الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الزَّجّاجُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ أيْ: لَنْ يَأْنَفَ، وأصْلُهُ في اللُّغَةِ مِن نَكَفْتُ الدَّمْعَ إذا نَحَّيْتَهُ بِأُصْبُعِكَ عَنْ خَدِّكِ، فَتَأْوِيلُ ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ﴾ أيْ: لَنْ يَتَنَغَّصَ ولَنْ يَمْتَنِعَ، وقالَ الأزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ المُنْذِرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبا العَبّاسِ وقَدْ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْكافِ فَقالَ: هو مِنَ النَّكْفِ، يُقالُ ما عَلَيْهِ في هَذا الأمْرِ مِن نَكْفٍ ولا وكْفٍ، والنَّكْفُ أنْ يُقالَ لَهُ سُوءٌ، واسْتَنْكَفَ إذا دَفَعَ ذَلِكَ السُّوءَ عَنْهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: رُوِيَ «أنَّ وفْدَ نَجْرانَ قالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: لِمَ تَعِيبُ صاحِبَنا ؟ قالَ: ومَن صاحِبُكم ؟ قالُوا: عِيسى، قالَ: وأيُّ شَيْءٍ قُلْتُ ؟ قالُوا: تَقُولُ إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ، قالَ: إنَّهُ لَيْسَ بِعارٍ أنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّهِ»، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وأنا أقُولُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أقامَ الحُجَّةَ القاطِعَةَ عَلى أنَّ عِيسى عَبْدُ اللَّهِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ أشارَ بَعْدَهُ إلى حِكايَةِ شُبْهَتِهِمْ وأجابَ عَنْها، وذَلِكَ لِأنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَلَيْها يُعَوِّلُونَ في إثْباتِ أنَّهُ ابْنُ اللَّهِ هو أنَّهُ كانَ يُخْبِرُ عَنِ المُغَيَّباتِ وكانَ يَأْتِي بِخَوارِقِ العاداتِ مِنَ الإحْياءِ والإبْراءِ، فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ﴾ بِسَبَبِ هَذا القَدْرِ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّ المَلائِكَةَ المُقَرَّبِينَ أعْلى حالًا مِنهُ في العِلْمِ بِالمُغَيَّباتِ لِأنَّهم مُطَّلِعُونَ عَلى اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وأعْلى حالًا مِنهُ في القُدْرَةِ لِأنَّ ثَمانِيَةً مِنهم حَمَلُوا العَرْشَ عَلى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ إنَّ المَلائِكَةَ مَعَ كَمالِ حالِهِمْ في العُلُومِ والقُدْرَةِ لَنْ يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ بِسَبَبِ هَذا القَدْرِ القَلِيلِ الَّذِي كانَ مَعَهُ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ ! وإذا حَمَلْنا الآيَةَ عَلى ما ذَكَرْناهُ صارَتْ هَذِهِ الآياتُ مُتَناسِبَةً مُتَتابِعَةً ومُناظَرَةً شَرِيفَةً كامِلَةً، فَكانَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى هَذا الوَجْهِ أوْلى. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ المُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ المَلَكَ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ. وقَدْ ذَكَرْنا اسْتِدْلالَهم بِها في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٤] وأجَبْنا عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ بِوُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، والَّذِي نَقُولُ هَهُنا: إنّا نُسَلِّمُ أنَّ اطِّلاعَ المَلائِكَةِ عَلى المُغَيَّباتِ أكْثَرُ مِنَ اطِّلاعِ البَشَرِ عَلَيْها، ونُسَلِّمُ أنَّ قُدْرَةَ المَلائِكَةِ عَلى التَّصَرُّفِ في هَذا العالَمِ أشَدُّ مِن قُدْرَةِ البَشَرِ، كَيْفَ ويُقالُ إنَّ جِبْرِيلَ قَلَعَ مَدائِنَ قَوْمِ لُوطٍ بِرِيشَةٍ واحِدَةٍ مِن جَناحِهِ ! إنَّما النِّزاعُ في أنَّ ثَوابَ طاعاتِ المَلائِكَةِ أكْثَرُ أمْ ثَوابَ طاعاتِ البَشَرِ، وهَذِهِ الآيَةُ لا تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ البَتَّةَ، وذَلِكَ لِأنَّ النَّصارى إنَّما أثْبَتُوا إلَهِيَّةَ عِيسى بِسَبَبِ أنَّهُ أخْبَرَ عَنِ الغُيُوبِ وأتى بِخَوارِقِ العاداتِ، فَإيرادُ المَلائِكَةِ لِأجْلِ إبْطالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إنَّما يَسْتَقِيمُ إذا كانَتِ المَلائِكَةُ أقْوى حالًا في هَذا العِلْمِ وفي هَذِهِ القُدْرَةِ مِنَ البَشَرِ، ونَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ. فَأمّا أنْ يُقالَ: المُرادُ مِنَ الآيَةِ تَفْضِيلُ المَلائِكَةِ عَلى المَسِيحِ في كَثْرَةِ الثَّوابِ عَلى الطّاعاتِ فَذَلِكَ مِمّا لا يُناسِبُ هَذا المَوْضِعَ ولا يَلِيقُ بِهِ، فَظَهَرَ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ إنَّما قَوِيَ في الأوْهامِ لِأنَّ النّاسَ ما لَخَّصُوا مَحَلَّ النِّزاعِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في الآيَةِ سُؤالٌ، وهو أنَّ المَلائِكَةَ مَعْطُوفُونَ عَلى المَسِيحِ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: ولا (p-٩٤)المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ في أنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لِلَّهِ وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ. والجَوابُ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المُرادُ ولا كُلُّ واحِدٍ مِنَ المُقَرَّبِينَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ أنْ يَكُونُوا عَبِيدًا فَحُذِفَ ذَلِكَ لِدَلالَةِ قَوْلِ: ﴿عَبْدًا لِلَّهِ﴾ عَلَيْهِ عَلى طَرِيقِ الإيجازِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ”عُبَيْدًا لِلَّهِ“ عَلى التَّصْغِيرِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قَوْلُهُ ﴿ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ طَبَقاتِ المَلائِكَةِ مُخْتَلِفَةٌ في الدَّرَجَةِ والفَضِيلَةِ فالأكابِرُ مِنهم مِثْلَ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ وإسْرافِيلَ وعِزْرائِيلَ وحَمَلَةِ العَرْشِ، وقَدْ شَرَحْنا طَبَقاتِهِمْ في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٠] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ ويَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهم إلَيْهِ جَمِيعًا﴾ والمَعْنى أنَّ مَنِ اسْتَنْكَفَ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ واسْتَكْبَرَ عَنْها فَإنَّ اللَّهَ يَحْشُرُهم إلَيْهِ أيْ: يَجْمَعُهم إلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ حَيْثُ لا يَمْلِكُونَ لِأنْفُسِهِمْ شَيْئًا. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ يَحْشُرُ هَؤُلاءِ المُسْتَنْكِفِينَ المُسْتَكْبِرِينَ لَمْ يَذْكُرْ ما يَفْعَلُ بِهِمْ بَلْ ذَكَرَ أوَّلًا ثَوابَ المُؤْمِنِينَ المُطِيعِينَ. فَقالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهم ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ آخِرًا عِقابَ المُسْتَنْكِفِينَ المُسْتَكْبِرِينَ. فَقالَ: ﴿وأمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا واسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهم عَذابًا ألِيمًا ولا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ والمَعْنى ظاهِرٌ لا إشْكالَ فِيهِ، وإنَّما قَدَّمَ ثَوابَ المُؤْمِنِينَ عَلى عِقابِ المُسْتَنْكِفِينَ لِأنَّهم إذا رَأوْا أوَّلًا ثَوابَ المُطِيعِينَ ثُمَّ شاهَدُوا بَعْدَهُ عِقابَ أنْفُسِهِمْ كانَ ذَلِكَ أعْظَمَ في الحَسْرَةِ. ﴿ياأيُّها النّاسُ قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكم وأنْزَلْنا إلَيْكم نُورًا مُبِينًا﴾ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهم في رَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ * * * قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكم وأنْزَلْنا إلَيْكم نُورًا مُبِينًا﴾ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهم في رَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى: لَمّا أوْرَدَ الحُجَّةَ عَلى جَمِيعِ الفِرَقِ مِنَ المُنافِقِينَ والكُفّارِ واليَهُودِ والنَّصارى وأجابَ عَنْ جَمِيعِ شُبُهاتِهِمْ عَمَّمَ الخِطابَ ودَعا جَمِيعَ النّاسِ إلى الِاعْتِرافِ بِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَقالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ قَدْ جاءَكم بُرْهانٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ والبُرْهانُ هو مُحَمَّدٌ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -، وإنَّما سَمّاهُ بُرْهانًا لِأنَّ حِرْفَتَهُ إقامَةُ البُرْهانِ عَلى تَحْقِيقِ الحَقِّ وإبْطالِ الباطِلِ، والنُّورُ المُبِينُ هو القُرْآنُ، وسَمّاهُ نُورًا لِأنَّهُ سَبَبٌ لِوُقُوعِ نُورِ الإيمانِ في القَلْبِ، ولَمّا قَرَّرَ عَلى كُلِّ العالَمِينَ كَوْنَ مُحَمَّدٍ رَسُولًا وكَوْنَ القُرْآنِ كِتابًا حَقًّا أمَرَهم بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَتَمَسَّكُوا بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ ووَعَدَهم عَلَيْهِ بِالثَّوابِ فَقالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ واعْتَصَمُوا بِهِ﴾ والمُرادُ آمَنُوا بِاللَّهِ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأحْكامِهِ وأسْمائِهِ واعْتَصَمُوا بِهِ أيْ: بِاللَّهِ في أنْ يُثَبِّتَهم عَلى الإيمانِ ويَصُونَهم عَنْ نَزْغِ الشَّيْطانِ ويُدْخِلَهم في رَحْمَةٍ مِنهُ وفَضْلٍ ويَهْدِيَهم إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا، فَوَعَدَ بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ: الرَّحْمَةِ (p-٩٥)والفَضْلِ والهِدايَةِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرَّحْمَةُ: الجَنَّةُ، والفَضْلُ: ما يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمّا لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ﴿ويَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا﴾ يُرِيدُ دِينًا مُسْتَقِيمًا. وأقُولُ: الرَّحْمَةُ والفَضْلُ مَحْمُولانِ عَلى ما في الجَنَّةِ مِنَ المَنفَعَةِ والتَّعْظِيمِ، وأمّا الهِدايَةُ فالمُرادُ مِنها السَّعاداتُ الحاصِلَةُ بِتَجَلِّي أنْوارِ عالِمِ القُدْسِ والكِبْرِياءِ في الأرْواحِ البَشَرِيَّةِ وهَذا هو السَّعادَةُ الرُّوحانِيَّةُ، وأخَّرَ ذِكْرَها عَنِ القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ البَهْجَةَ الرُّوحانِيَّةَ أشْرَفُ مِنَ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب