الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ .
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ في الآيَةِ الأُولى أنَّ المُرْتَكِبَيْنِ لِلْفاحِشَةِ إذا تابا وأصْلَحا زالَ الأذى عَنْهُما، وأخْبَرَ عَلى الإطْلاقِ أيْضًا أنَّهُ تَوّابٌ رَحِيمٌ، ذَكَرَ وقْتَ التَّوْبَةِ وشَرْطَها، ورَغَّبَهم في تَعْجِيلِها لِئَلّا يَأْتِيَهِمُ المَوْتُ وهم مُصِرُّونَ فَلا تَنْفَعُهُمُ التَّوْبَةُ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: أمّا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ فَقَدْ ذَكَرْناها في سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْكم إنَّهُ هو التَّوّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ٥٤] واحْتَجَّ القاضِي عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى اللَّهِ عَقْلًا قَبُولُ التَّوْبَةِ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ كَلِمَةَ ”عَلى“ لِلْوُجُوبِ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى اللَّهِ عَقْلًا قَبُولُها.
الثّانِي: لَوْ حَمَلْنا قَوْلَهُ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ عَلى مُجَرَّدِ القَبُولِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ فَرْقٌ لِأنَّ هَذا أيْضًا إخْبارٌ عَنِ الوُقُوعِ، أمّا إذا حَمَلْنا ذَلِكَ عَلى وُجُوبِ القَبُولِ وهَذا عَلى الوُقُوعِ يَظْهَرُ الفَرْقُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ ولا يَلْزَمُ التَّكْرارُ.
واعْلَمْ أنَّ القَوْلَ بِالوُجُوبِ عَلى اللَّهِ باطِلٌ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ لازِمَةَ الوُجُوبِ اسْتِحْقاقُ الذَّمِّ عِنْدَ التَّرْكِ، فَهَذِهِ اللّازِمَةُ إمّا أنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةَ الثُّبُوتِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، أوْ غَيْرَ مُمْتَنِعَةٍ في حَقِّهِ، والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ تَرْكَ ذَلِكَ الواجِبِ لَمّا كانَ مُسْتَلْزِمًا لِهَذا الذَّمِّ، وهَذا الذَّمُّ مُحالُ الثُّبُوتِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ في حَقِّ اللَّهِ، وإذا كانَ التَّرْكُ مُمْتَنِعَ الثُّبُوتِ عَقْلًا كانَ الفِعْلُ واجِبَ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ اللَّهُ تَعالى مُوجَبًا بِالذّاتِ لا فاعِلًا بِالِاخْتِيارِ وذَلِكَ باطِلٌ، وأمّا إنْ كانَ اسْتِحْقاقُ الذَّمِّ غَيْرَ مُمْتَنِعِ الحُصُولِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، فَكُلُّ ما كانَ مُمْكِنًا لا يَلْزَمُ مِن فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحالٌ، فَيَلْزَمُ جَوازُ أنْ يَكُونَ الإلَهُ مَعَ كَوْنِهِ إلَهًا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِاسْتِحْقاقِ الذَّمِّ وذَلِكَ مُحالٌ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ، ولَمّا بَطَلَ هَذانِ القِسْمانِ ثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِالوُجُوبِ عَلى اللَّهِ تَعالى باطِلٌ.
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنَّ قادِرِيَّةَ العَبْدِ بِالنِّسْبَةِ إلى فِعْلِ التَّوْبَةِ وتَرْكِها إمّا أنْ يَكُونَ عَلى السَّوِيَّةِ، أوْ لا يَكُونَ (p-٤)عَلى السَّوِيَّةِ، فَإنْ كانَ عَلى السَّوِيَّةِ لَمْ يَتَرَجَّحْ فِعْلُ التَّوْبَةِ عَلى تَرْكِها إلّا لِمُرَجِّحٍ، ثُمَّ ذَلِكَ المُرَجِّحُ إنْ حَدَثَ لا عَنْ مُحْدِثٍ لَزِمَ نَفْيُ الصّانِعِ، وإنْ حَدَثَ عَنِ العَبْدِ عادَ التَّقْسِيمُ، وإنْ حَدَثَ عَنِ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ العَبْدُ إنَّما أقْدَمَ عَلى التَّوْبَةِ بِمَعُونَةِ اللَّهِ وتَقْوِيَتِهِ، فَتَكُونُ تِلْكَ التَّوْبَةُ إنْعامًا مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى عَبْدِهِ، وإنْعامُ المَوْلى عَلى عَبْدِهِ لا يُوجِبُ عَلَيْهِ أنْ يُنْعِمَ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرى، فَثَبَتَ أنَّ صُدُورَ التَّوْبَةِ عَنِ العَبْدِ لا يُوجِبُ عَلى اللَّهِ القَبُولَ، وأمّا إنْ كانَتْ قادِرِيَّةُ العَبْدِ لا تَصْلُحُ لِلتَّرْكِ والفِعْلِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الجَبْرُ ألْزَمَ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ القَوْلُ بِالوُجُوبِ أظْهَرَ بُطْلانًا وفَسادًا.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: التَّوْبَةُ عِبارَةٌ عَنِ النَّدَمِ عَلى ما مَضى والعَزْمِ عَلى التَّرْكِ في المُسْتَقْبَلِ، والنَّدَمُ والعَزْمُ مِن بابِ الكَراهاتِ والإراداتِ، والكَراهَةُ والإرادَةُ لا يَحْصُلانِ بِاخْتِيارِ العَبْدِ، وإلّا افْتَقَرَ في تَحْصِيلِهِما إلى إرادَةٍ أُخْرى ولَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ حُصُولُ هَذا النَّدَمِ وهَذا العَزْمِ بِمَحْضِ تَخْلِيقِ اللَّهِ تَعالى، وفِعْلُ اللَّهِ لا يُوجِبُ عَلى اللَّهِ فِعْلًا آخَرَ، فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِالوُجُوبِ باطِلٌ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: أنَّ التَّوْبَةَ فِعْلٌ يَحْصُلُ بِاخْتِيارِ العَبْدِ عَلى قَوْلِهِمْ، فَلَوْ صارَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْوُجُوبِ عَلى اللَّهِ لَصارَ فِعْلُ العَبْدِ مُؤَثِّرًا في ذاتِ اللَّهِ وفي صِفاتِهِ، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ.
فَأمّا الجَوابُ عَمّا احْتَجُّوا بِهِ فَهو أنَّهُ تَعالى وعَدَ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، فَإذا وعَدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ وكانَ الخُلْفُ في وعْدِهِ مُحالًا كانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالواجِبِ، فَبِهَذا التَّأْوِيلِ صَحَّ إطْلاقُ كَلِمَةِ ”عَلى“ وبِهَذا الطَّرِيقِ ظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ .
إنْ قِيلَ: فَلَمّا أخْبَرَ عَنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ وكُلُّ ما أخْبَرَ اللَّهُ عَنْ وُقُوعِهِ كانَ واجِبَ الوُقُوعِ، فَيَلْزَمُكم أنْ لا يَكُونَ فاعِلًا مُخْتارًا.
قُلْنا: الإخْبارُ عَنِ الوُقُوعِ تَبَعٌ لِلْوُقُوعِ، والوُقُوعُ تَبَعٌ لِلْإيقاعِ، والتَّبَعُ لا يُغَيِّرُ الأصْلَ، فَكانَ فاعِلًا مُخْتارًا في ذَلِكَ الإيقاعِ، أمّا أنْتُمْ تَقُولُونَ بِأنَّ وُقُوعَ التَّوْبَةِ مِن حَيْثُ إنَّها هي تُؤَثِّرُ في وُجُوبِ القَبُولِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ لا يَقُولُهُ عاقِلٌ فَظَهَرَ الفَرْقُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهُ تَعالى شَرَطَ قَبُولَ هَذِهِ التَّوْبَةِ بِشَرْطَيْنِ: أحَدُهُما قَوْلُهُ: ﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ﴾ وفِيهِ سُؤالانِ: أحَدُهُما: أنَّ مَن عَمِلَ ذَنْبًا ولَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ ذَنْبٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ عِقابًا؛ لِأنَّ الخَطَأ مَرْفُوعٌ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، فَعَلى هَذا: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فَلا حاجَةَ بِهِمْ إلى التَّوْبَةِ، والسُّؤالُ الثّانِي: أنَّ كَلِمَةَ ”إنَّما“ لِلْحَصْرِ، فَظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ مَن أقْدَمَ عَلى السُّوءِ مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ سُوءًا أنْ لا تَكُونَ تَوْبَتُهُ مَقْبُولَةً، وذَلِكَ بِالإجْماعِ باطِلٌ.
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الأوَّلِ: أنَّ اليَهُودِيَّ اخْتارَ اليَهُودِيَّةَ وهو لا يَعْلَمُ كَوْنَها ذَنْبًا مَعَ أنَّهُ يَسْتَحِقُّ العِقابَ عَلَيْها.
والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي: أنَّ مَن أتى بِالمَعْصِيَةِ مَعَ الجَهْلِ بِكَوْنِها مَعْصِيَةً يَكُونُ حالُهُ أخَفَّ مِمَّنْ أتى بِها مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِها مَعْصِيَةً، وإذا كانَ كَذَلِكَ لا جَرَمَ خَصَّ القِسْمَ الأوَّلَ بِوُجُوبِ قَبُولِ التَّوْبَةِ وُجُوبًا عَلى سَبِيلِ الوَعْدِ والكَرَمِ، وأمّا القِسْمُ الثّانِي فَلَمّا كانَ ذَنْبُهم أغْلَظَ لا جَرَمَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ هَذا التَّأْكِيدَ في قَبُولِ (p-٥)التَّوْبَةِ، فَتَكُونُ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً مِن هَذا الوَجْهِ عَلى أنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ غَيْرُ واجِبٍ عَلى اللَّهِ تَعالى.
وإذا عَرَفْتَ الجَوابَ عَنْ هَذَيْنِ السُّؤالَيْنِ فَلْنَذْكُرِ الوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرَها المُفَسِّرُونَ في تَفْسِيرِ الجَهالَةِ.
الأوَّلُ: قالَ المُفَسِّرُونَ: كُلُّ مَن عَصى اللَّهَ سُمِّيَ جاهِلًا وسُمِّيَ فِعْلُهُ جَهالَةً، قالَ تَعالى إخْبارًا عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [يوسف: ٣٣]، وقالَ حِكايَةً عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ قالَ لِإخْوَتِهِ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ إذْ أنْتُمْ جاهِلُونَ﴾ [ يُوسُفَ: ٨٩] وقالَ تَعالى: ﴿قالَ يانُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [هود: ٤٦] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أتَتَّخِذُنا هُزُوًا قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] وقَدْ يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ حالَ ما يَذُمُّهُ عَلى فِعْلٍ: يا جاهِلُ لِمَ فَعَلْتَ كَذا وكَذا، والسَّبَبُ في إطْلاقِ اسْمِ الجاهِلِ عَلى العاصِي لِرَبِّهِ أنَّهُ لَوِ اسْتَعْمَلَ ما مَعَهُ مِنَ العِلْمِ بِالثَّوابِ والعِقابِ لَما أقْدَمَ عَلى المَعْصِيَةِ، فَلَمّا لَمْ يَسْتَعْمِلْ ذَلِكَ العِلْمَ صارَ كَأنَّهُ لا عِلْمَ لَهُ، فَعَلى هَذا الطَّرِيقِ سُمِّيَ العاصِي لِرَبِّهِ جاهِلًا، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَدْخُلُ فِيهِ المَعْصِيَةُ سَواءٌ أتى بِها الإنْسانُ مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِها مَعْصِيَةً أوْ مَعَ الجَهْلِ بِذَلِكَ.
والوَجْهُ الثّانِي في تَفْسِيرِ الجَهالَةِ: أنْ يَأْتِيَ الإنْسانُ بِالمَعْصِيَةِ مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِها مَعْصِيَةً إلّا أنْ يَكُونَ جاهِلًا بِقَدْرِ عِقابِهِ، وقَدْ عَلِمْنا أنَّ الإنْسانَ إذا أقْدَمَ عَلى ما لا يَنْبَغِي مَعَ العِلْمِ بِأنَّهُ مِمّا لا يَنْبَغِي إلّا أنَّهُ لا يَعْلَمُ مِقْدارَ ما يَحْصُلُ في عاقِبَتِهِ مِنَ الآفاتِ، فَإنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُقالَ عَلى سَبِيلِ المَجازِ: إنَّهُ جاهِلٌ بِفِعْلِهِ.
والوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ أنْ يَأْتِيَ الإنْسانُ بِالمَعْصِيَةِ مَعَ أنَّهُ لا يَعْلَمُ كَوْنَها مَعْصِيَةً، لَكِنْ بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنَ العِلْمِ بِكَوْنِها مَعْصِيَةً، فَإنَّهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْتَحِقُّ العِقابَ، ولِهَذا المَعْنى أجْمَعْنا عَلى أنَّ اليَهُودِيَّ يَسْتَحِقُّ عَلى يَهُودِيَّتِهِ العِقابَ، وإنْ كانَ لا يَعْلَمُ كَوْنَ اليَهُودِيَّةِ مَعْصِيَةً، إلّا أنَّهُ لَمّا كانَ مُتَمَكِّنًا مِن تَحْصِيلِ العِلْمِ بِكَوْنِ اليَهُودِيَّةِ ذَنْبًا ومَعْصِيَةً، كَفى ذَلِكَ في ثُبُوتِ اسْتِحْقاقِ العِقابِ، ويَخْرُجُ عَمّا ذَكَرْنا النّائِمُ والسّاهِي، فَإنَّهُ أتى بِالقَبِيحِ ولَكِنَّهُ ما كانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا، وهَذا القَوْلُ راجِحٌ عَلى غَيْرِهِ مِن حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الجَهالَةِ في الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ مَحْمُولٌ عَلى المَجازِ، وفي هَذا الوَجْهِ عَلى الحَقِيقَةِ، إلّا أنَّ عَلى هَذا الوَجْهِ لا يَدْخُلُ تَحْتَ الآيَةِ إلّا مَن عَمِلَ القَبِيحَ وهو لا يَعْلَمُ قُبْحَهُ، أمّا المُتَعَمِّدُ فَإنَّهُ لا يَكُونُ داخِلًا تَحْتَ الآيَةِ، وإنَّما يُعْرَفُ حالُهُ بِطَرِيقِ القِياسِ وهو أنَّهُ لَمّا كانَتِ التَّوْبَةُ عَلى هَذا الجاهِلِ واجِبَةً، فَلَأنْ تَكُونَ واجِبَةً عَلى العامِدِ كانَ ذَلِكَ أوْلى، فَهَذا هو الكَلامُ في الشَّرْطِ الأوَّلِ مِن شَرائِطِ التَّوْبَةِ، وأمّا الشَّرْطُ الثّانِي فَهو قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ وقَدْ أجْمَعُوا عَلى أنَّ المُرادَ مِن هَذا القُرْبِ حُضُورُ زَمانِ المَوْتِ ومُعايَنَةُ أهْوالِهِ، وإنَّما سَمّى تَعالى هَذِهِ المُدَّةَ قَرِيبَةً لِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ الأجَلَ آتٍ وكُلُّ ما هو آتٍ قَرِيبٌ.
وثانِيها: لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ مُدَّةَ عُمْرِ الإنْسانِ وإنْ طالَتْ فَهي قَلِيلَةٌ قَرِيبَةٌ فَإنَّها مَحْفُوفَةٌ بِطَرَفَيِ الأزَلِ والأبَدِ، فَإذا قَسَّمْتَ مُدَّةَ عُمْرِكَ إلى ما عَلى طَرَفَيْها صارَ كالعَدَمِ.
وثالِثُها: أنَّ الإنْسانَ يَتَوَقَّعُ في كُلِّ لَحْظَةٍ نُزُولَ المَوْتِ بِهِ، وما هَذا حالُهُ فَإنَّهُ يُوصَفُ بِالقُرْبِ.
فَإنْ قِيلَ: ما مَعْنى ”مِن“ في قَوْلِهِ: ﴿مِن قَرِيبٍ﴾ ؟ .
الجَوابُ: أنَّهُ لِابْتِداءِ الغايَةِ، أيْ يَجْعَلُ مُبْتَدَأ تَوْبَتِهِ زَمانًا قَرِيبًا مِنَ المَعْصِيَةِ لِئَلّا يَقَعَ في زُمْرَةِ المُصِرِّينَ، فَأمّا مَن تابَ بَعْدَ المَعْصِيَةِ بِزَمانٍ بَعِيدٍ وقَبْلَ المَوْتِ بِزَمانٍ بَعِيدٍ فَإنَّهُ يَكُونُ خارِجًا عَنِ المَخْصُوصِينَ بِكَرامَةِ حَتْمِ (p-٦)قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلى اللَّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ وبِقَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ ومَن لَمْ تَقَعْ تَوْبَتُهُ عَلى هَذا الوَجْهِ فَإنَّهُ يَكْفِيهِ أنْ يَكُونَ مِن جُمْلَةِ المَوْعُودِينَ بِكَلِمَةِ ”عَسى“ في قَوْلِهِ: ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٠٢] ولا شَكَّ أنَّ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ مِنَ التَّفاوُتِ ما لا يَخْفى، وقِيلَ: مَعْناهُ التَّبْعِيضُ، أيْ يَتُوبُونَ بَعْضَ زَمانٍ قَرِيبٍ، كَأنَّهُ تَعالى سَمّى ما بَيْنَ وُجُودِ المَعْصِيَةِ وبَيْنَ حُضُورِ المَوْتِ زَمانًا قَرِيبًا، فَفي أيِّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ هَذا الزَّمانِ أتى بِالتَّوْبَةِ فَهو تائِبٌ مِن قَرِيبٍ، وإلّا فَهو تائِبٌ مِن بَعِيدٍ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ قالَ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: فَما فائِدَةُ قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ ؟
قُلْنا: فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ إعْلامٌ بِأنَّهُ يَجِبُ عَلى اللَّهِ قَبُولُها، وُجُوبَ الكَرَمِ والفَضْلِ والإحْسانِ، لا وُجُوبَ الِاسْتِحْقاقِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ إخْبارٌ بِأنَّهُ سَيَفْعَلُ ذَلِكَ.
والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ﴾ يَعْنِي إنَّما الهِدايَةُ إلى التَّوْبَةِ والإرْشادُ إلَيْها والإعانَةُ عَلَيْها عَلى اللَّهِ تَعالى في حَقِّ مَن أتى بِالذَّنْبِ عَلى سَبِيلِ الجَهالَةِ ثُمَّ تابَ عَنْها عَنْ قَرِيبٍ وتَرَكَ الإصْرارَ عَلَيْها وأتى بِالِاسْتِغْفارِ عَنْها. ثُمَّ قالَ: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ يَعْنِي أنَّ العَبْدَ الَّذِي هَذا شَأْنُهُ إذا أتى بِالتَّوْبَةِ قَبِلَها اللَّهُ مِنهُ، فالمُرادُ بِالأوَّلِ التَّوْفِيقُ عَلى التَّوْبَةِ، وبِالثّانِي قَبُولُ التَّوْبَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أيْ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا بِأنَّهُ إنَّما أتى بِتِلْكَ المَعْصِيَةِ لِاسْتِيلاءِ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ والجَهالَةِ عَلَيْهِ، حَكِيمًا بِأنَّ العَبْدَ لَمّا كانَ مِن صِفَتِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّهُ تابَ عَنْها مِن قَرِيبٍ فَإنَّهُ يَجِبُ في الكَرَمِ قَبُولُ تَوْبَتِهِ.
{"ayah":"إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِینَ یَعۡمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَـٰلَةࣲ ثُمَّ یَتُوبُونَ مِن قَرِیبࣲ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق