الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أمّا الوَعْظُ فَإنَّهُ يَقُولُ لَها: اتَّقِي اللَّهَ، فَإنَّ لِي عَلَيْكِ حَقًّا وارْجِعِي عَمّا أنْتِ عَلَيْهِ، واعْلَمِي أنَّ طاعَتِي فَرْضٌ عَلَيْكِ. ونَحْوُ هَذا، ولا يَضْرِبُها في هَذِهِ الحالَةِ؛ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ لَها في ذَلِكَ كِفايَةٌ، فَإنْ أصَرَّتْ عَلى ذَلِكَ النُّشُوزِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَهْجُرُها في المَضْجَعِ وفي ضِمْنِهِ امْتِناعُهُ مِن كَلامِها، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: ولا يَزِيدُ في هَجْرِهِ الكَلامَ ثَلاثًا، وأيْضًا فَإذا هَجَرَها في المَضْجَعِ فَإنْ كانَتْ تُحِبُّ الزَّوْجَ شَقَّ عَلَيْها، فَتَتْرُكُ النُّشُوزَ، وإنْ كانَتْ تُبْغِضُهُ وافَقَها ذَلِكَ الهِجْرانُ، فَكانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى كَمالِ نُشُوزِها، وفِيهِمْ مَن حَمَلَ ذَلِكَ عَلى الهِجْرانِ في المُباشَرَةِ؛ لِأنَّ إضافَةَ ذَلِكَ إلى المَضاجِعِ يُفِيدُ ذَلِكَ، ثُمَّ عِنْدَ هَذِهِ الهِجْرَةِ إنْ بَقِيَتْ عَلى النُّشُوزِ ضَرَبَها. قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والضَّرْبُ مُباحٌ، وتَرْكُهُ أفْضَلُ. «رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ قالَ: كُنّا مَعاشِرَ قُرَيْشٍ تَمْلِكُ رِجالُنا نِساءَهم، فَقَدِمْنا المَدِينَةَ فَوَجَدْنا نِساءَهم تَمْلِكُ رِجالَهم، فاخْتَلَطَتْ نِساؤُنا فَذَئِرْنَ عَلى أزْواجِهِنَّ، أيْ نَشَزْنَ واجْتَرَأْنَ، فَأتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقَلْتُ لَهُ: ذَئِرَتِ النِّساءُ عَلى أزْواجِهِنَّ، فَأذِنَ في ضَرْبِهِنَّ، فَطافَ بِحُجَرِ نِساءِ النَّبِيِّ ﷺ جَمْعٌ مِنَ النِّسْوانِ كُلُّهُنَّ يَشْكُونَ أزْواجَهُنَّ، فَقالَ ﷺ: ”لَقَدْ أطافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأةً كُلُّهُنَّ يَشْكُونَ أزْواجَهُنَّ، ولا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيارَكم» “ ومَعْناهُ أنَّ الَّذِينَ ضَرَبُوا أزْواجَهم لَيْسُوا خَيْرًا مِمَّنْ لَمْ يَضْرِبُوا. قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فَدَلَّ هَذا الحَدِيثُ عَلى أنَّ الأوْلى تَرْكُ الضَّرْبِ، فَأمّا إذا ضَرَبَها وجَبَ في ذَلِكَ الضَّرْبِ أنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لا يَكُونُ مُفْضِيًا إلى الهَلاكِ البَتَّةَ، بِأنْ يَكُونَ مُفَرَّقًا عَلى بَدَنِها، ولا يُوالِي بِهِ في مَوْضِعٍ واحِدٍ، ويَتَّقِي الوَجْهَ؛ لِأنَّهُ مَجْمَعُ المَحاسِنِ، وأنْ يَكُونَ دُونَ الأرْبَعِينَ. ومِن أصْحابِنا مَن قالَ: لا يَبْلُغُ بِهِ عِشْرِينَ؛ لِأنَّهُ حَدٌّ كامِلٌ في حَقِّ العَبْدِ، ومِنهم مَن قالَ: يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الضَّرْبُ بِمِندِيلٍ مَلْفُوفٍ أوْ بِيَدِهِ، ولا يَضْرِبُها بِالسِّياطِ ولا بِالعَصا، وبِالجُمْلَةِ فالتَّخْفِيفُ مُراعى في هَذا البابِ عَلى أبْلَغِ الوُجُوهِ.
وأقُولُ: الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى ابْتَدَأ بِالوَعْظِ، ثُمَّ تَرَقّى مِنهُ إلى الهِجْرانِ في المَضاجِعِ، ثُمَّ تَرَقّى مِنهُ إلى الضَّرْبِ، وذَلِكَ تَنْبِيهٌ يَجْرِي مَجْرى التَّصْرِيحِ في أنَّهُ مَهْما حَصَلَ الغَرَضُ بِالطَّرِيقِ الأخَفِّ وجَبَ الِاكْتِفاءُ بِهِ، ولَمْ يَجُزِ الإقْدامُ عَلى الطَّرِيقِ الأشَقِّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفَ أصْحابُنا قالَ بَعْضُهم: حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ مَشْرُوعٌ عَلى التَّرْتِيبِ، فَإنَّ ظاهِرَ اللَّفْظِ وإنْ دَلَّ عَلى الجَمْعِ، إلّا أنَّ فَحْوى الآيَةِ يَدُلُّ عَلى التَّرْتِيبِ، قالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: يَعِظُها بِلِسانِهِ، فَإنِ انْتَهَتْ فَلا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها، فَإنْ أبَتْ هَجَرَ مَضْجَعَها، فَإنْ أبَتْ ضَرَبَها، فَإنْ لَمْ تَتَّعِظْ بِالضَّرْبِ بَعَثَ الحَكَمَيْنِ. وقالَ آخَرُونَ: هَذا التَّرْتِيبُ مُراعًى عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ، أمّا عِنْدَ تَحَقُّقِ النُّشُوزِ فَلا (p-٧٤)بَأْسَ بِالجَمْعِ بَيْنَ الكُلِّ. وقالَ بَعْضُ أصْحابِنا: تَحْرِيرُ المَذْهَبِ أنَّ لَهُ عِنْدَ خَوْفِ النُّشُوزِ أنْ يَعِظَها، وهَلْ لَهُ أنْ يَهْجُرَها ؟ فِيهِ احْتِمالٌ، ولَهُ عِنْدَ إبْداءِ النُّشُوزِ أنْ يَعِظَها أوْ يَهْجُرَها أوْ يَضْرِبَها.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ أطَعْنَكُمْ﴾ أيْ إذا رَجَعْنَ عَنِ النُّشُوزِ إلى الطّاعَةِ عِنْدَ هَذا التَّأْدِيبِ ﴿فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ أيْ لا تَطْلُبُوا عَلَيْهِنَّ الضَّرْبَ والهِجْرانَ طَرِيقًا عَلى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ والإيذاءِ ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ وعُلُوُّهُ لا بِعُلُوِّ الجِهَةِ، وكِبَرُهُ لا بِكِبَرِ الجُثَّةِ، بَلْ هو عَلِيٌّ كَبِيرٌ لِكَمالِ قُدْرَتِهِ ونَفاذِ مَشِيئَتِهِ في كُلِّ المُمْكِناتِ. وذِكْرُ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ في هَذا المَوْضِعِ في غايَةِ الحُسْنِ، وبَيانُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ المَقْصُودَ مِنهُ تَهْدِيدُ الأزْواجِ عَلى ظُلْمِ النِّسْوانِ، والمَعْنى أنَّهُنَّ ضَعُفْنَ عَنْ دَفْعِ ظُلْمِكم وعَجَزْنَ عَنْ الِانْتِصافِ مِنكم، فاللَّهُ سُبْحانَهُ عَلِيٌّ قاهِرٌ كَبِيرٌ قادِرٌ يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنكم ويَسْتَوْفِي حَقَّهُنَّ مِنكم، فَلا يَنْبَغِي أنْ تَغْتَرُّوا بِكَوْنِكم أعْلى يَدًا مِنهُنَّ، وأكْبَرَ دَرَجَةً مِنهُنَّ.
الثّانِي: لا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ إذا أطَعْنَكم لِعُلُوِّ أيْدِيكم. فَإنَّ اللَّهَ أعْلى مِنكم وأكْبَرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وهو مُتَعالٍ عَنْ أنْ يُكَلَّفَ إلّا بِالحَقِّ.
الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى مَعَ عُلُوِّهِ وكِبْرِيائِهِ لا يُكَلِّفُكم إلّا ما تُطِيقُونَ، فَكَذَلِكَ لا تُكَلِّفُوهُنَّ مَحَبَّتَكم، فَإنَّهُنَّ لا يَقْدِرْنَ عَلى ذَلِكَ.
الرّابِعُ: أنَّهُ مَعَ عُلُوِّهِ وكِبْرِيائِهِ لا يُؤاخِذُ العاصِي إذا تابَ، بَلْ يَغْفِرُ لَهُ، فَإذا تابَتِ المَرْأةُ عَنْ نُشُوزِها فَأنْتُمْ أوْلى بِأنْ تَقْبَلُوا تَوْبَتَها وتَتْرُكُوا مُعاقَبَتَها.
الخامِسُ: أنَّهُ تَعالى مَعَ عُلُوِّهِ وكِبْرِيائِهِ اكْتَفى مِنَ العَبْدِ بِالظَّواهِرِ، ولَمْ يَهْتِكِ السَّرائِرَ، فَأنْتُمْ أوْلى أنْ تَكْتَفُوا بِظاهِرِ حالِ المَرْأةِ، وأنْ لا تَقَعُوا في التَّفْتِيشِ عَمّا في قَلْبِها وضَمِيرِها مِنَ الحُبِّ والبُغْضِ.
{"ayah":"ٱلرِّجَالُ قَوَّ ٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَاۤءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲ وَبِمَاۤ أَنفَقُوا۟ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّـٰلِحَـٰتُ قَـٰنِتَـٰتٌ حَـٰفِظَـٰتࣱ لِّلۡغَیۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّـٰتِی تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِی ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُوا۟ عَلَیۡهِنَّ سَبِیلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیࣰّا كَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق