الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهم وقُولُوا لَهم قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ . واعْلَمْ أنَّ هَذا هو النَّوْعُ الثّالِثُ مِنَ الأحْكامِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ. واعْلَمْ أنَّ تَعَلُّقَ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها هو كَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ: إنِّي وإنْ كُنْتُ أمَرْتُكم بِإيتاءِ اليَتامى أمْوالَهم وبِدَفْعِ صَدُقاتِ النِّساءِ إلَيْهِنَّ، فَإنَّما قُلْتُ ذَلِكَ إذا كانُوا عاقِلِينَ بالِغِينَ مُتَمَكِّنِينَ مِن حِفْظِ أمْوالِهِمْ، فَأمّا إذا كانُوا غَيْرَ بالِغِينَ، أوْ غَيْرَ عُقَلاءَ، أوْ إنْ كانُوا بالِغِينَ عُقَلاءَ إلّا أنَّهم كانُوا سُفَهاءَ مُسْرِفِينَ، فَلا تَدْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم وأمْسِكُوها لِأجْلِهِمْ إلى أنْ يَزُولَ عَنْهُمُ السَّفَهُ، والمَقْصُودُ مِن كُلِّ ذَلِكَ الِاحْتِياطُ في حِفْظِ أمْوالِ الضُّعَفاءِ والعاجِزِينَ. وفِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في الآيَةِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّها خِطابُ الأوْلِياءِ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: أيُّها الأوْلِياءُ لا تُؤْتُوا (p-١٥٠)الَّذِينَ يَكُونُونَ تَحْتَ وِلايَتِكم وكانُوا سُفَهاءَ أمْوالَهم. والدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ خِطابُ الأوْلِياءِ قَوْلُهُ: ﴿وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهُمْ﴾ وأيْضًا فَعَلى هَذا القَوْلِ يَحْسُنُ تَعَلُّقُ الآيَةِ بِما قَبْلَها كَما قَرَّرْناهُ. فَإنْ قِيلَ: فَعَلى هَذا الوَجْهِ كانَ يَجِبُ أنْ يُقالَ: ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَهم، فَلِمَ قالَ أمْوالَكم ؟ قُلْنا: في الجَوابِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى أضافَ المالَ إلَيْهِمْ لا لِأنَّهم مَلَكُوهُ، لَكِنْ مِن حَيْثُ مَلَكُوا التَّصَرُّفَ فِيهِ، ويَكْفِي في حُسْنِ الإضافَةِ أدْنى سَبَبٍ. الثّانِي: إنَّما حَسُنَتْ هَذِهِ الإضافَةُ إجْراءً لِلْوَحْدَةِ بِالنَّوْعِ مَجْرى الوَحْدَةِ بِالشَّخْصِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨] وقَوْلُهُ: ﴿ما مَلَكَتْ أيْمانُكُمْ﴾ [النساء: ٢٥] وقَوْلُهُ: ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٨٥] ومَعْلُومٌ أنَّ الرَّجُلَ مِنهم ما كانَ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، ولَكِنْ كانَ بَعْضُهم يَقْتُلُ بَعْضًا، وكانَ الكُلُّ مِن نَوْعٍ واحِدٍ، فَكَذا هَهُنا المالُ شَيْءٌ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعُ الإنْسانِ ويَحْتاجُ إلَيْهِ. فَلِأجْلِ هَذِهِ الوَحْدَةِ النَّوْعِيَّةِ حَسُنَتْ إضافَةُ أمْوالِ السُّفَهاءِ إلى أوْلِيائِهِمْ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ خِطابُ الآباءِ فَنَهاهُمُ اللَّهُ تَعالى إذا كانَ أوْلادُهم سُفَهاءَ لا يَسْتَقِلُّونَ بِحِفْظِ المالِ وإصْلاحِهِ أنْ يَدْفَعُوا أمْوالَهم أوْ بَعْضَها إلَيْهِمْ، لِما كانَ في ذَلِكَ مِنَ الإفْسادِ، فَعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ إضافَةُ الأمْوالِ إلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وعَلى هَذا القَوْلِ يَكُونُ الغَرَضُ مِنَ الآيَةِ الحَثَّ عَلى حِفْظِ المالِ والسَّعْيَ في أنْ لا يَضِيعَ ولا يَهْلِكَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لَهُ أنْ يَأْكُلَ جَمِيعَ أمْوالِهِ ويُهْلِكَها، وإذا قَرُبَ أجَلُهُ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُوصِيَ بِمالِهِ إلى أمِينٍ يَحْفَظُ ذَلِكَ المالَ عَلى ورَثَتِهِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أرْجَحُ لِوَجْهَيْنِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى هَذا التَّرْجِيحِ أنَّ ظاهِرَ النَّهْيِ لِلتَّحْرِيمِ، وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى أنَّهُ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أنْ يَهَبَ مِن أوْلادِهِ الصِّغارِ ومِنَ النِّسْوانِ ما شاءَ مِن مالِهِ، وأجْمَعُوا عَلى أنَّهُ يَحْرُمُ عَلى الوَلِيِّ أنْ يَدْفَعَ إلى السُّفَهاءِ أمْوالَهم، وإذا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ لا عَلى هَذا القَوْلِ الثّانِي واللَّهُ أعْلَمُ. الثّانِي: أنَّهُ قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وقُولُوا لَهم قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ ولا شَكَّ أنَّ هَذِهِ الوَصِيَّةَ بِالأيْتامِ أشْبَهُ، لِأنَّ المَرْءَ مُشْفِقٌ بِطَبْعِهِ عَلى ولَدِهِ، فَلا يَقُولُ لَهُ إلّا المَعْرُوفَ، وإنَّما يَحْتاجُ إلى هَذِهِ الوَصِيَّةِ مَعَ الأيْتامِ الأجانِبِ، ولا يَمْتَنِعُ أيْضًا حَمْلُ الآيَةِ عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ. قالَ القاضِي: هَذا بَعِيدٌ لِأنَّهُ يَقْتَضِي حَمْلَ قَوْلِهِ: (أمْوالَكم) عَلى الحَقِيقَةِ والمَجازِ جَمِيعًا، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ قَوْلَهُ: (أمْوالَكم) يُفِيدُ كَوْنَ تِلْكَ الأمْوالِ مُخْتَصَّةً بِهِمُ اخْتِصاصًا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيها، ثُمَّ إنَّ الِاخْتِصاصَ حاصِلٌ في المالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ، وفي المالِ الَّذِي يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلصَّبِيِّ، إلّا أنَّهُ يَجِبُ تَصَرُّفُهُ، فَهَذا التَّفاوُتُ واقِعٌ في مَفْهُومٍ خارِجٍ مِنَ المَفْهُومِ المُسْتَفادِ مِن قَوْلِهِ: (أمْوالَكم) وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِما مِن حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ أفادَ مَعْنًى واحِدًا مُشْتَرِكًا بَيْنَهُما. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في المُرادِ بِالسُّفَهاءِ أوْجُهًا: الأوَّلُ: قالَ مُجاهِدٌ وجُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحّاكِ السُّفَهاءُ هَهُنا النِّساءُ سَواءً كُنَّ أزْواجًا أوْ أُمَّهاتٍ أوْ بَناتٍ. وهَذا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ، ويَدُلُّ عَلى هَذا ما رَوى أبُو أُمامَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«ألا إنَّما خُلِقَتِ النّارُ لِلسُّفَهاءِ يَقُولُها ثَلاثًا ألا وإنَّ السُّفَهاءَ النِّساءُ إلّا امْرَأةً أطاعَتْ قَيِّمَها» “ . فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ المُرادُ بِالسُّفَهاءِ النِّساءَ لَقالَ: السَّفائِهَ. أوِ السَّفِيهاتِ في جَمْعِ السَّفِيهَةِ نَحْوُ غَرائِبَ وغَرِيباتٍ في جَمْعِ الغَرِيبَةِ.(p-١٥١) أجابَ الزَّجّاجُ: بِأنَّ السُّفَهاءَ في جَمْعِ السَّفِيهَةِ جائِزٌ كَما أنَّ الفُقَراءَ في جَمْعِ الفَقِيرَةِ جائِزٌ. والقَوْلُ الثّانِي: قالَ الزُّهْرِيُّ وابْنُ زَيْدٍ: عَنى بِالسُّفَهاءِ هَهُنا السُّفَهاءَ مِنَ الأوْلادِ، يَقُولُ: لا تُعْطِ مالَكَ - الَّذِي هو قِيامُكَ - ولَدَكَ السَّفِيهَ فَيُفْسِدَهُ. القَوْلُ الثّالِثُ: المُرادُ بِالسُّفَهاءِ هُمُ النِّساءُ والصِّبْيانُ في قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالُوا إذا عَلِمَ الرَّجُلُ أنَّ امْرَأتَهُ سَفِيهَةٌ مُفْسِدَةٌ، وأنَّ ولَدَهُ سَفِيهٌ مُفْسِدٌ فَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يُسَلِّطَ واحِدًا مِنهُما عَلى مالِهِ فَيُفْسِدَهُ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ المُرادَ بِالسُّفَهاءِ كُلُّ مَن لَمْ يَكُنْ لَهُ عَقْلٌ يَفِي بِحِفْظِ المالِ، ويَدْخُلُ فِيهِ النِّساءُ والصِّبْيانُ والأيْتامُ وكُلُّ مَن كانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وهَذا القَوْلُ أوْلى لِأنَّ التَّخْصِيصَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لا يَجُوزُ، وقَدْ ذَكَرْنا في سُورَةِ البَقَرَةِ أنَّ السَّفَهَ خِفَّةُ العَقْلِ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ الفاسِقُ سَفِيهًا لِأنَّهُ لا وزْنَ لَهُ عِنْدَ أهْلِ الدِّينِ والعِلْمِ، ويُسَمّى النّاقِصُ العَقْلِ سَفِيهًا لِخِفَّةِ عَقْلِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أنَّهُ لَيْسَ السَّفَهُ في هَؤُلاءِ صِفَةَ ذَمٍّ، ولا يُفِيدُ مَعْنى العِصْيانِ لِلَّهِ تَعالى، وإنَّما سُمُّوا سُفَهاءَ لِخِفَّةِ عُقُولِهِمْ ونُقْصانِ تَمْيِيزِهِمْ عَنِ القِيامِ بِحِفْظِ الأمْوالِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أمَرَ المُكَلَّفِينَ في مَواضِعَ مِن كِتابِهِ بِحِفْظِ الأمْوالِ، قالَ تَعالى: ﴿ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٦] وقالَ تَعالى: ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] وقالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا﴾ [الفرقان: ٦٧] وقَدْ رَغَّبَ اللَّهُ في حِفْظِ المالِ في آيَةِ المُدايَنَةِ حَيْثُ أمَرَ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ والرَّهْنِ، والعَقْلُ أيْضًا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ الإنْسانَ ما لَمْ يَكُنْ فارِغَ البالِ لا يُمْكِنُهُ القِيامُ بِتَحْصِيلِ مَصالِحِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، ولا يَكُونُ فارِغَ البالِ إلّا بِواسِطَةِ المالِ؛ لِأنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ مَن جَلْبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ، فَمَن أرادَ الدُّنْيا بِهَذا الغَرَضِ كانَتِ الدُّنْيا في حَقِّهِ مِن أعْظَمِ الأسْبابِ المُعِينَةِ لَهُ عَلى اكْتِسابِ سَعادَةِ الآخِرَةِ، أمّا مَن أرادَها لِنَفْسِها ولِعَيْنِها كانَتْ مِن أعْظَمِ المُعَوِّقاتِ عَنْ كَسْبِ سَعادَةِ الآخِرَةِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا﴾ مَعْناهُ أنَّهُ لا يَحْصُلُ قِيامُكم ولا مَعاشُكم إلّا بِهَذا المالِ، فَلَمّا كانَ المالُ سَبَبًا لِلْقِيامِ والِاسْتِقْلالِ سَمّاهُ بِالقِيامِ إطْلاقًا لِاسْمِ المُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ، يَعْنِي كانَ هَذا المالُ نَفْسَ قِيامِكم وابْتِغاءَ مَعاشِكم، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ (الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيَمًا) وقَدْ يُقالُ: هَذا قَيِّمٌ وقِيَمٌ، كَما قالَ: ﴿دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ [الأنعام: ١٦١] وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (قِوامًا) بِالواوِ، وقِوامُ الشَّيْءِ ما يُقامُ بِهِ كَقَوْلِكَ: مِلاكُ الأمْرِ لِما يُمْلَكُ بِهِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: البالِغُ إذا كانَ مُبَذِّرًا لِلْمالِ مُفْسِدًا لَهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا يُحْجَرُ عَلَيْهِ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ: أنَّهُ سَفِيهٌ، فَوَجَبَ أنْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ، إنَّما قُلْنا إنَّهُ سَفِيهٌ؛ لِأنَّ السَّفِيهَ في اللُّغَةِ، هو مَن خَفَّ وزْنُهُ. ولا شَكَّ أنَّ مَن كانَ مُبَذِّرًا لِلْمالِ مُفْسِدًا لَهُ مِن غَيْرِ فائِدَةٍ، فَإنَّهُ لا يَكُونُ لَهُ في القَلْبِ وقْعٌ عِنْدَ العُقَلاءِ، فَكانَ خَفِيفَ الوَزْنِ عِنْدَهم، فَوَجَبَ أنْ يُسَمّى بِالسَّفِيهِ، وإذا ثَبَتَ هَذا لَزِمَ انْدِراجُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ﴾ . * * * (p-١٥٢)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وارْزُقُوهم فِيها واكْسُوهم وقُولُوا لَهم قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا نَهى عَنْ إيتاءِ المالِ السَّفِيهَ أمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلاثَةِ أشْياءَ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: (وارْزُقُوهم) ومَعْناهُ: وأنْفِقُوا عَلَيْهِمْ ومَعْنى الرِّزْقِ مِنَ العِبادِ هو الإجْراءُ المُوَظَّفُ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُقالُ: فُلانٌ رَزَقَ عِيالَهُ أيْ أجْرى عَلَيْهِمْ، وإنَّما قالَ: (فِيها) ولَمْ يَقُلْ: مِنها لِئَلّا يَكُونَ ذَلِكَ أمْرًا بِأنْ يَجْعَلُوا بَعْضَ أمْوالِهِمْ رِزْقًا لَهم، بَلْ أمَرَهم أنْ يَجْعَلُوا أمْوالَهم مَكانًا لِرِزْقِهِمْ بِأنْ يَتَّجِرُوا فِيها ويُثَمِّرُوها فَيَجْعَلُوا أرْزاقَهم مِنَ الأرْباحِ لا مِن أُصُولِ الأمْوالِ، وثانِيها: قَوْلُهُ: (واكْسُوهم) والمُرادُ ظاهِرٌ، وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وقُولُوا لَهم قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى إنَّما أمَرَ بِذَلِكَ؛ لِأنَّ القَوْلَ الجَمِيلَ يُؤَثِّرُ في القَلْبِ فَيُزِيلُ السَّفَهَ، أمّا خِلافُ القَوْلِ المَعْرُوفِ فَإنَّهُ يَزِيدُ السَّفِيهَ سَفَهًا ونُقْصانًا. والمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا في تَفْسِيرِ القَوْلِ المَعْرُوفِ وُجُوهًا: أحَدُها: قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ومُجاهِدٌ: إنَّهُ العُدَّةُ الجَمِيلَةُ مِنَ البِرِّ والصِّلَةِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو مِثْلُ أنْ يَقُولَ: إذا رَبِحْتُ في سُفْرَتِي هَذِهِ فَعَلْتُ بِكَ ما أنْتَ أهْلُهُ، وإنْ غَنِمْتُ في غَزاتِي أعْطَيْتُكَ. وثانِيها: قالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّهُ الدُّعاءُ مِثْلُ أنْ يَقُولَ: عافانا اللَّهُ وإيّاكَ بارَكَ اللَّهُ فِيكَ، وبِالجُمْلَةِ كُلُّ ما سَكَنَتْ إلَيْهِ النُّفُوسُ وأحَبَّتْهُ مِن قَوْلٍ وعَمِلَ فَهو مَعْرُوفٌ وكُلُّ ما أنْكَرَتْهُ وكَرِهَتْهُ ونَفَرَتْ مِنهُ فَهو مُنْكَرٌ. وثالِثُها: قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى عَلِّمُوهم مَعَ إطْعامِكم وكُسْوَتِكم إيّاهم أمْرَ دِينِهِمْ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالعِلْمِ والعَمَلِ، ورابِعُها: قالَ القَفّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ القَوْلُ المَعْرُوفُ هو أنَّهُ إنْ كانَ المُوَلّى عَلَيْهِ صَبِيًّا، فالوَلِيُّ يُعَرِّفُهُ أنَّ المالَ مالُهُ وهو خازِنٌ لَهُ، وأنَّهُ إذا زالَ صِباهُ فَإنَّهُ يَرُدُّ المالَ إلَيْهِ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿فَأمّا اليَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ [الضحى: ٩] مَعْناهُ لا تُعاشِرْهُ بِالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِ كَما تُعاشِرُ العَبِيدَ، وكَذا قَوْلُهُ: ﴿وإمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِن رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهم قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٨] وإنْ كانَ المُوَلّى عَلَيْهِ سَفِيهًا وعَظَهُ ونَصَحَهُ وحَثَّهُ عَلى الصَّلاةِ، ورَغَّبَهُ في تَرْكِ التَّبْذِيرِ والإسْرافِ، وعَرَّفَهُ أنَّ عاقِبَةَ التَّبْذِيرِ الفَقْرُ والِاحْتِياجُ إلى الخَلْقِ إلى ما يُشْبِهُ هَذا النَّوْعَ مِنَ الكَلامِ، وهَذا الوَجْهُ أحْسَنُ مِن سائِرِ الوُجُوهِ الَّتِي حَكَيْناها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب