الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكم فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى عادَ بَعْدَ التَّرْغِيبِ في طاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ إلى ذِكْرِ الجِهادِ الَّذِي تَقَدَّمَ، لِأنَّهُ أشَقُّ الطّاعاتِ، ولِأنَّهُ أعْظَمُ الأُمُورِ الَّتِي بِها يَحْصُلُ تَقْوِيَةُ الدِّينِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الحَذَرُ والحِذْرُ بِمَعْنًى واحِدٍ، كالأثَرِ والإثْرِ، والمَثَلِ والمِثْلِ، يُقالُ: أخَذَ حِذْرَهُ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ مِنَ المُخَوِّفِ، كَأنَّهُ جَعَلَ الحَذَرَ آلَتَهُ الَّتِي يَقِي بِها نَفْسَهُ ويَعْصِمُ بِها رُوحَهُ، والمَعْنى احْذَرُوا واحْتَرِزُوا مِنَ العَدُوِّ ولا تُمَكِّنُوهُ مِن أنْفُسِكم، هَذا ما ذَكَرَهُ صاحِبُ ”الكَشّافِ“ . وقالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: المُرادُ بِالحِذْرِ هَهُنا السِّلاحُ، والمَعْنى خُذُوا سِلاحَكم، والسِّلاحُ يُسَمّى حِذْرًا، أيْ خُذُوا سِلاحَكم وتَحَذَّرُوا. والثّانِي: أنَّ يَكُونَ ﴿خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ بِمَعْنى احْذَرُوا عَدُوَّكم لِأنَّ هَذا الأمْرَ بِالحِذْرِ يَتَضَمَّنُ الأمْرَ بِأخْذِ السِّلاحِ، لِأنَّ أخْذَ السِّلاحِ هو الحَذَرُ مِنَ العَدُوِّ، فالتَّأْوِيلُ أيْضًا يَعُودُ إلى الأوَّلِ، فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ الأمْرُ مُصَرِّحٌ بِأخْذِ السِّلاحِ، وعَلى القَوْلِ الثّانِي أخْذُ السِّلاحِ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِفَحْوى الكَلامِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: ذَلِكَ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِالحَذَرِ عَنْهُ إنْ كانَ مُقْتَضى الوُجُودِ لَمْ يَنْفَعِ الحَذَرُ، وإنْ كانَ مُقْتَضى العَدَمِ لا حاجَةَ إلى الحَذَرِ، فَعَلى التَّقْدِيرَيْنِ الأمْرُ بِالحَذَرِ عَبَثٌ، وعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«المَقْدُورُ كائِنٌ والهَمُّ فَضْلٌ» “ وقِيلَ أيْضًا: الحَذَرُ لا يُغْنِي مِنَ القَدَرِ فَنَقُولُ: إنْ صَحَّ هَذا الكَلامُ بَطَلَ القَوْلُ بِالشَّرائِعِ، فَإنَّهُ يُقالُ: إنْ كانَ الإنْسانُ مِن أهْلِ السَّعادَةِ في قَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ فَلا حاجَةَ إلى الإيمانِ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ لَمْ يَنْفَعْهُ الإيمانُ والطّاعَةُ، فَهَذا يُفْضِي إلى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِالكُلِّيَّةِ، والتَّحْقِيقُ في الجَوابِ أنَّهُ لَمّا كانَ الكُلُّ بِقَدَرٍ كانَ الأمْرُ بِالحَذَرِ أيْضًا داخِلًا في القَدَرِ، فَكانَ قَوْلُ القائِلِ: أيُّ فائِدَةٍ في الحَذَرِ ؟ كَلامًا مُتَناقِضًا، لِأنَّهُ لَمّا كانَ هَذا الحَذَرُ مُقَدَّرًا فَأيُّ فائِدَةٍ في هَذا السُّؤالِ الطّاعِنِ في الحَذَرِ.(p-١٤٢) المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: (فانْفِرُوا) يُقالُ: نَفَرَ القَوْمُ يَنْفِرُونَ نَفْرًا ونَفِيرًا إذا نَهَضُوا لِقِتالِ عَدُوٍّ وخَرَجُوا لِلْحَرْبِ، واسْتَنْفَرَ الإمامُ النّاسَ لِجِهادِ العَدُوِّ فَنَفَرُوا يَنْفِرُونَ إذا حَثَّهم عَلى النَّفِيرِ ودَعاهم إلَيْهِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ”«وإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فانْفِرُوا» “ والنَّفِيرُ اسْمٌ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْفِرُونَ، ومِنهُ يُقالُ: فُلانٌ لا في العِيرِ ولا في النَّفِيرِ، وقالَ أصْحابُ العَرَبِيَّةِ: أصْلُ هَذا الحَرْفِ مِنَ النُّفُورِ والنِّفارِ وهو الفَزَعُ، يُقالُ نَفَرَ إلَيْهِ إذا فَزِعَ إلَيْهِ، ونَفَرَ مِنهُ إذا فَزِعَ مِنهُ وكَرِهَهُ، ومَعْنى الآيَةِ فانْفِرُوا إلى قِتالِ عَدُوِّكم. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ جَمِيعُ أهْلِ اللُّغَةِ: الثُّباتُ جَماعاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ واحِدُها ثُبَةٌ، وأصْلُها مِن: ثَبَيْتُ الشَّيْءَ، أيْ جَمَعْتُهُ، ويُقالُ أيْضًا: ثَبَيْتُ عَلى الرَّجُلِ إذا أثْنَيْتَ عَلَيْهِ، وتَأْوِيلُهُ جَمَعَ مَحاسِنَهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ مَعْناهُ: انْفِرُوا إلى العَدُوِّ إمّا ثُباتٍ، أيْ جَماعاتٍ مُتَفَرِّقَةً، سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةٍ، وإمّا جَمِيعًا، أيْ مُجْتَمِعِينَ كَوْكَبَةً واحِدَةً، وهَذا المَعْنى أرادَ الشّاعِرُ في قَوْلِهِ: ؎طارُوا إلَيْهِ زَرافاتٍ ووِحْدانا ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أوْ رُكْبانًا﴾ أيْ عَلى أيِّ الحالَتَيْنِ كُنْتُمْ فَصَلُّوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب