الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ ﴿ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وكَفى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِطاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ ثُمَّ زَيَّفَ طَرِيقَةَ الَّذِينَ تَحاكَمُوا إلى الطّاغُوتِ وصَدُّوا عَنِ الرَّسُولِ، ثُمَّ أعادَ الأمْرَ بِطاعَةِ الرَّسُولِ مَرَّةً أُخْرى فَقالَ: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلّا لِيُطاعَ بِإذْنِ اللَّهِ﴾ ثُمَّ رَغَّبَ في تِلْكَ الطّاعَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَكانَ خَيْرًا لَهم وأشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ ﴿وإذًا لَآتَيْناهم مِن لَدُنّا أجْرًا عَظِيمًا﴾ ﴿ولَهَدَيْناهم صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أكَّدَ الأمْرَ بِطاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ الرَّسُولِ في هَذِهِ الآيَةِ مَرَّةً أُخْرى فَقالَ: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: رَوى جَمْعٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ «أنَّ ثَوْبانَ مَوْلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانَ شَدِيدَ الحُبِّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ، فَأتاهُ يَوْمًا وقَدْ تَغَيَّرَ وجْهُهُ ونُحِلَ جِسْمُهُ وعُرِفَ الحُزْنُ في وجْهِهِ، فَسَألَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ حالِهِ، فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ ما بِي وجَعٌ غَيْرَ أنِّي إذا لَمْ أرَكَ اشْتَقْتُ إلَيْكَ واسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَدِيدَةً حَتّى ألْقاكَ، فَذَكَرْتُ الآخِرَةَ فَخِفْتُ أنْ لا أراكَ هُناكَ، لِأنِّي إنْ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ فَأنْتَ تَكُونُ في دَرَجاتِ النَّبِيِّينَ وأنا في دَرَجَةِ العَبِيدِ فَلا أراكَ، وإنْ أنا لَمْ أدْخُلِ الجَنَّةَ فَحِينَئِذٍ لا أراكَ أبَدًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . الثّانِي: قالَ السُّدِّيُّ: «إنَّ ناسًا مِنَ الأنْصارِ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَسْكُنُ الجَنَّةَ في أعْلاها، ونَحْنُ نَشْتاقُ إلَيْكَ، فَكَيْفَ نَصْنَعُ ؟ فَنَزَلَتِ الآيَةُ» . الثّالِثُ: قالَ مُقاتِلٌ: «نَزَلَتْ في رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: يا رَسُولَ اللَّهِ إذا خَرَجْنا مِن عِنْدِكَ إلى أهالِينا اشْتَقْنا إلَيْكَ، فَما يَنْفَعُنا شَيْءٌ حَتّى نَرْجِعَ إلَيْكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ دَرَجَتَكَ في الجَنَّةِ، فَكَيْفَ لَنا بِرُؤْيَتِكَ إنْ دَخَلْنا الجَنَّةَ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَلَمّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ ﷺ أتى الأنْصارُ ولَدَهُ وهو في حَدِيقَةٍ لَهُ فَأخْبَرَهُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ: اللَّهُمَّ أعْمِنِي حَتّى لا أرى شَيْئًا بَعْدَهُ إلى أنْ ألْقاهُ، فَعَمِيَ مَكانَهُ، فَكانَ يُحِبُّ النَّبِيَّ حُبًّا شَدِيدًا فَجَعَلَهُ اللَّهُ مَعَهُ في الجَنَّةِ» . الرّابِعُ: قالَ الحَسَنُ: «إنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ: ما لَنا مِنكَ إلّا الدُّنْيا، فَإذا كانَتِ الآخِرَةُ رُفِعْتَ في الأُولى فَحَزِنَ النَّبِيُّ ﷺ وحَزِنُوا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» . قالَ المُحَقِّقُونَ: لا نُنْكِرُ صِحَّةَ هَذِهِ الرِّواياتِ إلّا أنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ شَيْئًا أعْظَمَ مِن ذَلِكَ، وهو البَعْثُ عَلى الطّاعَةِ والتَّرْغِيبُ فِيها، فَإنَّكَ تَعْلَمُ أنَّ خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُومِ اللَّفْظِ، فَهَذِهِ الآيَةُ عامَّةٌ في حَقِّ جَمِيعِ المُكَلَّفِينَ، وهو أنَّ كُلَّ مَن أطاعَ اللَّهَ وأطاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ فازَ بِالدَّرَجاتِ العالِيَةِ والمَراتِبِ الشَّرِيفَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ والرَّسُولَ﴾ يُوجِبُ الِاكْتِفاءَ بِالطّاعَةِ الواحِدَةِ. لِأنَّ اللَّفْظَ الدّالَّ عَلى الصِّفَةِ يَكْفِي في العَمَلِ بِهِ في جانِبِ الثُّبُوتِ حُصُولُ ذَلِكَ المُسَمّى مَرَّةً واحِدَةً.(p-١٣٧) قالَ القاضِي: لا بُدَّ مِن حَمْلِ هَذا عَلى غَيْرِ ظاهِرِهِ، وأنْ تُحْمَلَ الطّاعَةُ عَلى فِعْلِ المَأْمُوراتِ وتَرْكِ جَمِيعِ المَنهِيّاتِ، إذْ لَوْ حَمَلْناهُ عَلى الطّاعَةِ الواحِدَةِ لَدَخَلَ فِيهِ الفُسّاقُ والكُفّارُ؛ لِأنَّهم قَدْ يَأْتُونَ بِالطّاعَةِ الواحِدَةِ. وعِنْدِي فِيهِ وجْهٌ آخَرُ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ الحُكْمَ المَذْكُورَ عَقِيبَ الصِّفَةِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِ ذَلِكَ الحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الوَصْفِ، إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ﴾ أيْ ومَن يُطِعِ اللَّهَ في كَوْنِهِ إلَهًا، وطاعَةُ اللَّهِ في كَوْنِهِ إلَهًا هو مَعْرِفَتُهُ والإقْرارُ بِجَلالِهِ وعِزَّتِهِ وكِبْرِيائِهِ وصَمَدِيَّتِهِ، فَصارَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَنْبِيهًا عَلى أمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِن أحْوالِ المَعادِ: فالأوَّلُ: هو أنَّ مَنشَأ جَمِيعِ السَّعاداتِ يَوْمَ القِيامَةِ إشْراقُ الرُّوحِ بِأنْوارِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ، وكُلُّ مَن كانَتْ هَذِهِ الأنْوارُ في قَلْبِهِ أكْثَرَ، وصَفاؤُها أقْوى، وبُعْدُها عَنِ التَّكَدُّرِ بِمَحَبَّةِ عالَمِ الأجْسامِ أتَمَّ كانَ إلى السَّعادَةِ أقْرَبَ وإلى الفَوْزِ بِالنَّجاةِ أوْصَلَ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ وعْدَ أهْلِ الطّاعَةِ بِالأجْرِ العَظِيمِ والثَّوابِ الجَزِيلِ والهِدايَةِ إلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ وعْدَهم بِكَوْنِهِمْ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ، وهَذا الَّذِي وقَعَ بِهِ في الخَتْمِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ أشْرَفَ وأعْلى مِمّا قَبْلَهُ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِن كَوْنِ هَؤُلاءِ مَعَهم هو أنَّهم يَكُونُونَ في عَيْنِ تِلْكَ الدَّرَجاتِ، لِأنَّ هَذا مُمْتَنِعٌ، فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّ الأرْواحَ النّاقِصَةَ إذا اسْتَكْمَلَتْ عَلائِقَها مَعَ الأرْواحِ الكامِلَةِ في الدُّنْيا لِسَبَبِ الحُبِّ الشَّدِيدِ، فَإذا فارَقَتْ هَذا العالَمَ ووَصَلَتْ إلى عالَمِ الآخِرَةِ بَقِيَتْ تِلْكَ العَلائِقُ الرُّوحانِيَّةُ هُناكَ، ثُمَّ تَصِيرُ تِلْكَ الأرْواحُ الصّافِيَةُ كالمَرايا المَجْلُوَّةِ المُتَقابِلَةِ، فَكَأنَّ هَذِهِ المَرايا يَنْعَكِسُ الشُّعاعُ مِن بَعْضِها عَلى بَعْضٍ، وبِسَبَبِ هَذِهِ الِانْعِكاساتِ تَصِيرُ أنْوارُها في غايَةِ القُوَّةِ، فَكَذا القَوْلُ في تِلْكَ الأرْواحِ فَإنَّها لَمّا كانَتْ مَجْلُوَّةً بِصِقالَةِ المُجاهَدَةِ عَنْ غُبارِ حُبِّ ما سِوى اللَّهِ، وذَلِكَ هو المُرادُ مِن طاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ الرَّسُولِ، ثُمَّ ارْتَفَعَتِ الحُجُبُ الجَسَدانِيَّةُ أشْرَقَتْ عَلَيْها أنْوارُ جَلالِ اللَّهِ، ثُمَّ انْعَكَسَتْ تِلْكَ الأنْوارُ مِن بَعْضِها إلى بَعْضٍ وصارَتِ الأرْواحُ النّاقِصَةُ كامِلَةً بِسَبَبِ تِلْكَ العَلائِقِ الرُّوحانِيَّةِ، فَهَذا الِاحْتِمالُ خَطَرَ بِالبالِ واللَّهُ أعْلَمُ بِأسْرارِ كَلامِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لَيْسَ المُرادُ بِكَوْنِ مَن أطاعَ اللَّهَ وأطاعَ الرَّسُولَ مَعَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ، كَوْنَ الكُلِّ في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ، لِأنَّ هَذا يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ في الدَّرَجَةِ بَيْنَ الفاضِلِ والمَفْضُولِ، وإنَّهُ لا يَجُوزُ. بَلِ المُرادُ كَوْنُهم في الجَنَّةِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم مِن رُؤْيَةِ الآخَرِ، وإنْ بَعُدَ المَكانُ، لِأنَّ الحِجابَ إذا زالَ شاهَدَ بَعْضُهم بَعْضًا، وإذا أرادُوا الزِّيارَةَ والتَّلاقِيَ قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَهَذا هو المُرادُ مِن هَذِهِ المَعِيَّةِ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ النَّبِيِّينَ، ثُمَّ ذَكَرَ أوْصافًا ثَلاثَةً: الصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءَ والصّالِحِينَ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ النَّبِيِّينَ مُغايِرُونَ لِلصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ، فَأمّا هَذِهِ الصِّفاتُ الثَّلاثَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيها، قالَ بَعْضُهم: هَذِهِ الصِّفاتُ كُلُّها لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ، وهي صِفاتٌ مُتَداخِلَةٌ فَإنَّهُ لا يَمْتَنِعُ في الشَّخْصِ الواحِدِ أنْ يَكُونَ صِدِّيقًا وشَهِيدًا وصالِحًا. وقالَ الآخَرُونَ: بَلِ المُرادُ بِكُلِّ وصْفٍ صِنْفٌ مِنَ النّاسِ، وهَذا الوَجْهُ أقْرَبُ لِأنَّ المَعْطُوفَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وكَما أنَّ النَّبِيِّينَ غَيْرُ مَن ذُكِرَ بَعْدَهم، فَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُونَ يَجِبُ أنْ يَكُونُوا غَيْرَ مَن ذُكِرَ بَعْدَهم وكَذا القَوْلُ في سائِرِ الصِّفاتِ، ولْنَبْحَثْ عَنْ هَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثِ: الصِّفَةُ الأُولى: الصِّدِّيقُ: وهو اسْمٌ لِمَن عادَتُهُ الصِّدْقُ، ومَن غَلَبَ عَلى عادَتِهِ فِعْلٌ إذا وُصِفَ بِذَلِكَ الفِعْلِ قِيلَ فِيهِ فِعِّيلٌ، كَما يُقالُ: سِكِّيرٌ وشِرِّيبٌ وخِمِّيرٌ، والصِّدْقُ صِفَةٌ كَرِيمَةٌ فاضِلَةٌ مِن صِفاتِ المُؤْمِنِينَ، (p-١٣٨)وكَفى الصِّدْقَ فَضِيلَةً أنَّ الإيمانَ لَيْسَ إلّا التَّصْدِيقُ، وكَفى الكَذِبُ مَذَمَّةً أنَّ الكُفْرَ لَيْسَ إلّا التَّكْذِيبُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ في الصِّدِّيقِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ مَن صَدَّقَ بِكُلِّ الدِّينِ لا يَتَخالَجُهُ فِيهِ شَكٌّ فَهو صِدِّيقٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ﴾ [الحديد: ١٩] . الثّانِي: قالَ قَوْمٌ: الصِّدِّيقُونَ أفاضِلُ أصْحابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. الثّالِثُ: أنَّ الصِّدِّيقَ اسْمٌ لِمَن سَبَقَ إلى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَصارَ في ذَلِكَ قُدْوَةً لِسائِرِ النّاسِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أوْلى الخَلْقِ بِهَذا الوَصْفِ، أمّا بَيانُ أنَّهُ سَبَقَ إلى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَلِأنَّهُ قَدِ اشْتَهَرَتِ الرِّوايَةُ عَنِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ قالَ: ”«ما عَرَضْتُ الإسْلامَ عَلى أحَدٍ إلّا ولَهُ نَبْوَةٌ غَيْرَ أبِي بَكْرٍ فَإنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» “ دَلَّ هَذا الحَدِيثُ عَلى أنَّهُ ﷺ لَمّا عَرَضَ الإسْلامَ عَلى أبِي بَكْرِ قَبِلَهُ أبُو بَكْرٍ ولَمْ يَتَوَقَّفْ، فَلَوْ قَدَّرْنا أنَّ إسْلامَهُ تَأخَّرَ عَنْ إسْلامِ غَيْرِهِ لَزِمَ أنْ يُقالَ: إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَصَّرَ حَيْثُ أخَّرَ عَرْضَ الإسْلامِ عَلَيْهِ، وهَذا لا يَكُونُ قَدْحًا في أبِي بَكْرٍ، بَلْ يَكُونُ قَدْحًا في الرَّسُولِ ﷺ وذَلِكَ كُفْرٌ، ولَمّا بَطَلَ نِسْبَةُ هَذا التَّقْصِيرِ إلى الرَّسُولِ عَلِمْنا أنَّهُ ﷺ ما قَصَّرَ في عَرْضِ الإسْلامِ عَلَيْهِ، ولَمّا بَطَلَ نِسْبَةُ هَذا التَّقْصِيرِ إلى الرَّسُولِ عَلِمْنا أنَّهُ ﷺ ما قَصَّرَ في عَرْضِ الإسْلامِ عَلَيْهِ، والحَدِيثُ دَلَّ عَلى أنَّ أبا بَكْرٍ لَمْ يَتَوَقَّفِ البَتَّةَ، فَحَصَلَ مِن مَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ أنَّ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أسْبَقُ النّاسِ إسْلامًا، أمّا بَيانُ أنَّهُ كانَ قُدْوَةً لِسائِرِ النّاسِ في ذَلِكَ فَلِأنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ يُقالَ: إنَّ إسْلامَ عَلِيٍّ كانَ سابِقًا عَلى إسْلامِ أبِي بَكْرٍ، إلّا أنَّهُ لا يَشُكُّ عاقِلٌ أنَّ عَلِيًّا ما صارَ قُدْوَةً في ذَلِكَ الوَقْتِ، لِأنَّ عَلِيًّا كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ صَبِيًّا صَغِيرًا، وكانَ أيْضًا في تَرْبِيَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكانَ شَدِيدَ القُرْبِ مِنهُ بِالقَرابَةِ، وأبُو بَكْرٍ ما كانَ شَدِيدَ القُرْبِ مِنهُ بِالقَرابَةِ، وإيمانُ مَن هَذا شَأْنُهُ يَكُونُ سَبَبًا لِرَغْبَةِ سائِرَ النّاسِ في الإسْلامِ. وذَلِكَ لِأنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لَمّا آمَنَ جاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ وعُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أجْمَعِينَ حَتّى أسْلَمُوا، فَكانَ إسْلامُهُ سَبَبًا لِاقْتِداءِ هَؤُلاءِ الأكابِرِ بِهِ، فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ ما ذَكَرْنا أنَّهُ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِ كانَ أسْبَقَ النّاسِ إسْلامًا، وثَبَتَ أنَّ إسْلامَهُ صارَ سَبَبًا لِاقْتِداءِ أفاضِلِ الصَّحابَةِ في ذَلِكَ الإسْلامِ، فَثَبَتَ أنَّ أحَقَّ الأُمَّةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ يَقْتَضِي أنَّهُ كانَ أفْضَلَ الخَلْقِ بَعْدَ الرَّسُولِ ﷺ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ إسْلامَهُ لَمّا كانَ أسْبَقَ مِن غَيْرِهِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ثَوابُهُ أكْثَرَ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أجْرُها وأجْرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» “ . الثّانِي: أنَّهُ بَعْدَ أنْ أسْلَمَ جاهَدَ في اللَّهِ وصارَ جِهادُهُ مُفْضِيًا إلى حُصُولِ الإسْلامِ لِأكابِرِ الصَّحابَةِ مِثْلِ عُثْمانَ وطَلْحَةَ والزُّبَيْرِ وسَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ وعُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ وعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم، وجاهَدَ عَلِيٌّ يَوْمَ أُحُدٍ ويَوْمَ الأحْزابِ في قَتْلِ الكُفّارِ، ولَكِنَّ جِهادَ أبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أفْضى إلى حُصُولِ الإسْلامِ لِمِثْلِ الَّذِينَ هم أعْيانُ الصَّحابَةِ، وجِهادُ عَلِيٍّ أفْضى إلى قَتْلِ الكُفّارِ، ولا شَكَّ أنَّ الأوَّلَ أفْضَلُ، وأيْضًا فَأبُو بَكْرٍ جاهَدَ في أوَّلِ الإسْلامِ حِينَ كانَ النَّبِيُّ ﷺ في غايَةِ الضَّعْفِ، وعَلِيٌّ إنَّما جاهَدَ يَوْمَ أُحُدٍ ويَوْمَ الأحْزابِ، وكانَ الإسْلامُ قَوِيًّا في هَذِهِ الأيّامِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الجِهادَ وقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلُ مِنَ الجِهادِ وقْتَ القُوَّةِ، ولِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿لا يَسْتَوِي مِنكم مَن أنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقاتَلَ أُولَئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أنْفَقُوا مِن بَعْدُ وقاتَلُوا﴾ [الحديد: ١٠] فَبَيَّنَ أنَّ نُصْرَةَ الإسْلامِ وقْتَ ما كانَ ضَعِيفًا أعْظَمُ ثَوابًا مِن نُصْرَتِهِ وقْتَ ما كانَ قَوِيًّا، فَثَبَتَ مِن مَجْمُوعِ ما ذَكَرْنا أنَّ أوْلى النّاسِ بِهَذا الوَصْفِ هو الصِّدِّيقُ، فَلِهَذا أجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى تَسْلِيمِ هَذا اللَّقَبِ لَهُ إلّا مَن لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فَإنَّهُ يُنْكِرُهُ، ودَلَّ تَفْسِيرُ الصِّدِّيقِ بِما ذَكَرْناهُ عَلى أنَّهُ (p-١٣٩)لا مَرْتَبَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ في الفَضْلِ والعِلْمِ إلّا هَذا الوَصْفُ وهو كَوْنُ الإنْسانِ صِدِّيقًا، وكَما دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَقَدْ دَلَّ لَفْظُ القُرْآنِ عَلَيْهِ، فَإنَّهُ أيْنَما ذَكَرَ الصِّدِّيقَ والنَّبِيَّ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُما واسِطَةً، فَقالَ في وصْفِ إسْماعِيلَ: ﴿إنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ﴾ [مريم: ٥٤] وفي صِفَةِ إدْرِيسَ ﴿إنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا﴾ [مريم: ٥٦] وقالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ﴾ يَعْنِي إنَّكَ إنْ تَرَقَّيْتَ مِنَ الصِّدِّيقِيَّةِ وصَلْتَ إلى النُّبُوَّةِ، وإنْ نَزَلْتَ مِنَ النُّبُوَّةِ وصَلْتَ إلى الصِّدِّيقِيَّةِ، ولا مُتَوَسِّطَ بَيْنَهُما، وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: ٣٣] فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُما واسِطَةً، وكَما دَلَّتْ هَذِهِ الدَّلائِلُ عَلى نَفْيِ الواسِطَةِ فَقَدْ وفَّقَ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ المَوْصُوفَةَ بِأنَّها خَيْرُ أُمَّةٍ حَتّى جَعَلُوا الإمامَ بَعْدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أبا بَكْرٍ عَلى سَبِيلِ الإجْماعِ، ولَمّا تُوُفِّيَ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِ دَفَنُوهُ إلى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وما ذاكَ إلّا أنَّ اللَّهَ تَعالى رَفَعَ الواسِطَةَ بَيْنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ في هَذِهِ الآيَةِ، فَلا جَرَمَ ارْتَفَعَتِ الواسِطَةُ بَيْنَهُما في الوُجُوهِ الَّتِي عَدَدْناها. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: الشَّهادَةُ: والكَلامُ في الشُّهَداءِ قَدْ مَرَّ في مَواضِعَ مِن هَذا الكِتابِ، ولا بَأْسَ بِأنْ نُعِيدَ البَعْضَ فَنَقُولُ: لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ مُفَسَّرَةً بِكَوْنِ الإنْسانِ مَقْتُولَ الكافِرِ، والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ مَرْتَبَةَ الشَّهادَةِ مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ في الدِّينِ، وكَوْنُ الإنْسانِ مَقْتُولَ الكافِرِ لَيْسَ فِيهِ زِيادَةُ شَرَفٍ، لِأنَّ هَذا القَتْلَ قَدْ يَحْصُلُ في الفُسّاقِ ومَن لا مَنزِلَةَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ. الثّانِي: أنَّ المُؤْمِنِينَ قَدْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنا الشَّهادَةَ، فَلَوْ كانَتِ الشَّهادَةُ عِبارَةً عَنْ قَتْلِ الكافِرِ إيّاهُ لَكانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ القَتْلَ وإنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ، لِأنَّ طَلَبَ صُدُورِ ذَلِكَ القَتْلِ مِنَ الكافِرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ ما هو كُفْرٌ. الثّالِثُ: رُوِيَ أنَّهُ ﷺ قالَ: «المَبْطُونُ شَهِيدٌ والغَرِيقُ شَهِيدٌ»، فَعَلِمْنا أنَّ الشَّهادَةَ لَيْسَتْ عِبارَةً عَنِ القَتْلِ، بَلْ نَقُولُ: الشَّهِيدُ فَعِيلٌ بِمَعْنى الفاعِلِ، وهو الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ دِينِ اللَّهِ تَعالى تارَةً بِالحُجَّةِ والبَيانِ، وأُخْرى بِالسَّيْفِ والسِّنانِ، فالشُّهَداءُ هُمُ القائِمُونَ بِالقِسْطِ، وهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ في قَوْلِهِ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] ويُقالُ لِلْمَقْتُولِ في سَبِيلِ اللَّهِ شَهِيدٌ مِن حَيْثُ إنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ في نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وشَهادَتِهِ لَهُ بِأنَّهُ هو الحَقُّ وما سِواهُ هو الباطِلُ، وإذا كانَ مِن شُهَداءِ اللَّهِ بِهَذا المَعْنى كانَ مِن شُهَداءِ اللَّهِ في الآخِرَةِ، كَما قالَ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] . الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: الصّالِحُونَ: والصّالِحُ هو الَّذِي يَكُونُ صالِحًا في اعْتِقادِهِ وفي عَمَلِهِ، فَإنَّ الجَهْلَ فَسادٌ في الِاعْتِقادِ، والمَعْصِيَةُ فَسادٌ في العَمَلِ، وإذا عَرَفْتَ تَفْسِيرَ الصِّدِّيقِ والشَّهِيدِ والصّالِحِ ظَهَرَ لَكَ ما بَيْنَ هَذِهِ الصِّفاتِ مِنَ التَّفاوُتِ، وذَلِكَ لِأنَّ كُلَّ مَن كانَ اعْتِقادُهُ صَوابًا وكانَ عَمَلُهُ طاعَةً وغَيْرَ مَعْصِيَةٍ فَهو صالِحٌ، ثُمَّ إنَّ الصّالِحَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَشْهَدُ لِدِينِ اللَّهِ بِأنَّهُ هو الحَقُّ وأنَّ ما سِواهُ هو الباطِلُ، وهَذِهِ الشَّهادَةُ تارَةً تَكُونُ بِالحُجَّةِ والدَّلِيلِ وأُخْرى بِالسَّيْفِ، وقَدْ لا يَكُونُ الصّالِحُ مَوْصُوفًا بِكَوْنِهِ قائِمًا بِهَذِهِ الشَّهادَةِ، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ مَن كانَ شَهِيدًا كانَ صالِحًا، ولَيْسَ كُلُّ مَن كانَ صالِحًا شَهِيدًا، فالشَّهِيدُ أشْرَفُ أنْواعِ الصّالِحِ، ثُمَّ إنَّ الشَّهِيدَ قَدْ يَكُونُ صِدِّيقًا وقَدْ لا يَكُونُ، ومَعْنى الصِّدِّيقِ الَّذِي كانَ أسْبَقَ إيمانًا مِن غَيْرِهِ، وكانَ إيمانُهُ قُدْوَةً لِغَيْرِهِ، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ مَن كانَ صِدِّيقًا كانَ شَهِيدًا، ولَيْسَ كُلُّ مَن كانَ شَهِيدًا كانَ صِدِّيقًا، فَثَبَتَ أنَّ أفْضَلَ الخَلْقِ هُمُ الأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وبَعْدَهُمُ الصِّدِّيقُونَ، وبَعْدَهم مَن لَيْسَ لَهُ دَرَجَةٌ إلّا مَحْضَ دَرَجَةِ الشَّهادَةِ، وبَعْدَهم مَن لَيْسَ لَهُ إلّا مَحْضَ دَرَجَةِ الصَّلاحِ. فالحاصِلُ أنَّ أكابِرَ المَلائِكَةِ يَأْخُذُونَ الدِّينَ الحَقَّ عَنِ اللَّهِ، والأنْبِياءُ يَأْخُذُونَ (p-١٤٠)عَنِ المَلائِكَةِ، كَما قالَ: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [النحل: ٢] والصِّدِّيقُونَ يَأْخُذُونَهُ عَنِ الأنْبِياءِ. والشُّهَداءُ يَأْخُذُونَهُ عَنِ الصِّدِّيقِينَ، لِأنّا بَيَّنّا أنَّ الصِّدِّيقَ هو الَّذِي يَأْخُذُ في المَرَّةِ الأُولى عَنِ الأنْبِياءِ وصارَ قُدْوَةً لِمَن بَعْدُهُ، والصّالِحُونَ يَأْخُذُونَهُ عَنِ الشُّهَداءِ، فَهَذا هو تَقْرِيرُ هَذِهِ المَراتِبَ وإذا عَرَفْتَ هَذا ظَهَرَ لَكَ أنَّهُ لا أحَدَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلّا وهو داخِلٌ في بَعْضِ هَذِهِ النُّعُوتِ والصِّفاتِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: فِيهِ مَعْنى التَّعْجِيبِ. كَأنَّهُ قِيلَ: ما أحْسَنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الرِّفْقُ في اللُّغَةِ: لِينُ الجانِبِ ولَطافَةُ الفِعْلِ، وصاحِبُهُ رَفِيقٌ. هَذا مَعْناهُ في اللُّغَةِ ثُمَّ الصّاحِبُ يُسَمّى رَفِيقًا لِارْتِفاقِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الواحِدِيُّ: إنَّما وحَّدَ الرَّفِيقَ وهو صِفَةٌ لِجَمْعٍ، لِأنَّ الرَّفِيقَ والرَّسُولَ والبَرِيدَ تَذْهَبُ بِهِ العَرَبُ إلى الواحِدِ وإلى الجَمْعِ قالَ تَعالى: ﴿فَقُولا إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦] ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: حَسُنَ أُولَئِكَ رَجُلًا، وبِالجُمْلَةِ فَهَذا إنَّما يَجُوزُ في الِاسْمِ الَّذِي يَكُونُ صِفَةً، أمّا إذا كانَ اسْمًا مُصَرَّحًا مِثْلَ رَجُلٍ وامْرَأةٍ لَمْ يَجُزْ، وجَوَّزَ الزَّجّاجُ ذَلِكَ في الِاسْمِ أيْضًا وزَعَمَ أنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ، وقِيلَ: مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ أيْ حَسُنَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم رَفِيقًا، كَما قالَ: ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ [غافر: ٦٧] . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: (رَفِيقًا) نُصِبَ عَلى التَّمْيِيزِ، وقِيلَ عَلى الحالِ: أيْ حَسُنَ واحِدٌ مِنهم رَفِيقًا. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ فِيمَن أطاعَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أنَّهُ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَرِثْ بِذَلِكَ، بَلْ ذَكَرَ أنَّهُ يَكُونُ رَفِيقًا لَهُ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الرَّفِيقَ هو الَّذِي يُرْتَفَقُ بِهِ في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَبَيَّنَ أنَّ هَؤُلاءِ المُطِيعِينَ يَرْتَفِقُونَ بِهِمْ، وإنَّما يَرْتَفِقُونَ بِهِمْ إذا نالُوا مِنهم رِفْقًا وخَيْرًا، ولَقَدْ ذَكَرْنا مِرارًا كَيْفِيَّةَ هَذا الِارْتِفاقِ، وأمّا عَلى حَسَبِ الظّاهِرِ فَلِأنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ ولا يَكُونُ رَفِيقًا لَهُ، فَأمّا إذا كانَ عَظِيمَ الشَّفَقَةِ عَظِيمَ الِاعْتِناءِ بِشَأْنِهِ كانَ رَفِيقًا لَهُ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ الأنْبِياءَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءَ والصّالِحِينَ يَكُونُونَ لَهُ كالرُّفَقاءِ مِن شِدَّةِ مَحَبَّتِهِمْ لَهُ وسُرُورِهِمْ بِرُؤْيَتِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لا شَكَّ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (ذَلِكَ) إشارَةٌ إلى كُلِّ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن وصْفِ الثَّوابِ، فَلَمّا حَكَمَ عَلى كُلِّ ذَلِكَ بِأنَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ دَلَّ هَذا عَلى أنَّ الثَّوابَ غَيْرُ واجِبٍ عَلى اللَّهِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ المَعْقُولِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: القُدْرَةُ عَلى الطّاعَةِ إنْ كانَتْ لا تَصْلُحُ إلّا لِلطّاعَةِ، فَخالِقُ تِلْكَ القُدْرَةِ هو الَّذِي أعْطى الطّاعَةَ، فَلا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا عَلَيْهِ شَيْئًا، وإنْ كانَتْ صالِحَةً لِلْمَعْصِيَةِ أيْضًا لَمْ يَتَرَجَّحْ جانِبُ الطّاعَةِ عَلى جانِبِ المَعْصِيَةِ إلّا بِخَلْقِ الدّاعِي إلى الطّاعَةِ، ويَصِيرُ مَجْمُوعُ القُدْرَةِ والدّاعِي مُوجِبًا لِلْفِعْلِ، فَخالِقُ هَذا المَجْمُوعِ هو الَّذِي أعْطى الطّاعَةَ، فَلا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا عَلَيْهِ شَيْئًا. الثّانِي: نِعَمُ اللَّهِ عَلى العَبْدِ لا تُحْصى وهي مُوجِبَةٌ لِلطّاعَةِ والشُّكْرِ، وإذا كانَتِ الطّاعاتُ تَقَعُ في مُقابَلَةِ النِّعَمِ السّالِفَةِ امْتَنَعَ كَوْنُها مُوجِبَةً لِلثَّوابِ في المُسْتَقْبَلِ. الثّالِثُ: أنَّ الوُجُوبَ يَسْتَلْزِمُ اسْتِحْقاقَ الذَّنْبِ عِنْدَ التَّرْكِ، وهَذا الِاسْتِحْقاقُ يُنافِي الإلَهِيَّةِ، فَيَمْتَنِعُ حُصُولُهُ في حَقِّ الإلَهِ تَعالى، فَثَبَتَ أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ كَما دَلَّ عَلى أنَّ الثَّوابَ كُلَّهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فالبَراهِينُ العَقْلِيَّةُ القاطِعَةُ دالَّةٌ (p-١٤١)عَلى ذَلِكَ أيْضًا، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: الثَّوابُ وإنْ كانَ واجِبًا لَكِنْ لا يَمْتَنِعُ إطْلاقُ اسْمِ الفَضْلِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ أنَّ العَبْدَ إنَّما اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الثَّوابَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى كَلَّفَهُ والتَّكْلِيفُ تَفَضُّلٌ، ولِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي أعْطى العَقْلَ والقُدْرَةَ وأزاحَ الأعْذارَ والمَوانِعَ حَتّى تَمَكَّنَ المُكَلَّفُ مِن فِعْلِ الطّاعَةِ، فَصارَ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ مَن وهَبَ لِغَيْرِهِ ثَوْبًا كَيْ يَنْتَفِعَ بِهِ، فَإذا باعَهُ وانْتَفَعَ بِثَمَنِهِ جازَ أنْ يُوصَفَ ذَلِكَ الثَّمَنُ بِأنَّهُ فَضْلٌ مِنَ الواهِبِ فَكَذا هَهُنا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ﴾ فِيهِ احْتِمالانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ هو الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ، ويَكُونَ المَعْنى أنَّ ذَلِكَ الثَّوابَ لِكَمالِ دَرَجَتِهِ كَأنَّهُ هو الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وأنَّ ما سِواهُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ الفَضْلُ هو مِنَ اللَّهِ، أيْ ذَلِكَ الفَضْلُ المَذْكُورُ، والثَّوابُ المَذْكُورُ هو مِنَ اللَّهِ لا مِن غَيْرِهِ، ولا شَكَّ أنَّ الِاحْتِمالَ الأوَّلَ أبْلَغُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَفى بِاللَّهِ عَلِيمًا﴾ ولَهُ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ في تَوْكِيدِ ما تَقَدَّمَ مِنَ التَّرْغِيبِ في طاعَةِ اللَّهِ لِأنَّهُ تَعالى نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ يَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ الطّاعَةِ وكَيْفِيَّةَ الجَزاءِ والتَّفَضُّلِ، وذَلِكَ مِمّا يُرَغِّبُ المُكَلَّفَ في كَمالِ الطّاعَةِ والِاحْتِرازِ عَنِ التَّقْصِيرِ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب