الباحث القرآني

النَّوْعُ الرّابِعُ: مِنَ التَّكالِيفِ المُتَعَلِّقَةِ بِالنِّساءِ. ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾(p-١٢) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾، فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى في الآيَةِ الأُولى لَمّا أذِنَ في مُضارَّةِ الزَّوْجاتِ إذا أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، بَيَّنَ في هَذِهِ الآيَةِ تَحْرِيمَ المُضارَّةِ في غَيْرِ حالِ الفاحِشَةِ فَقالَ: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ﴾ رُوِيَ أنَّ الرَّجُلَ مِنهم إذا مالَ إلى التَّزَوُّجِ بِامْرَأةٍ أُخْرى رَمى زَوْجَةَ نَفْسِهِ بِالفاحِشَةِ حَتّى يُلْجِئَها إلى الِافْتِداءِ مِنهُ بِما أعْطاها لِيَصْرِفَهُ إلى تَزَوُّجِ المَرْأةِ الَّتِي يُرِيدُها قالَ تَعالى: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ﴾ الآيَةَ، والقِنْطارُ المالُ العَظِيمُ، وقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ﴾ [آل عمران: ١٤] . المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالُوا: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى جَوازِ المُغالاةِ في المَهْرِ، رُوِيَ أنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ عَلى المِنبَرِ: ألا لا تُغالُوا في مُهُورِ نِسائِكم، فَقامَتِ امْرَأةٌ فَقالَتْ: يا ابْنَ الخَطّابِ اللَّهُ يُعْطِينا وأنْتَ تَمْنَعُ ؟ وتَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ عُمَرُ: كُلُّ النّاسِ أفْقَهُ مِن عُمَرَ، ورَجَعَ عَنْ كَراهَةِ المُغالاةِ. وعِنْدِي أنَّ الآيَةَ لا دَلالَةَ فِيها عَلى جَوازِ المُغالاةِ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا﴾ لا يَدُلُّ عَلى جَوازِ إيتاءِ القِنْطارِ كَما أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] لا يَدُلُّ عَلى حُصُولِ الآلِهَةِ، والحاصِلُ أنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن جَعْلِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِشَيْءٍ آخَرَ كَوْنُ ذَلِكَ الشَّرْطِ في نَفْسِهِ جائِزَ الوُقُوعِ، وقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ» “، ولَمْ يَلْزَمْ مِنهُ جَوازُ القَتْلِ، وقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ كانَ الإلَهُ جِسْمًا لَكانَ مُحْدَثًا، وهَذا حَقٌّ، ولا يَلْزَمُ مِنهُ أنَّ قَوْلَنا: الإلَهُ جِسْمٌ حَقٌّ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَذِهِ الآيَةُ يَدْخُلُ فِيها ما إذا آتاها مَهْرَها وما إذا لَمْ يُؤْتِها، وذَلِكَ لِأنَّهُ أوْقَعَ العَقْدَ عَلى ذَلِكَ الصَّداقِ في حُكْمِ اللَّهِ، فَلا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ ما إذا آتاها الصَّداقَ حِسًّا، وبَيْنَ ما إذا لَمْ يُؤْتِها. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ تُقَرِّرَ المَهْرَ، قالَ: وذَلِكَ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى مَنَعَ الزَّوْجَ مِن أنْ يَأْخُذَ مِنها شَيْئًا مِنَ المَهْرِ، وهَذا المَنعُ مُطْلَقٌ تَرْكُ العَمَلِ بِهِ قَبْلَ الخَلْوَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَبْقى مَعْمُولًا بِهِ بَعْدَ الخَلْوَةِ، قالَ: ولا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، وذَلِكَ لِأنَّ الصَّحابَةَ اخْتَلَفُوا في تَفْسِيرِ المَسِيسِ فَقالَ عَلِيٌّ وعُمَرُ: المُرادُ مِنَ المَسِيسِ الخَلْوَةُ، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ: هو الجِماعُ، وإذا صارَ مُخْتَلَفًا فِيهِ امْتَنَعَ جَعْلُهُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ. والجَوابُ: أنَّ هَذِهِ الآيَةَ المَذْكُورَةَ هَهُنا مُخْتَصَّةٌ بِما بَعْدَ الجِماعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ﴾ وإفْضاءُ بَعْضِهِمْ إلى البَعْضِ هو الجِماعُ عَلى قَوْلِ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ وسَنُقِيمُ الدَّلائِلَ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اعْلَمْ أنَّ سُوءَ العِشْرَةِ إمّا أنْ يَكُونَ مِن قِبَلِ الزَّوْجِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مِن قِبَلِ الزَّوْجَةِ، فَإنْ كانَ مِن قِبَلِ الزَّوْجِ كُرِهَ لَهُ أنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِن مَهْرِها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ﴾ (p-١٣)﴿وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا﴾ صَرِيحٌ في أنَّ النُّشُوزَ إذا كانَ مِن قِبَلِهِ فَإنَّهُ يَكُونُ مَنهِيًّا عَنْ أنْ يَأْخُذَ مِن مَهْرِها شَيْئًا، ثُمَّ إنْ وقَعَتِ المُخالَعَةُ مَلَكَ الزَّوْجُ بَدَلَ الخُلْعِ، كَما أنَّ البَيْعَ وقْتَ النِّداءِ مَنهِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ إنَّهُ يُفِيدُ المِلْكَ، وإذا كانَ النُّشُوزُ مِن قِبَلِ المَرْأةِ فَهَهُنا يَحِلُّ أخْذُ بَدَلِ الخُلْعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: البُهْتانُ في اللُّغَةِ الكَذِبُ الَّذِي يُواجِهُ الإنْسانُ بِهِ صاحِبَهُ عَلى جِهَةِ المُكابَرَةِ، وأصْلُهُ مِن بُهِتَ الرَّجُلُ إذا تَحَيَّرَ، فالبُهْتانُ كَذِبٌ يُحَيِّرُ الإنْسانَ لِعَظَمَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ كُلَّ باطِلٍ يُتَحَيَّرُ مِن بُطْلانِهِ ”بُهْتانًا“، ومِنهُ الحَدِيثُ: ”«إذا واجَهْتَ أخاكَ بِما لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» “ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في أنَّهُ لِمَ انْتَصَبَ قَوْلُهُ: ﴿بُهْتانًا﴾ ؟ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: البُهْتانُ هَهُنا مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الحالِ، والمَعْنى: أتَأْخُذُونَهُ مُباهِتِينَ وآثِمِينَ. الثّانِي: قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: يُحْتَمَلُ أنَّهُ انْتَصَبَ لِأنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ وإنْ لَمْ يَكُنْ غَرَضًا في الحَقِيقَةِ، كَقَوْلِكَ: قَعَدَ عَنِ القِتالِ جُبْنًا. الثّالِثُ: انْتَصَبَ بِنَزْعِ الخافِضِ، أيْ بِبُهْتانٍ. الرّابِعُ: فِيهِ إضْمارٌ تَقْدِيرُهُ: تُصِيبُونَ بِهِ بُهْتانًا وإثْمًا. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في تَسْمِيَةِ هَذا الأخْذِ ”بُهْتانًا“ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى فَرَضَ لَها ذَلِكَ المَهْرَ فَمَنِ اسْتَرَدَّهُ كانَ كَأنَّهُ يَقُولُ: لَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ بُهْتانًا. الثّانِي: أنَّهُ عِنْدَ العَقْدِ تَكَفَّلَ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ المَهْرِ إلَيْها، وأنْ لا يَأْخُذَهُ مِنها، فَإذا أخَذَهُ صارَ ذَلِكَ القَوْلُ الأوَّلُ بُهْتانًا. الثّالِثُ: أنّا ذَكَرْنا أنَّهُ كانَ مِن دَأْبِهِمْ أنَّهم إذا أرادُوا تَطْلِيقَ الزَّوْجَةِ رَمَوْها بِفاحِشَةٍ حَتّى تَخافَ وتَشْتَرِيَ نَفْسَها مِنهُ بِذَلِكَ المَهْرِ، فَلَمّا كانَ هَذا الأمْرُ واقِعًا عَلى هَذا الوَجْهِ في الأغْلَبِ الأكْثَرِ، جُعِلَ كَأنَّ أحَدَهُما هو الآخَرُ. الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في الآيَةِ السّابِقَةِ: ﴿ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ والظّاهِرُ مِن حالِ المُسْلِمِ أنَّهُ لا يُخالِفُ أمْرَ اللَّهِ، فَإذا أخَذَ مِنها شَيْئًا أشْعَرَ ذَلِكَ بِأنَّها قَدْ أتَتْ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإذا لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَذَلِكَ في الحَقِيقَةِ صَحَّ وصْفُ ذَلِكَ الأخْذِ بِأنَّهُ بُهْتانٌ، مِن حَيْثُ إنَّهُ يَدُلُّ عَلى إتْيانِها بِالفاحِشَةِ مَعَ أنَّ الأمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ. وفِيهِ تَقْرِيرٌ آخَرُ وهو أنَّ أخْذَ المالِ طَعْنٌ في ذاتِها وأخْذٌ لِمالِها، فَهو بُهْتانٌ مِن وجْهٍ وظُلْمٌ مِن وجْهٍ آخَرَ، فَكانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً عَظِيمَةً مِن أُمَّهاتِ الكَبائِرِ. الخامِسُ: أنَّ عِقابَ البُهْتانِ والإثْمِ المُبِينِ كانَ مَعْلُومًا عِنْدَهم فَقَوْلُهُ: ﴿أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا﴾ مَعْناهُ أتَأْخَذُونَ عِقابَ البُهْتانِ فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا﴾ [النساء: ١٠] . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: (أتَأْخُذُونَهُ) اسْتِفْهامٌ عَلى مَعْنى الإنْكارِ والإعْظامِ، والمَعْنى أنَّ الظّاهِرَ أنَّكم لا تَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذا الفِعْلِ مَعَ ظُهُورِ قُبْحِهِ في الشَّرْعِ والعَقْلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب