَوْلِ إبْراهِيمَ: ﴿هَذا رَبِّي﴾ أنَّهُ ذَكَرَ هَذا اسْتِفْهامًا عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، كَأنَّهُ قالَ: أهَذا رَبِّي ؟ فَكَذا هَهُنا، كَأنَّهُ قِيلَ: الإيمانُ الَّذِي وقَعَ عَلى وفْقِ قَصْدِهِ قَدْ بَيَّنّا أنَّهُ لَيْسَ واقِعًا مِنهُ، بَلْ مِنَ اللَّهِ، فَهَذا الكُفْرُ ما قَصَدَهُ وما أرادَهُ وما رَضِيَ بِهِ البَتَّةَ، أفَيَدْخُلُ في العَقْلِ أنْ يُقالَ: إنَّهُ وقَعَ بِهِ ؟ فَإنّا بَيَّنّا أنَّ الحَسَنَةَ في هَذِهِ الآيَةِ يَدْخُلُ فِيها الإيمانُ، والسَّيِّئَةَ يَدْخُلُ فِيها الكُفْرُ، أمّا قِراءَةُ مَن قَرَأ (فَمِن تَعْسِكَ) فَنَقُولُ: إنْ صَحَّ أنَّهُ قَرَأ بِهَذِهِ الآيَةِ واحِدٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ فَلا طَعْنَ فِيهِ، وإنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فالمُرادُ أنَّ مَن حَمَلَ الآيَةَ عَلى أنَّها ورَدَتْ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِفْهامِ عَلى وجْهِ الإنْكارِ ذَكَرَ في تَفْسِيرِ الِاسْتِفْهامِ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ هَذا الكَلامَ، لِأنَّهُ لَمّا أضافَ السَّيِّئَةَ إلَيْهِمْ في مَعْرِضِ الِاسْتِفْهامِ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ كانَ المُرادُ أنَّها غَيْرُ مُضافَةٍ إلَيْهِمْ، فَذَكَرَ هَذا القائِلُ قَوْلَهُ: (فَمِن تَعْسِكَ) لا عَلى اعْتِقادِ أنَّهُ مِنَ القُرْآنِ، بَلْ لِأجْلِ أنَّهُ يَجْرِي مَجْرى التَّفْسِيرِ لِقَوْلِنا: إنَّهُ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، ومِمّا يَدُلُّ دَلالَةً ظاهِرَةً عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذِهِ الآياتِ إسْنادُ جَمِيعِ الأُمُورِ إلى اللَّهِ تَعالى، قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وأرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولًا﴾ يَعْنِي لَيْسَ لَكَ إلّا الرِّسالَةُ والتَّبْلِيغُ، وقَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ وما قَصَّرْتَ ﴿وكَفى بِاللَّهِ﴾ (p-١٥٤)(شَهِيدًا) عَلى جِدِّكَ وعَدَمِ تَقْصِيرِكَ في أداءِ الرِّسالَةِ وتَبْلِيغِ الوَحْيِ، فَأمّا حُصُولُ الهِدايَةِ فَلَيْسَ إلَيْكَ بَلْ إلى اللَّهِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨] وقَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ [القصص: ٥٦] فَهَذا جُمْلَةُ ما خَطَرَ بِالبالِ في هَذِهِ الآيَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ هَذا الَّذِي قُلْناهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب