الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وكَفى بِهِ إثْمًا مُبِينًا﴾
(p-١٠٢)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا هَدَّدَ اليَهُودَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ فَعِنْدَ هَذا قالُوا: لَسْنا مِنَ المُشْرِكِينَ، بَلْ نَحْنُ خَواصُّ اللَّهِ تَعالى كَما حَكى تَعالى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] وحَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ [البقرة: ٨٠]، وحَكى أيْضًا أنَّهم قالُوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ وبَعْضُهم كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ آباءَنا كانُوا أنْبِياءَ فَيَشْفَعُونَ لَنا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنَّ قَوْمًا مِنَ اليَهُودِ أتَوْا بِأطْفالِهِمْ إلى النَّبِيِّ ﷺ وقالُوا: يا مُحَمَّدُ هَلْ عَلى هَؤُلاءِ ذَنْبٌ ؟ فَقالَ: لا، فَقالُوا: واللَّهِ ما نَحْنُ إلّا كَهَؤُلاءِ؛ ما عَمِلْناهُ بِاللَّيْلِ كُفِّرَ عَنّا بِالنَّهارِ، وما عَمِلْناهُ بِالنَّهارِ كُفِّرَ عَنّا بِاللَّيْلِ» . وبِالجُمْلَةِ فالقَوْمُ كانُوا قَدْ بالَغُوا في تَزْكِيَةِ أنْفُسِهِمْ، فَذَكَرَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا عِبْرَةَ بِتَزْكِيَةِ الإنْسانِ نَفْسَهُ، وإنَّما العِبْرَةُ بِتَزْكِيَةِ اللَّهِ لَهُ وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: التَّزْكِيَةُ في هَذا المَوْضِعِ عِبارَةٌ عَنْ مَدْحِ الإنْسانِ نَفْسَهُ، ومِنهُ تَزْكِيَةُ المُعَدِّلِ لِلشّاهِدِ، قالَ تَعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكم هو أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى﴾ [النجم: ٣٢] وذَلِكَ لِأنَّ التَّزْكِيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتَّقْوى، والتَّقْوى صِفَةٌ في الباطِنِ، ولا يَعْلَمُ حَقِيقَتَها إلّا اللَّهُ، فَلا جَرَمَ لا تَصْلُحُ التَّزْكِيَةُ إلّا مِنَ اللَّهِ؛ فَلِهَذا قالَ تَعالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّهُ ﷺ قالَ: ”«واللَّهِ إنِّي لَأمِينٌ في السَّماءِ أمِينٌ في الأرْضِ» “ .
قُلْنا: إنَّما قالَ ذَلِكَ حِينَ قالَ المُنافِقُونَ لَهُ: اعْدِلْ في القِسْمَةِ؛ ولِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا زَكّاهُ أوَّلًا بِدَلالَةِ المُعْجِزَةِ جازَ لَهُ ذَلِكَ بِخِلافِ غَيْرِهِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإيمانَ يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى؛ لِأنَّ أجَلَّ أنْواعِ الزَّكاةِ والطَّهارَةِ وأشْرَفَها هو الإيمانُ، فَلَمّا ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ هو الَّذِي يُزَكِّي مَن يَشاءُ دَلَّ عَلى أنَّ إيمانَ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْصُلْ إلّا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ هو كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠] والمَعْنى أنَّ الَّذِينَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهم يُعاقَبُونَ عَلى تِلْكَ التَّزْكِيَةِ حَقَّ جَزائِهِمْ مِن غَيْرِ ظُلْمٍ، أوْ يَكُونُ المَعْنى أنَّ الَّذِينَ زَكّاهُمُ اللَّهُ فَإنَّهُ يُثِيبُهم عَلى طاعاتِهِمْ ولا يُنْقِصُ مِن ثَوابِهِمْ شَيْئًا، والفَتِيلُ ما فَتَلْتَ بَيْنَ إصْبَعَيْكَ مِنَ الوَسَخِ، فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ. وعَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: الفَتِيلُ ما كانَ في شِقِّ النَّواةِ، والنَّقِيرُ النُّقْطَةُ الَّتِي في ظَهْرِ النَّواةِ، والقِطْمِيرُ القِشْرَةُ الرَّقِيقَةُ عَلى النَّواةِ، وهَذِهِ الأشْياءُ كُلُّها تُضْرَبُ أمْثالًا لِلشَّيْءِ التّافِهِ الحَقِيرِ، أيْ لا يُظْلَمُونَ لا قَلِيلًا ولا كَثِيرًا.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: هَذا تَعْجِيبٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ مِن فِرْيَتِهِمْ عَلى اللَّهِ، وهي تَزْكِيَتُهم أنْفُسَهم وافْتِراؤُهم عَلى اللَّهِ، وهو قَوْلُهم: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، وقَوْلُهم: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلّا مَن كانَ هُودًا أوْ نَصارى﴾ [البقرة: ١١١] وقَوْلُهم: ما عَمِلْناهُ بِالنَّهارِ يُكَفَّرُ عَنّا بِاللَّيْلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مَذْهَبُنا أنَّ الخَبَرَ عَنِ الشَّيْءِ إذا كانَ عَلى خِلافِ المُخْبَرِ عَنْهُ كانَ كَذِبًا، سَواءٌ عَلِمَ قائِلُهُ كَوْنَهُ كَذَلِكَ أوْ لَمْ يَعْلَمْ، وقالَ الجاحِظُ: شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِبًا أنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ بِخِلافِ ذَلِكَ، وهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ لَنا؛ (p-١٠٣)لِأنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ في أنْفُسِهِمُ الزَّكاءَ والطَّهارَةَ، ثُمَّ لَمّا أخْبَرُوا بِالزَّكاةِ والطَّهارَةِ كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَفى بِهِ إثْمًا مُبِينًا﴾ وإنَّما يُقالُ: كَفى بِهِ في التَّعْظِيمِ عَلى جِهَةِ المَدْحِ أوْ عَلى جِهَةِ الذَّمِّ، أمّا في المَدْحِ فَكَقَوْلِهِ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ ولِيًّا وكَفى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ [النساء: ٤٥] وأمّا في الذَّمِّ فَكَما في هَذا المَوْضِعِ. وقَوْلُهُ: ﴿إثْمًا مُبِينًا﴾ مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ.
{"ayahs_start":49,"ayahs":["أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ یُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ یُزَكِّی مَن یَشَاۤءُ وَلَا یُظۡلَمُونَ فَتِیلًا","ٱنظُرۡ كَیۡفَ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦۤ إِثۡمࣰا مُّبِینًا"],"ayah":"أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ یُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ یُزَكِّی مَن یَشَاۤءُ وَلَا یُظۡلَمُونَ فَتِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق