الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ ﴿فَمِنهم مَن آمَنَ بِهِ ومِنهم مَن صَدَّ عَنْهُ وكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أمْ: مُنْقَطِعَةٌ، والتَّقْدِيرُ: بَلْ يَحْسُدُونَ النّاسَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في المُرادِ بِلَفْظِ ”النّاسِ“ قَوْلانِ: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ والأكْثَرِينَ أنَّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ وإنَّما جازَ أنْ يَقَعَ عَلَيْهِ لَفْظُ الجَمْعِ، وهو واحِدٌ؛ لِأنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِن خِصالِ الخَيْرِ ما لا يَحْصُلُ إلّا مُتَفَرِّقًا في الجَمْعِ العَظِيمِ، ومِن هَذا يُقالُ: فُلانٌ أُمَّةٌ وحْدَهُ، أيْ يَقُومُ مَقامَ أُمَّةٍ، قالَ تَعالى: ﴿إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا﴾ [النحل: ١٢٠] .(p-١٠٧) والقَوْلُ الثّانِي: المُرادُ هَهُنا هو الرَّسُولُ ومَن مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وقالَ مَن ذَهَبَ إلى هَذا القَوْلِ: إنَّ لَفْظَ ”النّاسِ“ جَمْعٌ، فَحَمْلُهُ عَلى الجَمْعِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى المُفْرَدِ. واعْلَمْ أنَّهُ إنَّما حَسُنَ ذِكْرُ ”النّاسِ“ لِإرادَةِ طائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النّاسِ؛ لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ الخَلْقِ إنَّما هو القِيامُ بِالعُبُودِيَّةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] فَلَمّا كانَ القائِمُونَ بِهَذا المَقْصُودِ لَيْسَ إلّا مُحَمَّدًا ﷺ ومَن كانَ عَلى دِينِهِ كانَ وهو وأصْحابُهُ كَأنَّهم كُلُّ النّاسِ؛ فَلِهَذا حَسُنَ إطْلاقُ لَفْظِ النّاسِ وإرادَتِهِمْ عَلى التَّعْيِينِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ الفَضْلِ الَّذِي لِأجْلِهِ صارُوا مَحْسُودِينَ عَلى قَوْلَيْنِ: فالقَوْلُ الأوَّلُ: أنَّهُ هو النُّبُوَّةُ والكَرامَةُ الحاصِلَةُ بِسَبَبِها في الدِّينِ والدُّنْيا. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهم حَسَدُوهُ عَلى أنَّهُ كانَ لَهُ مِنَ الزَّوْجاتِ تِسْعٌ. واعْلَمْ أنَّ الحَسَدَ لا يَحْصُلُ إلّا عِنْدَ الفَضِيلَةِ، فَكُلَّما كانَتْ فَضِيلَةُ الإنْسانِ أتَمَّ وأكْمَلَ كانَ حَسَدُ الحاسِدِينَ عَلَيْهِ أعْظَمَ، ومَعْلُومٌ أنَّ النُّبُوَّةَ أعْظَمُ المَناصِبِ في الدِّينِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أعْطاها لِمُحَمَّدٍ ﷺ وضَمَّ إلَيْها أنَّهُ جَعَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ أقْوى دَوْلَةً وأعْظَمَ شَوْكَةً وأكْثَرَ أنْصارًا وأعْوانًا، وكُلُّ ذَلِكَ مِمّا يُوجِبُ الحَسَدَ العَظِيمَ. فَأمّا كَثْرَةُ النِّساءِ فَهو كالأمْرِ الحَقِيرِ بِالنِّسْبَةِ إلى ما ذَكَرْناهُ، فَلا يُمْكِنُ تَفْسِيرُ هَذا الفَضْلِ بِهِ، بَلْ إنْ جُعِلَ الفَضْلُ اسْمًا لِجَمِيعِ ما أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلَيْهِ دَخَلَ هَذا أيْضًا تَحْتَهُ، فَأمّا عَلى سَبِيلِ القَصْرِ عَلَيْهِ فَبَعِيدٌ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ صارَتْ سَبَبًا لِحَسَدِ هَؤُلاءِ اليَهُودِ، بَيَّنَ ما يَدْفَعُ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿فَقَدْ آتَيْنا آلَ إبْراهِيمَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وآتَيْناهم مُلْكًا عَظِيمًا﴾ والمَعْنى أنَّهُ حَصَلَ في أوْلادِ إبْراهِيمَ جَماعَةٌ كَثِيرُونَ جَمَعُوا بَيْنَ النُّبُوَّةِ والمُلْكِ، وأنْتُمْ لا تَتَعَجَّبُونَ مِن ذَلِكَ ولا تَحْسُدُونَهُ، فَلِمَ تَتَعَجَّبُونَ مِن حالِ مُحَمَّدٍ، ولِمَ تَحْسُدُونَهُ ؟ واعْلَمْ أنَّ ”الكِتابَ“ إشارَةٌ إلى ظَواهِرِ الشَّرِيعَةِ، ”والحِكْمَةَ“ إشارَةٌ إلى أسْرارِ الحَقِيقَةِ، وذَلِكَ هو كَمالُ العِلْمِ، وأمّا المُلْكُ العَظِيمُ فَهو كَمالُ القُدْرَةِ. وقَدْ ثَبَتَ أنَّ الكَمالاتِ الحَقِيقِيَّةَ لَيْسَتْ إلّا العِلْمَ والقُدْرَةَ، فَهَذا الكَلامُ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ آتاهم أقْصى ما يَلِيقُ بِالإنْسانِ مِنَ الكَمالاتِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَبْعَدًا فِيهِمْ لا يَكُونُ مُسْتَبْعَدًا في حَقِّ مُحَمَّدٍ ﷺ . وقِيلَ: إنَّهم لَمّا اسْتَكْثَرُوا نِساءَهُ قِيلَ لَهم: كَيْفَ اسْتَكْثَرْتُمْ لَهُ التِّسْعَ وقَدْ كانَ لِداوُدَ مِائَةٌ، ولِسُلَيْمانَ ثَلاثُمِائَةٍ بِالمَهْرِ وسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ ؟ * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَمِنهم مَن آمَنَ بِهِ ومِنهم مَن صَدَّ عَنْهُ﴾ واخْتَلَفُوا في مَعْنى ”بِهِ“ فَقالَ بَعْضُهم: بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، والمُرادُ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ آمَنَ بَعْضُهم وبَقِيَ بَعْضُهم عَلى الكُفْرِ والإنْكارِ. وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ مَن تَقَدَّمَ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. والمَعْنى أنَّ أُولَئِكَ الأنْبِياءَ مَعَ ما خَصَصْتُهم بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ والمُلْكِ جَرَتْ عادَةُ أُمَمِهِمْ فِيهِمْ أنَّ بَعْضَهم آمَنَ بِهِ وبَعْضَهم بَقُوا عَلى الكُفْرِ، فَأنْتَ يا مُحَمَّدُ لا تَتَعَجَّبْ مِمّا عَلَيْهِ هَؤُلاءِ القَوْمُ، فَإنَّ أحْوالَ جَمِيعِ الأُمَمِ مَعَ جَمِيعِ الأنْبِياءِ هَكَذا كانَتْ، وذَلِكَ تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ؛ لِيَكُونَ أشَدَّ صَبْرًا عَلى ما يَنالُ مِن قِبَلِهِمْ. (p-١٠٨)ثُمَّ قالَ: ﴿وكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا﴾ أيْ كَفى بِجَهَنَّمَ في عَذابِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأخِّرِينَ سَعِيرًا، والسَّعِيرُ: الوَقُودُ، يُقالُ: أوْقَدْتُ النّارَ، وأسْعَرْتُها، بِمَعْنًى واحِدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب