الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها ولَهُ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ . (p-١٨٤)فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: أنَّهُ تَعالى بَعْدَ بَيانِ سِهامِ المَوارِيثِ ذَكَرَ الوَعْدَ والوَعِيدَ تَرْغِيبًا في الطّاعَةِ وتَرْهِيبًا عَنِ المَعْصِيَةِ فَقالَ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ﴾ وفِيهِ بَحْثانِ. البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿تِلْكَ﴾ إشارَةٌ إلى ماذا ؟ فِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ إشارَةٌ إلى أحْوالِ المَوارِيثِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ إشارَةٌ إلى كُلِّ ما ذَكَرَهُ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى هَهُنا مِن بَيانِ أمْوالِ الأيْتامِ وأحْكامِ الأنْكِحَةِ وأحْوالِ المَوارِيثِ وهو قَوْلُ الأصَمِّ. حُجَّةُ القَوْلِ الأوَّلِ أنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ، وحُجَّةُ القَوْلِ الثّانِي أنَّ عَوْدَهُ إلى الأقْرَبِ إذا لَمْ يَمْنَعْ مِن عَوْدِهِ إلى الأبْعَدِ مانِعٌ يُوجِبُ عَوْدَهُ إلى الكُلِّ. البَحْثُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِحُدُودِ اللَّهِ المُقَدَّراتُ الَّتِي ذَكَرَها وبَيَّنَها، وحَدُّ الشَّيْءِ طَرَفُهُ الَّذِي يَمْتازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، ومِنهُ حُدُودُ الدّارِ، والقَوْلُ الدّالُّ عَلى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ يُسَمّى حَدًّا لَهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ القَوْلَ يَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ، وغَيْرُهُ هو كُلُّ ما سِواهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ بَعْضُهم: قَوْلُهُ: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ مُخْتَصٌّ بِمَن أطاعَ أوْ عَصى في هَذِهِ التَّكالِيفِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ، وقالَ المُحَقِّقُونَ: بَلْ هو عامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ هَذا وغَيْرُهُ، وذَلِكَ لِأنَّ اللَّفْظَ عامٌّ فَوَجَبَ أنْ يَتَناوَلَ الكُلَّ. أقْصى ما في البابِ أنَّ هَذا العامَّ إنَّما ذُكِرَ عَقِيبَ تَكالِيفَ خاصَّةٍ، إلّا أنَّ هَذا القَدْرَ لا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ العُمُومِ، ألا تَرى أنَّ الوالِدَ قَدْ يُقْبِلُ عَلى ولَدِهِ ويُوَبِّخُهُ في أمْرٍ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ يَقُولُ: احْذَرْ مُخالَفَتِي ومَعْصِيَتِي ويَكُونُ مَقْصُودُهُ مَنعَهُ مِن مَعْصِيَتِهِ في جَمِيعِ الأُمُورِ، فَكَذا هَهُنا. واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: (نُدْخِلْهُ جَنّاتٍ. نُدْخِلْهُ نارًا) بِالنُّونِ في الحَرْفَيْنِ، والباقُونَ بِالياءِ. أمّا الأوَّلُ: فَعَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿سَنُلْقِي﴾ بِالنُّونِ. وأمّا الثّانِي: فَوَجْهُهُ ظاهِرٌ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: هَهُنا سُؤالٌ وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ﴾ إنَّما يَلِيقُ بِالواحِدِ، ثُمَّ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ إنَّما يَلِيقُ بِالجَمْعِ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُما ؟ الجَوابُ: أنَّ كَلِمَةَ (مَن) في قَوْلِهِ: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ﴾ مُفْرَدٌ في اللَّفْظِ جَمْعٌ في المَعْنى، فَلِهَذا صَحَّ الوَجْهانِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: انْتَصَبَ ”خالِدِينَ“ ”وخالِدًا“ عَلى الحالِ مِنَ الهاءِ في ”نُدْخِلْهُ“ والتَّقْدِيرُ: نُدْخِلْهُ خالِدًا في النّارِ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ فُسّاقَ أهْلِ الصَّلاةِ يَبْقَوْنَ مُخَلَّدِينَ في النّارِ. وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ إمّا أنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِمَن تَعَدّى في الحُدُودِ الَّتِي (p-١٨٥)سَبَقَ ذِكْرُها وهي حُدُودُ المَوارِيثِ، أوْ يَدْخُلُ فِيها ذَلِكَ وغَيْرُهُ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ يَلْزَمُ دُخُولُ مَن تَعَدّى في المَوارِيثِ في هَذا الوَعِيدِ، وذَلِكَ عامٌّ فِيمَن تَعَدّى وهو مِن أهْلِ الصَّلاةِ أوْ لَيْسَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى القَطْعِ بِالوَعِيدِ، وعَلى أنَّ الوَعِيدَ مُخَلِّدٌ، ولا يُقالُ: هَذا الوَعِيدُ مُخْتَصٌّ بِمَن تَعَدّى حُدُودَ اللَّهِ، وذَلِكَ لا يَتَحَقَّقُ إلّا في حَقِّ الكافِرِ، فَإنَّهُ هو الَّذِي تَعَدّى جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ، فَإنّا نَقُولُ: هَذا مَدْفُوعٌ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنّا لَوْ حَمَلْنا هَذِهِ الآيَةَ عَلى تَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ خَرَجَتِ الآيَةُ عَنِ الفائِدَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى نَهى عَنِ اليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ والمَجُوسِيَّةِ، فَتَعَدِّي جَمِيعِ حُدُودِهِ هو أنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ هَذِهِ النَّواهِي، وتَرْكُها إنَّما يَكُونُ بِأنْ يَأْتِيَ اليَهُودِيَّةَ والمَجُوسِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ مَعًا، وذَلِكَ مُحالٌ، فَثَبَتَ أنَّ تَعَدِّيَ جَمِيعِ حُدُودِ اللَّهِ مُحالٌ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ ذَلِكَ لَخَرَجَتِ الآيَةُ عَنْ كَوْنِها مُفِيدَةً، فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ مِنهُ أيُّ حَدٍّ كانَ مِن حُدُودِ اللَّهِ. الثّانِي: هو أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَذْكُورَةٌ عَقِيبَ آياتِ قِسْمَةِ المَوارِيثِ، فَيَكُونُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ في الأُمُورِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآياتِ. وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ هَذا السُّؤالُ. هَذا مُنْتَهى تَقْرِيرِ المُعْتَزِلَةِ، وقَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقْصاءِ في سُورَةِ البَقَرَةِ. ولا بَأْسَ بِأنْ نُعِيدَ طَرَفًا مِنها في هَذا المَوْضِعِ فَنَقُولَ: أجْمَعْنا عَلى أنَّ هَذا الوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ؛ لِأنَّ الدَّلِيلَ دَلَّ عَلى أنَّهُ إذا حَصَلَتِ التَّوْبَةُ لَمْ يَبْقَ هَذا الوَعِيدُ، فَكَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ العَفْوِ، فَإنَّ بِتَقْدِيرِ قِيامِ الدَّلالَةِ عَلى حُصُولِ العَفْوِ امْتَنَعَ بَقاءُ هَذا الوَعِيدِ عِنْدَ حُصُولِ العَفْوِ، ونَحْنُ قَدْ ذَكَرْنا الدَّلائِلَ الكَثِيرَةَ عَلى حُصُولِ العَفْوِ، ثُمَّ نَقُولُ: هَذا العُمُومُ مَخْصُوصٌ بِالكافِرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنّا إذا قُلْنا لَكم: ما الدَّلِيلُ عَلى أنَّ كَلِمَةَ (مَن) في مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ العُمُومَ ؟ قُلْتُمْ: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْناءُ مِنهُ، والِاسْتِثْناءُ يُخْرِجُ مِنَ الكَلامِ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ فِيهِ، فَنَقُولُ: إنْ صَحَّ هَذا الدَّلِيلُ فَهو يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ مُخْتَصٌّ بِالكافِرِ: لِأنَّ جَمِيعَ المَعاصِي يَصِحُّ اسْتِثْناؤُها مِن هَذا اللَّفْظِ فَيُقالُ: ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ إلّا في الكُفْرِ، وإلّا في الفِسْقِ، وحُكْمُ الِاسْتِثْناءِ إخْراجُ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ﴾ في جَمِيعِ أنْواعِ المَعاصِي والقَبائِحِ، وذَلِكَ لا يَتَحَقَّقُ إلّا في حَقِّ الكافِرِ، وقَوْلُهُ: الإتْيانُ بِجَمِيعِ المَعاصِي مُحالٌ؛ لِأنَّ الإتْيانَ بِاليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ مَعًا مُحالٌ، فَنَقُولُ: ظاهِرُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي العُمُومَ إلّا إذا قامَ مُخَصِّصٌ عَقْلِيٌّ أوْ شَرْعِيٌّ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ سُؤالُهم ويَقْوى ما ذَكَرْناهُ. الوَجْهُ الثّانِي في بَيانِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالكافِرِ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ يُفِيدُ كَوْنَهُ فاعِلًا لِلْمَعْصِيَةِ والذَّنْبِ، وقَوْلُهُ: ﴿ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ لَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ عَيْنَ ذَلِكَ لَلَزِمَ التَّكْرارُ، وهو خِلافُ الأصْلِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى الكُفْرِ، وقَوْلُهُ: بِأنّا نَحْمِلُ هَذِهِ الآيَةَ عَلى تَعَدِّي الحُدُودِ المَذْكُورَةِ في المَوارِيثِ. قُلْنا: هَبْ أنَّهُ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ يَسْقُطُ ما ذَكَرْناهُ مِنَ السُّؤالِ بِهَذا الكَلامِ؛ لِأنَّ التَّعَدِّيَ في حُدُودِ المَوارِيثِ تارَةً يَكُونُ بِأنْ يَعْتَقِدَ أنَّ تِلْكَ التَّكالِيفَ والأحْكامَ حَقٌّ وواجِبَةُ القَبُولِ إلّا أنَّهُ يَتْرُكُها، وتارَةً يَكُونُ بِأنْ يَعْتَقِدَ أنَّها واقِعَةٌ لا عَلى وجْهِ الحِكْمَةِ والصَّوابِ، فَيَكُونُ هَذا هو الغايَةَ في تَعَدِّي الحُدُودِ، وأمّا الأوَّلُ فَلا يَكادُ يُطْلَقُ في حَقِّهِ أنَّهُ تَعَدّى حُدُودَ اللَّهِ، وإلّا لَزِمَ وُقُوعُ التَّكْرارِ كَما ذَكَرْناهُ، فَعَلِمْنا أنَّ هَذا الوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِالكافِرِ الَّذِي لا يَرْضى بِما ذَكَرَهُ اللَّهُ في هَذِهِ الآيَةِ مِن قِسْمَةِ المَوارِيثِ، فَهَذا ما يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الآيَةِ مِنَ المَباحِثِ، وأمّا بَقِيَّةُ الأسْئِلَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها في سُورَةِ البَقَرَةِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب