الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ويُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا وأعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذابًا مُهِينًا﴾ اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا تَكَلَّمَ عَلى طَرِيقَةِ المُنافِقِينَ عادَ يَتَكَلَّمُ عَلى مَذاهِبِ اليَهُودِ والنَّصارى ومُناقَضاتِهِمْ وذَكَرَ في آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ مِن هَذا الجِنْسِ أنْواعًا: النَّوْعُ الأوَّلُ: مِن أباطِيلِهِمْ: إيمانُهم بِبَعْضِ الأنْبِياءِ دُونَ البَعْضِ؛ فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ فَإنَّ اليَهُودَ آمَنُوا بِمُوسى والتَّوْراةِ وكَفَرُوا بِعِيسى والإنْجِيلِ، والنَّصارى آمَنُوا بِعِيسى والإنْجِيلِ وكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ ﴿ويُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ أيْ: يُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الإيمانِ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ﴿ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ أيْ: بَيْنَ الإيمانِ بِالكُلِّ وبَيْنَ الكُفْرِ بِالكُلِّ سَبِيلًا أيْ: واسِطَةً، وهي الإيمانُ بِالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ:(p-٧٤) المَسْألَةُ الأُولى: في خَبَرِ ”إنَّ“ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَحْذُوفٌ، كَأنَّهُ قِيلَ جَمَعُوا المَخازِيَ. والثّانِي: هو قَوْلُهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ والأوَّلُ أحْسَنُ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ أبْلَغُ لِأنَّهُ إذا حُذِفَ الجَوابُ ذَهَبَ الوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ مِنَ العَيْبِ، وإذا ذُكِرَ بَقِيَ مُقْتَصِرًا عَلى المَذْكُورِ. والثّانِي: أنَّهُ رَأْسُ الآيَةِ، والأحْسَنُ أنْ لا يَكُونَ الخَبَرُ مُنْفَصِلًا عَنِ المُبْتَدَأِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّهم إنَّما كانُوا كافِرِينَ حَقًّا لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي يَدُلُّ عَلى نُبُوَّةِ البَعْضِ لَيْسَ إلّا المُعْجِزَ، وإذا كانَ دَلِيلًا عَلى النُّبُوَّةِ لَزِمَ القَطْعُ بِأنَّهُ حَيْثُ حَصَلَ حَصَلَتِ النُّبُوَّةِ فَإنْ جَوَّزْنا في بَعْضِ المَواضِعِ حُصُولَ المُعْجِزِ بِدُونِ الصِّدْقِ تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلالُ بِهِ عَلى الصِّدْقِ، وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الكُفْرُ بِجَمِيعِ الأنْبِياءِ، فَثَبَتَ أنَّ مَن لَمْ يَقْبَلْ نُبُوَّةَ أحَدٍ مِنهم لَزِمَهُ الكُفْرُ بِجَمِيعِهِمْ. فَإنْ قِيلَ: هَبْ أنَّهُ يَلْزَمُهُمُ الكُفْرُ بِكُلِّ الأنْبِياءِ، ولَكِنْ لَيْسَ إذا تَوَجَّهَ بَعْضُ الإلْزاماتِ عَلى الإنْسانِ لَزِمَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ الإنْسانُ قائِلًا بِهِ، فَإلْزامُ الكُفْرِ غَيْرٌ، والتِزامُ الكُفْرِ غَيْرٌ، والقَوْمُ لَمّا لَمْ يَلْتَزِمُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يُقْضى عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ. قُلْنا: الإلْزامُ إذا كانَ خَفِيًّا بِحَيْثُ يُحْتاجُ فِيهِ إلى فِكْرٍ وتَأمُّلٍ كانَ الأمْرُ فِيهِ كَما ذَكَرْتُمْ، أمّا إذا كانَ جَلِيًّا واضِحًا لَمْ يَبْقَ بَيْنَ الإلْزامِ والِالتِزامِ فَرْقٌ. والثّانِي: وهو أنَّ قَبُولَ بَعْضِ الأنْبِياءِ إنْ كانَ لِأجْلِ الِانْقِيادِ لِطاعَةِ اللَّهِ تَعالى وحُكْمِهِ وجَبَ قَبُولُ الكُلِّ، وإنْ كانَ لِطَلَبِ الرِّياسَةِ كانَ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ كُفْرًا بِكُلِّ الأنْبِياءِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: في قَوْلِهِ (حَقًّا) وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ انْتَصَبَ عَلى مِثْلِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ أخُوكَ حَقًّا، والتَّقْدِيرُ: أخْبَرْتُكَ بِهَذا المَعْنى إخْبارًا حَقًّا. والثّانِي: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ كُفْرًا حَقًّا. طَعَنَ الواحِدِيُّ فِيهِ وقالَ: الكُفْرُ لا يَكُونُ حَقًّا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. والجَوابُ أنَّ المُرادَ بِهَذا الحَقِّ الكامِلُ، والمَعْنى أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ كُفْرًا كامِلًا ثابِتًا حَقًّا يَقِينًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب