الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ .
(p-١٥٨)اعْلَمْ أنَّ هَذا هو النَّوْعُ الرّابِعُ مِنَ الأحْكامِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ وهو ما يَتَعَلَّقُ بِالمَوارِيثِ والفَرائِضِ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ «قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّ أوْسَ بْنَ ثابِتٍ الأنْصارِيَّ تُوُفِّيَ عَنْ ثَلاثِ بَناتٍ وامْرَأةٍ، فَجاءَ رَجُلانِ مِن بَنِي عَمِّهِ وهُما وصِيّانِ لَهُ يُقالُ لَهُما: سُوَيْدٌ، وعَرْفَجَةُ وأخَذا مالَهُ. فَجاءَتِ امْرَأةُ أوْسٍ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وذَكَرَتِ القِصَّةَ، وذَكَرَتْ أنَّ الوَصِيَّيْنِ ما دَفَعا إلَيَّ شَيْئًا، وما دَفَعا إلى بَناتِهِ شَيْئًا مِنَ المالِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ ”ارْجِعِي إلى بَيْتِكَ حَتّى أنْظُرَ ما يُحْدِثُ اللَّهُ في أمْرِكِ“ فَنَزَلَتْ عَلى النَّبِيِّ ﷺ هَذِهِ الآيَةُ، ودَلَّتْ عَلى أنَّ لِلرِّجالِ نَصِيبًا ولِلنِّساءِ نَصِيبًا، ولَكِنَّهُ تَعالى لَمْ يُبَيِّنِ المِقْدارَ في هَذِهِ الآيَةِ، فَأرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ إلى الوَصِيَّيْنِ وقالَ: ”لا تَقْرَبا مِن مالِ أوْسٍ شَيْئًا“ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدُ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ ( النِّساءِ: ١١ ] ونَزَلَ فَرْضُ الزَّوْجِ وفَرْضُ المَرْأةِ، فَأمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الوَصِيَّيْنِ أنْ يَدْفَعا إلى المَرْأةِ الثُّمُنَ ويُمْسِكا نَصِيبَ البَناتِ، وبَعْدَ ذَلِكَ أرْسَلَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَيْهِما أنِ ادْفَعا نَصِيبَ بَناتِها إلَيْها فَدَفَعاهُ إلَيْها»، فَهَذا هو الكَلامُ في سَبَبِ النُّزُولِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ والأطْفالَ، ويَقُولُونَ: لا يَرِثُ إلّا مَن طاعَنَ بِالرِّماحِ وذادَ عَنِ الحَوْزَةِ وحازَ الغَنِيمَةَ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ الإرْثَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالرِّجالِ، بَلْ هو أمْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فَذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ هَذا القَدْرَ، ثُمَّ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ ولا يَمْتَنِعُ إذا كانَ لِلْقَوْمِ عادَةٌ في تَوْرِيثِ الكِبارِ دُونَ الصِّغارِ ودُونَ النِّساءِ، أنْ يَنْقُلَهم سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ تِلْكَ العادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلى التَّدْرِيجِ؛ لِأنَّ الِانْتِقالَ عَنِ العادَةِ شاقٌّ ثَقِيلٌ عَلى الطَّبْعِ، فَإذا كانَ دُفْعَةً عَظُمَ وقْعُهُ عَلى القَلْبِ، وإذا كانَ عَلى التَّدْرِيجِ سَهُلَ، فَلِهَذا المَعْنى ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى هَذا المُجْمَلَ أوَّلًا، ثُمَّ أرْدَفَهُ بِالتَّفْصِيلِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى تَوْرِيثِ ذَوِي الأرْحامِ قالَ: لِأنَّ العَمّاتِ والخالاتِ وأوْلادَ البَناتِ مِنَ الأقْرَبِينَ، فَوَجَبَ دُخُولُهم تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ﴾ أقْصى ما في البابِ أنَّ قَدْرَ ذَلِكَ النَّصِيبِ غَيْرُ مَذْكُورٍ في هَذِهِ الآيَةِ، إلّا أنّا نُثْبِتُ كَوْنَهم مُسْتَحِقِّينَ لِأصِلِ النَّصِيبِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وأمّا المِقْدارُ فَنَسْتَفِيدُهُ مِن سائِرِ الدَّلائِلِ.
وأجابَ أصْحابُنا عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ أيْ نَصِيبًا مُقَدَّرًا، وبِالإجْماعِ لَيْسَ لِذَوِي الأرْحامِ نَصِيبٌ مُقَدَّرٌ، فَثَبَتَ أنَّهم لَيْسُوا داخِلِينَ في هَذِهِ الآيَةِ.
وثانِيهِما: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالأقْرَبِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ ذَوِي الأرْحامِ مِنَ الأقْرَبِينَ ؟ وتَحْقِيقُهُ أنَّهُ إمّا أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأقْرَبِينَ مَن كانَ أقْرَبَ مِن شَيْءٍ آخَرَ، أوِ المُرادُ مِنهُ مَن كانَ أقْرَبَ مِن جَمِيعِ الأشْياءِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ أكْثَرِ الخَلْقِ فِيهِ؛ لِأنَّ كُلَّ إنْسانٍ لَهُ نَسَبٌ مَعَ غَيْرِهِ إمّا بِوَجْهٍ قَرِيبٍ أوْ بِوَجْهٍ بَعِيدٍ، وهو الِانْتِسابُ إلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا بُدَّ وأنْ يَكُونَ هو أقْرَبَ إلَيْهِ مِن ولَدِهِ، فَيَلْزَمُ دُخُولُ كُلِّ الخَلْقِ في هَذا النَّصِّ وهو باطِلٌ، ولَمّا بَطَلَ هَذا الِاحْتِمالُ وجَبَ حَمْلُ النَّصِّ عَلى الِاحْتِمالِ الثّانِي وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الأقْرَبِينَ مَن كانَ أقْرَبَ النّاسِ إلَيْهِ، وما ذاكَ إلّا الوالِدانِ والأوْلادُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا النَّصَّ لا يَدْخُلُ فِيهِ ذَوُو الأرْحامِ، لا يُقالُ: لَوْ حَمَلْنا الأقْرَبِينَ عَلى الوالِدَيْنِ لَزِمَ التَّكْرارُ، لِأنّا نَقُولُ: الأقْرَبُ جِنْسٌ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ نَوْعانِ: الوالِدُ والوَلَدُ، فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الوالِدَ، ثُمَّ ذَكَرَ الأقْرَبِينَ، فَيَكُونُ المَعْنى أنَّهُ ذَكَرَ النَّوْعَ، ثُمَّ ذَكَرَ الجِنْسَ فَلَمْ يَلْزَمِ التَّكْرارُ.
(p-١٥٩)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (نَصِيبًا) في نَصْبِهِ وجُوهٌ:
أحَدُها: أنَّهُ نَصْبٌ عَلى الِاخْتِصاصِ بِمَعْنى: أعْنِي نَصِيبًا مَفْرُوضًا مَقْطُوعًا واجِبًا.
والثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ انْتِصابَ المَصْدَرِ؛ لِأنَّ النَّصِيبَ اسْمٌ في مَعْنى المَصْدَرِ كَأنَّهُ قِيلَ: قَسَمًا واجِبًا، كَقَوْلِهِ: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١] أيْ قِسْمَةً مَفْرُوضَةً.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: أصْلُ الفَرْضِ الحَزُّ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ الحَزُّ الَّذِي في سِيَةِ القَوْسِ فَرْضًا، والحَزُّ الَّذِي في القِداحِ يُسَمّى أيْضًا فَرْضًا، وهو عَلامَةٌ لَها تُمَيِّزُ بَيْنَها وبَيْنَ غَيْرِها، والفُرْضَةُ العَلامَةُ في مَقْسِمِ الماءِ، يَعْرِفُ بِها كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ مِنَ الشُّرْبِ، فَهَذا هو أصْلُ الفَرْضِ في اللُّغَةِ، ثُمَّ إنَّ أصْحابَ أبِي حَنِيفَةَ خَصَّصُوا لَفْظَ الفَرْضِ بِما عُرِفَ وجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قاطِعٍ، واسْمَ الوُجُوبِ بِما عُرِفَ وجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ، قالُوا: لِأنَّ الفَرْضَ عِبارَةٌ عَنِ الحَزِّ والقَطْعِ، وأمّا الوُجُوبُ فَإنَّهُ عِبارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، يُقالُ: وجَبَتِ الشَّمْسُ إذا سَقَطَتْ، ووَجَبَ الحائِطُ إذا سَقَطَ، وسَمِعْتُ وجْبَةً يَعْنِي سَقْطَةً قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإذا وجَبَتْ جُنُوبُها﴾ [الحج: ٣٦] يَعْنِي سَقَطَتْ، فَثَبَتَ أنَّ الفَرْضَ عِبارَةٌ عَنِ الحَزِّ والقَطْعِ، وأنَّ الوُجُوبَ عِبارَةٌ عَنِ السُّقُوطِ، ولا شَكَّ أنَّ تَأْثِيرَ الحَزِّ والقَطْعِ أقْوى وأكْمَلُ مِن تَأْثِيرِ السُّقُوطِ. فَلِهَذا السَّبَبِ خَصَّصَ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ لَفْظَ الفَرْضِ بِما عُرِفَ وجُوبُهُ بِدَلِيلٍ قاطِعٍ، ولَفْظَ الوُجُوبِ بِما عُرِفَ وجُوبُهُ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ.
إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: هَذا الَّذِي قَرَّرُوهُ يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِأنَّ الآيَةَ ما تَناوَلَتْ ذَوِي الأرْحامِ؛ لِأنَّ تَوْرِيثَ ذَوِي الأرْحامِ لَيْسَ مِن بابِ ما عُرِفَ بِدَلِيلٍ قاطِعٍ بِإجْماعِ الأُمَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ تَوْرِيثُهم فَرْضًا، والآيَةُ إنَّما تَناوَلَتِ التَّوْرِيثَ المَفْرُوضَ، فَلَزِمَ القَطْعُ بِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ ما تَناوَلَتْ ذَوِي الأرْحامِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"لِّلرِّجَالِ نَصِیبࣱ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَاۤءِ نَصِیبࣱ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَ ٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِیبࣰا مَّفۡرُوضࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق