الباحث القرآني

(p-٩١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دِينِكم ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ إنَّما المَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكم إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ولا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ ومَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ ويَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهم إلَيْهِ جَمِيعًا﴾ ﴿فَأمّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهم ويَزِيدُهم مِن فَضْلِهِ وأمّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا واسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهم عَذابًا ألِيمًا ولا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أجابَ عَنْ شُبُهاتِ اليَهُودِ تَكَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ النَّصارى في هَذِهِ الآيَةِ، والتَّقْدِيرُ: يا أهْلَ الكِتابِ مِنَ النَّصارى لا تَغْلُوا في دِينِكم أيْ: لا تُفْرِطُوا في تَعْظِيمِ المَسِيحِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى حَكى عَنِ اليَهُودِ أنَّهم يُبالِغُونَ في الطَّعْنِ في المَسِيحِ، وهَؤُلاءِ النَّصارى يُبالِغُونَ في تَعْظِيمِهِ وكِلا طَرَفَيْ قَصْدِهِمْ ذَمِيمٌ، فَلِهَذا قالَ لِلنَّصارى: ﴿لا تَغْلُوا في دِينِكُمْ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَقُولُوا عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ﴾ يَعْنِي لا تَصِفُوا اللَّهَ بِالحُلُولِ والِاتِّحادِ في بَدَنِ الإنْسانِ أوْ رُوحِهِ، ونَزِّهُوهُ عَنْ هَذِهِ الأحْوالِ. ولَمّا مَنَعَهم عَنْ طَرِيقِ الغُلُوِّ أرْشَدَهم إلى طَرِيقِ الحَقِّ، وهو أنَّ المَسِيحَ عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وعَبْدُهُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وكَلِمَتُهُ ألْقاها إلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنهُ﴾ . فاعْلَمْ أنّا فَسَّرْنا ”الكَلِمَةَ“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسْمُهُ المَسِيحُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٤٥] والمَعْنى أنَّهُ وُجِدَ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وأمْرِهِ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ ولا نُطْفَةٍ كَما قالَ: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٥٩] وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ورُوحٌ مِنهُ﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ جَرَتْ عادَةُ النّاسِ أنَّهم إذا وصَفُوا شَيْئًا بِغايَةِ الطَّهارَةِ والنَّظافَةِ قالُوا: إنَّهُ رُوحٌ، فَلَمّا كانَ عِيسى لَمْ يَتَكَوَّنْ مِن نُطْفَةِ الأبِ وإنَّما تَكَوَّنُ مِن نَفْخَةِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لا جَرَمَ وُصِفَ بِأنَّهُ رُوحٌ، والمُرادُ مِن قَوْلِهِ: (مِنهُ) التَّشْرِيفُ والتَّفْضِيلُ كَما يُقالُ: هَذِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، والمُرادُ كَوْنُ تِلْكَ النِّعْمَةِ كامِلَةً شَرِيفَةً. الثّانِي: أنَّهُ كانَ سَبَبًا لِحَياةِ الخَلْقِ في أدْيانِهِمْ، ومَن كانَ كَذَلِكَ وُصِفَ بِأنَّهُ رُوحٌ. قالَ تَعالى في صِفَةِ القُرْآنِ ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ [الشُّورى: ٥٢] الثّالِثُ: رُوحٌ مِنهُ أيْ: رَحْمَةٌ مِنهُ، قِيلَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأيَّدَهم بِرُوحٍ مِنهُ﴾ [المُجادَلَةِ: ٢٢] أيْ: بِرَحْمَةٍ مِنهُ، وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: («إنَّما أنا رَحْمَةٌ مُهْداةٌ» ) فَلَمّا كانَ عِيسى رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلى الخَلْقِ مِن حَيْثُ أنَّهُ كانَ يُرْشِدُهم إلى مَصالِحِهِمْ في دِينِهِمْ ودُنْياهم لا جَرَمَ سُمِّيَ رُوحًا مِنهُ. الرّابِعُ: أنَّ الرُّوحَ هو النَّفْخُ في كَلامِ العَرَبِ، فَإنَّ الرُّوحَ والرِّيحَ مُتَقارِبانِ، فالرُّوحُ عِبارَةٌ عَنْ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ وقَوْلُهُ: (مِنهُ) يَعْنِي أنَّ ذَلِكَ النَّفْخَ مِن جِبْرِيلَ كانَ بِأمْرِ اللَّهِ وإذْنِهِ فَهو مِنهُ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿فَنَفَخْنا فِيها مِن رُوحِنا﴾ . الخامِسُ: قَوْلُهُ: (رُوحٌ) أدْخَلَ التَّنْكِيرَ في لَفْظِ (رُوحٌ) وذَلِكَ يُفِيدُ التَّعْظِيمَ، فَكانَ المَعْنى: ورُوحٌ مِنَ الأرْواحِ الشَّرِيفَةِ القُدُسِيَّةِ العالِيَةِ، وقَوْلُهُ: (مِنهُ) إضافَةٌ لِذَلِكَ الرُّوحِ إلى نَفْسِهِ لِأجْلِ التَّشْرِيفِ والتَّعْظِيمِ. (p-٩٢)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ أيْ: أنَّ عِيسى مِن رُسُلِ اللَّهِ فَآمِنُوا بِهِ كَإيمانِكم بِسائِرِ الرُّسُلِ ولا تَجْعَلُوهُ إلَهًا. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: المَعْنى: ولا تَقُولُوا إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ واحِدٌ بِالجَوْهَرِ ثَلاثَةٌ بِالأقانِيمِ. واعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَ النَّصارى مَجْهُولٌ جِدًّا، والَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنهُ أنَّهم أثْبَتُوا ذاتًا مَوْصُوفَةً بِصِفاتٍ ثَلاثَةٍ، إلّا أنَّهم وإنْ سَمَّوْها صِفاتٍ فَهي في الحَقِيقَةِ ذَواتٌ، بِدَلِيلِ أنَّهم يُجَوِّزُونَ عَلَيْها الحُلُولَ في عِيسى وفي مَرْيَمَ بِأنْفُسِها، وإلّا لَما جَوَّزُوا عَلَيْها أنْ تَحِلَّ في الغَيْرِ وأنْ تُفارِقَ ذَلِكَ الغَيْرَ مَرَّةً أُخْرى، فَهم وإنْ كانُوا يُسَمُّونَها بِالصِّفاتِ إلّا أنَّهم في الحَقِيقَةِ يُثْبِتُونَ ذَواتٍ مُتَعَدِّدَةً قائِمَةً بِأنْفُسِها، وذَلِكَ مَحْضُ الكُفْرِ، فَلِهَذا المَعْنى قالَ تَعالى: ﴿ولا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا﴾ فَأمّا إنْ حَمَلْنا الثَّلاثَةَ عَلى أنَّهم يُثْبِتُونَ صِفاتٍ ثَلاثَةً، فَهَذا لا يُمْكِنُ إنْكارُهُ، وكَيْفَ لا نَقُولُ ذَلِكَ وإنّا نَقُولُ: هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ العالِمُ الحَيُّ القادِرُ المُرِيدُ، ونَفْهَمُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الألْفاظِ غَيْرَ ما نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ الآخَرِ، ولا مَعْنى لِتَعَدُّدِ الصِّفاتِ إلّا ذَلِكَ، فَلَوْ كانَ القَوْلُ بِتَعَدُّدِ الصِّفاتِ كُفْرًا لَزِمَ رَدُّ جَمِيعِ القُرْآنِ ولَزِمَ رَدُّ العَقْلِ مِن حَيْثُ أنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ المَفْهُومَ مِن كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا غَيْرُ المَفْهُومِ مِن كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا أوْ حَيًّا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: (ثَلاثَةٌ) خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في تَعْيِينِ ذَلِكَ المُبْتَدَأِ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: ما ذَكَرْناهُ، أيْ: ولا تَقُولُوا الأقانِيمُ ثَلاثَةٌ. الثّانِي: قالَ الزَّجّاجُ: ولا تَقُولُوا آلِهَتُنا ثَلاثَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّ القُرْآنَ يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّصارى يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ والمَسِيحَ ومَرْيَمَ ثَلاثَةُ آلِهَةٍ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [المائِدَةِ: ١١٦] . الثّالِثُ: قالَ الفَرّاءُ: ولا تَقُولُوا هم ثَلاثَةٌ كَقَوْلِهِ: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ﴾ [الكَهْفِ: ٢٢] وذَلِكَ لِأنَّ عِيسى ومَرْيَمَ مَعَ اللَّهِ تَعالى بِهَذِهِ العِبارَةِ يُوهِمُ كَوْنَهُما إلَهَيْنِ، وبِالجُمْلَةِ فَلا نَرى مَذْهَبًا في الدُّنْيا أشَدَّ رَكاكَةً وبُعْدًا عَنِ العَقْلِ مِن مَذْهَبِ النَّصارى. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا وجْهَ انْتِصابِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ﴾ [النِّساءِ: ١٧٠] . ثُمَّ أكَّدَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما اللَّهُ إلَهٌ واحِدٌ﴾ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الوَلَدِ بِقَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ﴾ ودَلائِلُ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنِ الوَلَدِ قَدْ ذَكَرْناها في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ وفي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلى الِاسْتِقْصاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ: (إنْ يَكُونُ)، بِكَسْرِ الهَمْزَةِ مِن ”أنْ“ ورَفْعِ النُّونِ مِن ”يَكُونَ“، أيْ: سُبْحانَهُ ما يَكُونُ لَهُ ولَدٌ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فالكَلامُ جُمْلَتانِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ واعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ في كُلِّ مَوْضِعٍ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الوَلَدِ ذَكَرَ كَوْنَهُ مَلِكًا ومالِكًا لِما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ فَقالَ في مَرْيَمَ: ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مَرْيَمَ: ٩٣] والمَعْنى: مَن كانَ مالِكًا لِكُلِّ السَّماواتِ والأرْضِ ولِكُلِّ ما فِيها كانَ مالِكًا لِعِيسى ولِمَرْيَمَ لِأنَّهُما كانا في السَّماواتِ وفي الأرْضِ، وما كانا أعْظَمَ مِن غَيْرِهِما في الذّاتِ والصِّفاتِ، وإذا كانَ مالِكًا لِما هو أعْظَمُ مِنهُما فَبِأنْ يَكُونَ مالِكًا (p-٩٣)لَهُما أوْلى، وإذا كانا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مَعَ هَذا تَوَهُّمُ كَوْنِهِما لَهُ ولَدًا وزَوْجَةً. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ وكِيلًا﴾ والمَعْنى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ كافٍ في تَدْبِيرِ المَخْلُوقاتِ وفي حِفْظِ المُحْدَثاتِ فَلا حاجَةَ مَعَهُ إلى القَوْلِ بِإثْباتِ إلَهٍ آخَرَ، وهو إشارَةٌ إلى ما يَذْكُرُهُ المُتَكَلِّمُونَ مِن أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ قادِرًا عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ كانَ كافِيًا في الإلَهِيَّةِ، ولَوْ فَرَضْنا إلَهًا آخَرَ مَعَهُ لَكانَ مُعَطَّلًا لا فائِدَةَ فِيهِ، وذَلِكَ نَقْصٌ، والنّاقِصُ لا يَكُونُ إلَهًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب