الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا هَدَّدَ اليَهُودَ عَلى الكُفْرِ، وبَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ التَّهْدِيدَ لا بُدَّ مِن وُقُوعِهِ لا مَحالَةَ بَيَّنَ أنَّ مِثْلَ هَذا التَّهْدِيدِ مِن خَواصِّ الكُفْرِ، فَأمّا سائِرُ الذُّنُوبِ الَّتِي هي مُغايِرَةٌ لِلْكُفْرِ فَلَيْسَتْ حالُها كَذَلِكَ، بَلْ هو (p-١٠٠)سُبْحانَهُ قَدْ يَعْفُو عَنْها، فَلا جَرَمَ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ اليَهُودِيَّ يُسَمّى مُشْرِكًا في عُرْفِ الشَّرْعِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّ ما سِوى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ، فَلَوْ كانَتِ اليَهُودِيَّةُ مُغايِرَةٌ لِلشِّرْكِ لَوَجَبَ أنْ تَكُونَ مَغْفُورَةً بِحُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، وبِالإجْماعِ هي غَيْرُ مَغْفُورَةٍ، فَدَلَّ عَلى أنَّها داخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ. الثّانِي: أنَّ اتِّصالَ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها إنَّما كانَ لِأنَّها تَتَضَمَّنُ تَهْدِيدَ اليَهُودِ، فَلَوْلا أنَّ اليَهُودِيَّةَ داخِلَةٌ تَحْتَ اسْمِ الشِّرْكِ، وإلّا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا﴾ [الحج: ١٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ أشْرَكُوا﴾ [الحج: ١٧] عَطَفَ المُشْرِكَ عَلى اليَهُودِيِّ، وذَلِكَ يَقْتَضِي المُغايَرَةَ. قُلْنا: المُغايَرَةُ حاصِلَةٌ بِسَبَبِ المَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، والِاتِّحادُ حاصِلٌ بِسَبَبِ المَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ، ولا بُدَّ مِنَ المَصِيرِ إلى ما ذَكَرْناهُ دَفْعًا لِلتَّناقُضِ. إذا ثَبَتَتْ هَذِهِ المُقَدِّمَةُ فَنَقُولُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المُسْلِمُ لا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ أنَّ الذِّمِّيَّ مُشْرِكٌ لِما ذَكَرْناهُ، والمُشْرِكُ مُباحُ الدَّمِ لِقَوْلِهِ تَعالى: (اقْتُلُوا المُشْرِكِينَ) . فَكانَ الذِّمِّيُّ مُباحَ الدَّمِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، ومُباحُ الدَّمِ هو الَّذِي لا يَجِبُ القِصاصُ عَلى قاتِلِهِ، ولا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ تَرْكُ العَمَلِ بِهَذا الدَّلِيلِ في حَقِّ النَّهْيِ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى مَعْمُولًا بِهِ في سُقُوطِ القِصاصِ عَنْ قاتِلِهِ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآيَةُ مِن أقْوى الدَّلائِلِ لَنا عَلى العَفْوِ عَنْ أصْحابِ الكَبائِرِ. واعْلَمْ أنَّ الِاسْتِدْلالَ بِها مِن وُجُوهٍ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ مَعْناهُ لا يَغْفِرُ الشِّرْكَ عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ؛ لِأنَّهُ بِالإجْماعِ لا يَغْفِرُ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ، وذَلِكَ عِنْدَما يَتُوبُ المُشْرِكُ عَنْ شِرْكِهِ، فَإذا كانَ قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الشِّرْكَ هو أنَّهُ لا يَغْفِرُهُ عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ﴾ هو أنْ يَغْفِرَهُ عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ؛ حَتّى يَكُونَ النَّفْيُ والإثْباتُ مُتَوارِدَيْنِ عَلى مَعْنًى واحِدٍ. ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قالَ: فُلانٌ لا يُعْطِي أحَدًا تَفَضُّلًا، ويُعْطِيَ زائِدًا، فَإنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ يُعْطِيهِ تَفَضُّلًا، حَتّى لَوْ صَرَّحَ وقالَ: لا يُعْطِي أحَدًا شَيْئًا عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ ويُعْطِي أزْيَدَ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ، فَكُلُّ عاقِلٍ يَحْكُمُ بِرَكاكَةِ هَذا الكَلامِ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ عَلى سَبِيلِ التَّفَضُّلِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: وجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أصْحابَ الكَبائِرِ قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لِأنَّ عِنْدَ المُعْتَزِلَةِ غُفْرانَ الصَّغِيرَةِ وغُفْرانَ الكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ واجِبٌ عَقْلًا، فَلا يُمْكِنُ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ، فَإذا تَقَرَّرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إلّا حَمْلُ الآيَةِ عَلى غُفْرانِ الكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وهو المَطْلُوبُ. الثّانِي: أنَّهُ تَعالى قَسَّمَ المَنهِيّاتِ عَلى قِسْمَيْنِ: الشِّرْكُ وما سِوى الشِّرْكِ، ثُمَّ إنَّ ما سِوى الشِّرْكِ يَدْخُلُ فِيهِ الكَبِيرَةُ قَبْلَ التَّوْبَةِ والكَبِيرَةُ بَعْدَ التَّوْبَةِ والصَّغِيرَةُ، ثُمَّ حَكَمَ عَلى الشِّرْكِ بِأنَّهُ غَيْرُ مَغْفُورٍ قَطْعًا، وعَلى ما سِواهُ بِأنَّهُ مَغْفُورٌ قَطْعًا، لَكِنْ في حَقِّ مَن يَشاءُ، فَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ أنَّهُ تَعالى يَغْفِرُ كُلَّ ما سِوى الشِّرْكِ، لَكِنْ في حَقِّ مَن شاءَ. ولَمّا دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ كُلَّ ما سِوى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ، وجَبَ أنْ تَكُونَ الكَبِيرَةُ قَبْلَ التَّوْبَةِ أيْضًا مَغْفُورَةً. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لِمَن يَشاءُ﴾ فَعَلَّقَ هَذا الغُفْرانَ بِالمَشِيئَةِ، وغُفْرانُ الكَبِيرَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وغُفْرانُ الصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، (p-١٠١)وغَيْرُ مُعَلَّقٍ عَلى المَشِيئَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الغُفْرانُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ هو غُفْرانُ الكَبِيرَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وهو المَطْلُوبُ، واعْتَرَضُوا عَلى هَذا الوَجْهِ الأخِيرِ بِأنَّ تَعْلِيقَ الأمْرِ بِالمَشِيئَةِ لا يُنافِي وُجُوبَهُ، ألا تَرى أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٩] ثُمَّ إنّا نَعْلَمُ أنَّهُ تَعالى لا يُزَكِّي إلّا مَن كانَ أهْلًا لِلتَّزْكِيَةِ، وإلّا كانَ كَذِبًا، والكَذِبُ عَلى اللَّهِ مُحالٌ، فَكَذا هَهُنا. واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ لِلْمُعْتَزِلَةِ عَلى هَذِهِ الوُجُوهِ كَلامٌ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ إلّا المُعارَضَةَ بِعُمُوماتِ الوَعِيدِ، ونَحْنُ نُعارِضُها بِعُمُوماتِ الوَعْدِ، والكَلامُ فِيهِ عَلى الِاسْتِقْصاءِ مَذْكُورٌ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وأحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨١] فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. ورَوى الواحِدِيُّ في البَسِيطِ بِإسْنادِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «كُنّا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذا ماتَ الرَّجُلُ مِنّا عَلى كَبِيرَةٍ شَهِدْنا أنَّهُ مِن أهْلِ النّارِ، حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَأمْسَكْنا عَنِ الشَّهاداتِ» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنِّي لَأرْجُو كَما لا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ كَذَلِكَ لا يَضُرُّ مَعَ التَّوْحِيدِ ذَنْبٌ. ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ فَسَكَتَ عُمَرُ. ورُوِيَ مَرْفُوعًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«اتَّسِمُوا بِالإيمانِ وأقِرُّوا بِهِ، فَكَما لا يُخْرِجُ إحْسانُ المُشْرِكِ المُشْرِكَ مِن إشْراكِهِ كَذَلِكَ لا تُخْرِجُ ذُنُوبُ المُؤْمِنِ المُؤْمِنَ مِن إيمانِهِ» “ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: «لَمّا قَتَلَ وحْشِيٌّ حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ، وكانُوا قَدْ وعَدُوهُ بِالإعْتاقِ إنْ هو فَعَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهم ما وفَّوْا لَهُ بِذَلِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ نَدِمَ هو وأصْحابُهُ فَكَتَبُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ بِذَنْبِهِمْ، وأنَّهُ لا يَمْنَعُهم عَنِ الدُّخُولِ في الإسْلامِ إلّا قَوْلُهُ تَعالى: (﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: ٦٨] فَقالُوا: قَدِ ارْتَكَبْنا كُلَّ ما في الآيَةِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا»﴾ [الفرقان: ٧٠] فَقالُوا: هَذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخافُ أنْ لا نَقُومَ بِهِ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ فَقالُوا: نَخافُ أنْ لا نَكُونَ مِن أهْلِ مَشِيئَتِهِ، فَنَزَلَ ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ﴾ [الزمر: ٥٣] فَدَخَلُوا عِنْدَ ذَلِكَ في الإسْلامِ. وطَعَنَ القاضِي في هَذِهِ الرِّوايَةِ وقالَ: إنَّ مَن يُرِيدُ الإيمانَ لا يَجُوزُ مِنهُ المُراجَعَةُ عَلى هَذا الحَدِّ؛ ولِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: ٥٣] لَوْ كانَ عَلى إطْلاقِهِ لَكانَ ذَلِكَ إغْراءً لَهم بِالثَّباتِ عَلى ما هم عَلَيْهِ. والجَوابُ عَنْهُ: لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّهُمُ اسْتَعْظَمُوا قَتْلَ حَمْزَةَ وإيذاءَ الرَّسُولِ إلى ذَلِكَ الحَدِّ، فَوَقَعَتِ الشُّبْهَةُ في قُلُوبِهِمْ أنَّ ذَلِكَ هَلْ يُغْفَرُ لَهم أمْ لا؛ فَلِهَذا المَعْنى حَصَلَتِ المُراجَعَةُ. وقَوْلُهُ: هَذا إغْراءٌ بِالقَبِيحِ، فَهو أنَّهُ إنَّما يَتِمُّ عَلى مَذْهَبِهِ، أمّا عَلى قَوْلِنا: إنَّهُ تَعالى فَعّالٌ لِما يُرِيدُ، فالسُّؤالُ ساقِطٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ومَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إثْمًا عَظِيمًا﴾ أيِ اخْتَلَقَ ذَنْبًا غَيْرَ مَغْفُورٍ، يُقالُ: افْتَرى فُلانٌ الكَذِبَ إذا اعْتَمَلَهُ واخْتَلَقَهُ، وأصْلُهُ مِنَ الفَرْيِ بِمَعْنى القَطْعِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب