الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في عِلَّةِ هَذا المَنعِ أُمُورًا: أحَدُها: أنَّ هَذا الأخْذَ يَتَضَمَّنُ نِسْبَتَها إلى الفاحِشَةِ المُبَيِّنَةِ، فَكانَ ذَلِكَ بُهْتانًا والبُهْتانُ مِن أُمَّهاتِ الكَبائِرِ. وثانِيها: أنَّهُ إثْمٌ مُبِينٌ لِأنَّ هَذا المالَ حَقُّها فَمَن ضَيَّقَ الأمْرَ عَلَيْها لِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ التَّشْدِيدِ والتَّضْيِيقِ وهو ظُلْمٌ، إلى أخْذِ المالِ وهو ظُلْمٌ آخَرُ، فَلا شَكَّ أنَّ التَّوَسُّلَ (p-١٤)بِظُلْمٍ إلى ظُلْمٍ آخَرَ يَكُونُ إثْمًا مُبِينًا. وثالِثُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ:
المَسْألَةُ الأُولى: أصْلُ أفْضى مِنَ الفَضاءِ الَّذِي هو السَّعَةُ يُقالُ: فَضا يَفْضُو فُضُوًّا وفَضاءً إذا اتَّسَعَ، قالَ اللَّيْثُ: أفْضى فُلانٌ إلى فُلانٍ، أيْ وصَلَ إلَيْهِ، وأصْلُهُ أنَّهُ صارَ في فُرْجَتِهِ وفَضائِهِ، ولِلْمُفَسِّرِينَ في الإفْضاءِ في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ الإفْضاءَ هَهُنا كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ والسُّدِّيِّ واخْتِيارُ الزَّجّاجِ وابْنِ قُتَيْبَةَ ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ؛ لِأنَّ عِنْدَهُ الزَّوْجَ إذا طَلَّقَ قَبْلَ المَسِيسِ فَلَهُ أنْ يَرْجِعَ في نِصْفِ المَهْرِ، وإنْ خَلا بِها.
والقَوْلُ الثّانِي في الإفْضاءِ: أنْ يَخْلُوَ بِها وإنْ لَمْ يُجامِعْها، قالَ الكَلْبِيُّ: الإفْضاءُ أنْ يَكُونَ مَعَها في لِحافٍ واحِدٍ، جامَعَها أوْ لَمْ يُجامِعْها، وهَذا القَوْلُ اخْتِيارُ الفَرّاءِ ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأنَّ الخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرُ المَهْرَ.
واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ الأوَّلَ أوْلى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ اللَّيْثَ قالَ: أفْضى فُلانٌ إلى فُلانَةَ أيْ: صارَ في فُرْجَتِها وفَضائِها، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا المَعْنى إنَّما يَحْصُلُ في الحَقِيقَةِ عِنْدَ الجِماعِ، أمّا في غَيْرِ وقْتِ الجِماعِ فَهَذا غَيْرُ حاصِلٍ.
الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ هَذا في مَعْرِضِ التَّعَجُّبِ، فَقالَ: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ والتَّعَجُّبُ إنَّما يَتِمُّ إذا كانَ هَذا الإفْضاءُ سَبَبًا قَوِيًّا في حُصُولِ الأُلْفَةِ والمَحَبَّةِ، وهو الجِماعُ لا مُجَرَّدُ الخَلْوَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُ الإفْضاءِ عَلَيْهِ.
الثّالِثُ: وهو أنَّ الإفْضاءَ إلَيْها لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُفَسَّرًا بِفِعْلٍ مِنهُ يَنْتَهِي إلَيْهِ؛ لِأنَّ كَلِمَةَ ”إلى“ لِانْتِهاءِ الغايَةِ، ومُجَرَّدُ الخَلْوَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ عِنْدَ الخَلْوَةِ المَحْضَةِ لَمْ يَصِلْ فِعْلٌ مِن أفْعالِ واحِدٍ مِنهُما إلى الآخَرِ، فامْتَنَعَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ بِمُجَرَّدِ الخَلْوَةِ.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا اضْطَجَعا في لِحافٍ واحِدٍ وتَلامَسا فَقَدْ حَصَلَ الإفْضاءُ مِن بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ؛ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كافِيًا، وأنْتُمْ لا تَقُولُونَ بِهِ.
قُلْنا: القائِلُ قائِلانِ، قائِلٌ يَقُولُ: المَهْرُ لا يَتَقَرَّرُ إلّا بِالجِماعِ، وآخَرُ: إنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِمُجَرَّدِ الخَلْوَةِ ولَيْسَ في الأُمَّةِ أحَدٌ يَقُولُ إنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِالمُلامَسَةِ والمُضاجَعَةِ، فَكانَ هَذا القَوْلُ باطِلًا بِالإجْماعِ، فَلَمْ يَبْقَ في تَفْسِيرِ إفْضاءِ بَعْضِهِمْ إلى بَعْضٍ إلّا أحَدُ أمْرَيْنِ: إمّا الجِماعُ، وإمّا الخَلْوَةُ، والقَوْلُ بِالخَلْوَةِ باطِلٌ لِما بَيَّنّاهُ، فَبَقِيَ أنَّ المُرادَ بِالإفْضاءِ هو الجِماعُ.
الرّابِعُ: أنَّ المَهْرَ قَبْلَ الخَلْوَةِ ما كانَ مُتَقَرِّرًا، والشَّرْعُ قَدْ عَلَّقَ تَقَرُّرَهُ عَلى إفْضاءِ البَعْضِ إلى البَعْضِ، وقَدِ اشْتَبَهَ الأمْرُ في أنَّ المُرادَ بِهَذا الإفْضاءِ، هو الخَلْوَةُ أوِ الجِماعُ ؟ وإذا وقَعَ الشَّكُّ وجَبَ بَقاءُ ما كانَ عَلى ما كانَ، وهو عَدَمُ التَّقْرِيرِ، فَبِهَذِهِ الوُجُوهِ ظَهَرَ تَرْجِيحُ مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ كَلِمَةُ تَعَجُّبٍ، أيْ لِأيِّ وجْهٍ ولِأيِّ مَعْنًى تَفْعَلُونَ هَذا ؟ فَإنَّها بَذَلَتْ نَفْسَها لَكَ وجَعَلَتْ ذاتَها لَذَّتَكَ وتَمَتُّعَكَ، وحَصَلَتِ الأُلْفَةُ التّامَّةُ والمَوَدَّةُ الكامِلَةُ بَيْنَكُما، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالعاقِلِ أنْ يَسْتَرِدَّ مِنها شَيْئًا بَذَلَهُ لَها بِطِيبَةِ نَفْسِهِ ؟ إنَّ هَذا لا يَلِيقُ البَتَّةَ بِمَن لَهُ طَبْعٌ سَلِيمٌ وذَوْقٌ مُسْتَقِيمٌ.
الوَجْهُ الرّابِعُ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ مانِعًا مِنَ اسْتِرْدادِ المَهْرِ: قَوْلُهُ: ﴿وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ في (p-١٥)تَفْسِيرِ هَذا المِيثاقِ الغَلِيظِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: قالَ السُّدِّيُّ وعِكْرِمَةُ والفَرّاءُ: هو قَوْلُهم: زَوَّجْتُكَ هَذِهِ المَرْأةَ عَلى ما أخَذَهُ اللَّهُ لِلنِّساءِ عَلى الرِّجالِ، مِن إمْساكٍ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٍ بِإحْسانٍ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ إذا ألْجَأها إلى أنْ بَذَلَتِ المَهْرَ فَما سَرَّحَها بِالإحْسانِ، بَلْ سَرَّحَها بِالإساءَةِ.
الثّانِي: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ: المِيثاقُ الغَلِيظُ كَلِمَةُ النِّكاحِ المَعْقُودَةُ عَلى الصَّداقِ، وتِلْكَ الكَلِمَةُ كَلِمَةٌ تُسْتَحَلُّ بِها فُرُوجُ النِّساءِ، قالَ ﷺ: ”«اتَّقُّوا اللَّهَ في النِّساءِ فَإنَّكم أخَذْتُمُوهُنَّ بِأمانَةِ اللَّهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ» “ .
الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ أيْ: أخَذْنَ مِنكم بِسَبَبِ إفْضاءِ بَعْضِكم إلى بَعْضٍ مِيثاقًا غَلِيظًا، وصَفَهُ بِالغِلْظَةِ لِقُوَّتِهِ وعَظَمَتِهِ، وقالُوا: صُحْبَةُ عِشْرِينَ يَوْمًا قَرابَةٌ، فَكَيْفَ بِما يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِاتِّحادِ والِامْتِزاجِ ؟
{"ayah":"وَكَیۡفَ تَأۡخُذُونَهُۥ وَقَدۡ أَفۡضَىٰ بَعۡضُكُمۡ إِلَىٰ بَعۡضࣲ وَأَخَذۡنَ مِنكُم مِّیثَـٰقًا غَلِیظࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق