الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكم وكَفى بِاللَّهِ ولِيًّا وكَفى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾
(p-٩٣)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ مِن أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إلى هَذا المَوْضِعِ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ التَّكالِيفِ والأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، قَطَعَ هَهُنا بِبَيانِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وذِكْرِ أحْوالِ أعْداءِ الدِّينِ وأقاصِيصِ المُتَقَدِّمِينَ؛ لِأنَّ البَقاءَ في النَّوْعِ الواحِدِ مِنَ العِلْمِ مِمّا يُكِلُّ الطَّبْعَ ويُكَدِّرُ الخاطِرَ، فَأمّا الِانْتِقالُ مِن نَوْعٍ مِنَ العُلُومِ إلى نَوْعٍ آخَرَ، فَإنَّهُ يُنَشِّطُ الخاطِرَ ويُقَوِّي القَرِيحَةَ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ تَرَ﴾ مَعْناهُ: ألَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إلى هَؤُلاءِ، وقَدْ ذَكَرْنا ما فِيهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] وحاصِلُ الكَلامِ أنَّ العِلْمَ اليَقِينِيَّ يُشْبِهُ الرُّؤْيَةَ، فَيَجُوزُ جَعْلُ الرُّؤْيَةِ اسْتِعارَةً عَنْ مِثْلِ هَذا العِلْمِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ هُمُ اليَهُودُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿مِنَ الَّذِينَ هادُوا﴾ [النساء: ٤٦] مُتَعَلِّقٌ بِهَذِهِ الآيَةِ.
الثّانِي: رَوى ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في حَبْرَيْنِ مِن أحْبارِ اليَهُودِ كانا يَأْتِيانِ رَأْسَ المُنافِقِينَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ورَهْطَهُ فَيُثَبِّطُونَهم عَنِ الإسْلامِ.
الثّالِثُ: أنَّ عَداوَةَ اليَهُودِ كانَتْ أكْثَرَ مِن عَداوَةِ النَّصارى بِنَصِّ القُرْآنِ، فَكانَتْ إحالَةُ هَذا المَعْنى عَلى اليَهُودِ أوْلى.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: لَمْ يَقُلْ تَعالى: إنَّهم أُوتُوا عِلْمَ الكِتابِ، بَلْ قالَ: ﴿أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتابِ﴾ لِأنَّهم عَرَفُوا مِنَ التَّوْراةِ نُبُوَّةَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ولَمْ يَعْرِفُوا مِنها نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأمّا الَّذِينَ أسْلَمُوا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وعَرَفُوا الأمْرَيْنِ فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ بِأنَّ مَعَهم عِلْمَ الكِتابِ فَقالَ: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣] واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى وصَفَهم بِأمْرَيْنِ: الضَّلالِ والإضْلالِ، أمّا الضَّلالُ فَهو قَوْلُهُ: ﴿يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ﴾ وفِيهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: يُؤْثِرُونَ تَكْذِيبَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِيَأْخُذُوا الرِّشا عَلى ذَلِكَ ويَحْصُلَ لَهُمُ الرِّياسَةُ، وإنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الِاشْتِراءِ؛ لِأنَّ مَنِ اشْتَرى شَيْئًا آثَرَهُ.
الثّانِي: أنَّ في الآيَةِ إضْمارًا، وتَأْوِيلُهُ: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ بِالهُدى، كَقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦] أيْ يَسْتَبْدِلُونَ الضَّلالَةَ بِالهُدى، ولا إضْمارَ عَلى قَوْلِ الزَّجّاجِ.
الثّالِثُ: المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَوامُّ اليَهُودِ، فَإنَّهم كانُوا يُعْطُونَ أحْبارَهم بَعْضَ أمْوالِهِمْ، ويَطْلُبُونَ مِنهم أنْ يَنْصُرُوا اليَهُودِيَّةَ ويَتَعَصَّبُوا لَها، فَكانُوا جارِينَ مَجْرى مَن يَشْتَرِي بِمالِهِ الشُّبْهَةَ والضَّلالَةَ، ولا إضْمارَ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أيْضًا، ولَكِنَّ الأوْلى أنْ تَكُونَ الآيَةُ نازِلَةً في عُلَمائِهِمْ، ثُمَّ لَمّا وصَفَهم تَعالى بِالضَّلالِ وصَفَهم بَعْدَ ذَلِكَ بِالإضْلالِ فَقالَ: ﴿ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ﴾ يَعْنِي أنَّهم يَتَوَصَّلُونَ إلى إضْلالِ المُؤْمِنِينَ والتَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ؛ لِكَيْ يَخْرُجُوا عَنِ الإسْلامِ.
واعْلَمْ أنَّكَ لا تَرى حالَةً أسْوَأ ولا أقْبَحَ مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، أعْنِي الضَّلالَ والإضْلالَ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِأعْدائِكُمْ﴾ أيْ هو سُبْحانَهُ أعْلَمُ بِكُنْهِ ما في قُلُوبِهِمْ وصُدُورِهِمْ مِنَ العَداوَةِ والبَغْضاءِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَفى بِاللَّهِ ولِيًّا وكَفى بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ والمَعْنى أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ شِدَّةَ عَداوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، بَيَّنَ أنَّ اللَّهَ تَعالى ولِيُّ المُسْلِمِينَ وناصِرُهم، ومَن كانَ اللَّهُ ولِيًّا لَهُ وناصِرًا لَهُ لَمْ تَضُرَّهُ عَداوَةُ الخَلْقِ، وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: وِلايَةُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ عِبارَةٌ عَنْ نُصْرَتِهِ لَهُ، فَذِكْرُ النَّصِيرِ بَعْدَ ذِكْرِ الوَلِيِّ تَكْرارٌ.
(p-٩٤)والجَوابُ: أنَّ الوَلِيَّ المُتَصَرِّفُ في الشَّيْءِ، والمُتَصَرِّفُ في الشَّيْءِ لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ ناصِرًا لَهُ، فَزالَ التَّكْرارُ.
السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وكَفى بِاللَّهِ ولِيًّا ونَصِيرًا ؟ وما الفائِدَةُ في تَكْرِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ﴾ ؟
والجَوابُ: أنَّ التَّكْرارَ في مِثْلِ هَذا المَقامِ يَكُونُ أشَدَّ تَأْثِيرًا في القَلْبِ وأكْثَرَ مُبالَغَةً.
السُّؤالُ الثّالِثُ: ما فائِدَةُ الباءِ في قَوْلِهِ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ ولِيًّا﴾ ؟
والجَوابُ: ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الأوَّلُ: لَوْ قِيلَ: كَفى اللَّهُ، كانَ يَتَّصِلُ الفِعْلُ بِالفاعِلِ، ثُمَّ هَهُنا زِيدَتِ الباءُ إيذانًا أنَّ الكِفايَةَ مِنَ اللَّهِ لَيْسَتْ كالكِفايَةِ مِن غَيْرِهِ في الرُّتْبَةِ وعِظَمِ المَنزِلَةِ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ السَّرّاجِ: تَقْدِيرُ الكَلامِ: كَفى اكْتِفاؤُكَ بِاللَّهِ ولِيًّا، ولَمّا ذُكِرَتْ ”كَفى“ دَلَّ عَلى الِاكْتِفاءِ؛ لِأنَّهُ مِن لَفْظِهِ، كَما تَقُولُ: مَن كَذَبَ كانَ شَرًّا لَهُ، أيْ كانَ الكَذِبُ شَرًّا لَهُ، فَأضْمَرْتَهُ لِدَلالَةِ الفِعْلِ عَلَيْهِ.
الثّالِثُ: يَخْطُرُ بِبالِي أنَّ الباءَ في الأصْلِ لِلْإلْصاقِ، وذَلِكَ إنَّما يَحْسُنُ في المُؤَثِّرِ الَّذِي لا واسِطَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ التَّأْثِيرِ، ولَوْ قِيلَ: كَفى اللَّهُ، دَلَّ ذَلِكَ عَلى كَوْنِهِ تَعالى فاعِلًا لِهَذِهِ الكِفايَةِ، ولَكِنْ لا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ تَعالى يَفْعَلُ بِواسِطَةٍ أوْ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، فَإذا ذَكَرْتَ حَرْفَ الباءِ دَلَّ عَلى أنَّهُ يَفْعَلُ بِغَيْرِ واسِطَةٍ، بَلْ هو تَعالى يَتَكَفَّلُ بِتَحْصِيلِ هَذا المَطْلُوبِ ابْتِداءً مِن غَيْرِ واسِطَةِ أحَدٍ، كَما قالَ: ﴿ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِن حَبْلِ الوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦] .
{"ayahs_start":44,"ayahs":["أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ نَصِیبࣰا مِّنَ ٱلۡكِتَـٰبِ یَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَـٰلَةَ وَیُرِیدُونَ أَن تَضِلُّوا۟ ٱلسَّبِیلَ","وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَاۤىِٕكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِیرࣰا"],"ayah":"وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَاۤىِٕكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











