الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهم ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ . فِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالإيمانِ، ورَغَّبَ فِيهِ بَيَّنَ فَسادَ طَرِيقَةِ مَن يَكْفُرُ بَعْدَ الإيمانِ، فَذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ. واعْلَمْ أنَّ فِيها أقْوالًا كَثِيرَةً: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ الَّذِينَ يَتَكَرَّرُ مِنهُمُ الكُفْرُ بَعْدَ الإيمانِ مَرّاتٍ وكَرّاتٍ، فَإنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا وقْعَ لِلْإيمانِ في قُلُوبِهِمْ، إذْ لَوْ كانَ لِلْإيمانِ وقْعٌ ورُتْبَةٌ في قُلُوبِهِمْ لَما تَرَكُوهُ بِأدْنى سَبَبٍ، ومَن لا يَكُونُ لِلْإيمانُ في قَلْبِهِ وقْعٌ فالظّاهِرُ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانًا صَحِيحًا مُعْتَبَرًا؛ فَهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾، ولَيْسَ المُرادُ أنَّهُ لَوْ أتى بِالإيمانِ الصَّحِيحِ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا، بَلِ المُرادُ مِنهُ الِاسْتِبْعادُ والِاسْتِغْرابُ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ، وكَذَلِكَ نَرى الفاسِقَ الَّذِي يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ، ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يَرْجِعُ فَإنَّهُ لا يَكادُ يُرْجى مِنهُ الثَّباتُ، والغالِبُ أنَّهُ يَمُوتُ عَلى الفِسْقِ، فَكَذا هَهُنا. الثّانِي: قالَ بَعْضُهم: اليَهُودُ آمَنُوا بِالتَّوْراةِ وبِمُوسى، ثُمَّ كَفَرُوا بِعُزَيْرٍ، ثُمَّ آمَنُوا بِداوُدَ، ثُمَّ كَفَرُوا بِعِيسى، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا عِنْدَ مَقْدَمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. الثّالِثُ: قالَ آخَرُونَ: المُرادُ المُنافِقُونَ، فالإيمانُ الأوَّلُ إظْهارُهُمُ الإسْلامَ، وكُفْرُهم بَعْدَ ذَلِكَ هو نِفاقُهم، وكَوْنُ باطِنِهِمْ عَلى خِلافِ ظاهِرِهِمْ، والإيمانُ الثّانِي: هو أنَّهم كُلَّما لَقُوا جَمْعًا مِنَ المُسْلِمِينَ قالُوا: إنّا مُؤْمِنُونَ، والكَفْرُ الثّانِي: هو أنَّهم إذا دَخَلُوا عَلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ، وازْدِيادُهم في الكُفْرِ هو جِدُّهم واجْتِهادُهم في اسْتِخْراجِ أنْواعِ المَكْرِ والكَيْدِ في حَقِّ المُسْلِمِينَ، وإظْهارُ الإيمانِ قَدْ يُسَمّى إيمانًا قالَ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٢١] . قالَ القَفّالُ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: ولَيْسَ المُرادُ بَيانَ هَذا العَدَدِ، بَلِ المُرادُ تَرَدُّدُهم كَما قالَ: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إلى هَؤُلاءِ ولا إلى هَؤُلاءِ﴾ [النِّساءِ: ١٤٣] . قالَ: والَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ . الرّابِعُ: قالَ قَوْمٌ: المُرادُ طائِفَةٌ مِن أهْلِ الكِتابِ قَصَدُوا تَشْكِيكَ المُسْلِمِينَ، فَكانُوا يُظْهِرُونَ الإيمانَ تارَةً، والكُفْرَ أُخْرى عَلى ما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وجْهَ النَّهارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٧٢]، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ ازْدادُوا كُفْرًا﴾ مَعْناهُ: أنَّهم بَلَغُوا في ذَلِكَ إلى حَدِّ الِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ بِالإسْلامِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الكُفْرُ بَعْدَ الإيمانِ وهَذا يُبْطِلُ مَذْهَبَ القائِلِينَ بِالمُوافاةِ، وهي أنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الإسْلامِ أنْ يَمُوتَ عَلى الإسْلامِ، وهم يُجِيبُونَ عَنْ ذَلِكَ: بِأنّا نَحْمِلُ الإيمانَ عَلى إظْهارِ الإيمانِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى أنَّ الكُفْرَ يَقْبَلُ الزِّيادَةَ والنُّقْصانَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الإيمانُ أيْضًا كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُما ضِدّانِ مُتَنافِيانِ، فَإذا قَبِلَ أحَدُهُما التَّفاوُتَ فَكَذَلِكَ الآخَرُ، وذَكَرُوا في تَفْسِيرِ هَذِهِ الزِّيادَةِ وُجُوهًا: (p-٦٣)الأوَّلُ: أنَّهم ماتُوا عَلى كُفْرِهِمْ. الثّانِي: أنَّهُمُ ازْدادُوا كُفْرًا بِسَبَبِ ذُنُوبٍ أصابُوها حالَ كُفْرِهِمْ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَمّا كانَتْ إصابَةُ الذُّنُوبِ وقْتَ الكُفْرِ زِيادَةً في الكُفْرِ، فَكَذَلِكَ إصابَةُ الطّاعاتِ وقْتَ الإيمانِ يَجِبُ أنْ تَكُونَ زِيادَةً في الإيمانِ. الثّالِثُ: أنَّ الزِّيادَةَ في الكُفْرِ إنَّما حَصَلَتْ بِقَوْلِهِمْ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٤]؛ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْتِهْزاءَ بِالدِّينِ أعْظَمُ دَرَجاتِ الكُفْرِ وأقْوى مَراتِبِهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾، وفِيهِ سُؤالانِ: الأوَّلُ: أنَّ الحُكْمَ المَذْكُورَ في هَذِهِ الآيَةِ إمّا أنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِما قَبْلَ التَّوْبَةِ أوْ بِما بَعْدَها. والأوَّلُ باطِلٌ؛ لِأنَّ الكُفْرَ قَبْلَ التَّوْبَةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ عَلى الإطْلاقِ، وحِينَئِذٍ تَضِيعُ هَذِهِ الشَّرائِطُ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ الآيَةِ، والثّانِي أيْضًا باطِلٌ؛ لِأنَّ الكُفْرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ بَعْدَ ألْفِ مَرَّةٍ، فَعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ فالسُّؤالُ لازِمٌ. والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنّا لا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: (إنَّ الَّذِينَ) عَلى الِاسْتِغْراقِ، بَلْ نَحْمِلُهُ عَلى المَعْهُودِ السّابِقِ، والمُرادُ بِهِ أقْوامٌ مُعَيَّنُونَ عَلِمَ اللَّهُ تَعالى مِنهم أنَّهم يَمُوتُونَ عَلى الكُفْرِ، ولا يَتُوبُونَ عَنْهُ قَطُّ، فَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إخْبارٌ عَنْ مَوْتِهِمْ عَلى الكُفْرِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ زالَ السُّؤالُ. الثّانِي: أنَّ الكَلامَ خَرَجَ عَلى الغالِبِ المُعْتادِ، وهو أنَّ كُلَّ مَن كانَ كَثِيرَ الِانْتِقالِ مِنَ الإسْلامِ إلى الكُفْرِ لَمْ يَكُنْ لِلْإسْلامِ في قَلْبِهِ وقْعٌ ولا عِظَمٌ، والظّاهِرُ مِن حالِ مِثْلِ هَذا الإنْسانِ أنَّهُ يَمُوتُ عَلى الكُفْرِ عَلى ما قَرَّرْناهُ. الثّالِثُ: أنَّ الحُكْمَ المَذْكُورَ في الآيَةِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ عَنِ الكُفْرِ، وقَوْلُ السّائِلِ: إنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَضِيعُ الصِّفاتُ المَذْكُورَةُ. قُلْنا: إنَّ إفْرادَهم بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلى أنَّ كُفْرَهم أفْحَشُ، وخِيانَتَهم أعْظَمُ وعُقُوبَتَهم في القِيامَةِ أقْوى فَجَرى هَذا مَجْرى قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ﴾ [الأحْزابِ: ٧] . خَصَّهُما بِالذِّكْرِ لِأجْلِ التَّشْرِيفِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٨] . السُّؤالُ الثّانِي: في قَوْلِهِ: ﴿لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ اللّامُ لِلتَّأْكِيدِ فَقَوْلُهُ: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ يُفِيدُ نَفْيَ التَّأْكِيدِ، وهَذا غَيْرُ لائِقٍ بِهَذا المَوْضِعِ إنَّما اللّائِقُ بِهِ تَأْكِيدُ النَّفْيِ، فَما الوَجْهُ فِيهِ ؟ . والجَوابُ: أنَّ نَفْيَ التَّأْكِيدِ إذا ذُكِرَ عَلى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ كانَ المُرادُ مِنهُ المُبالَغَةَ في تَأْكِيدِ النَّفْيِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا لِيَهْدِيَهم سَبِيلًا﴾ قالَ أصْحابُنا: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَمْ يَهْدِ الكافِرَ إلى الإيمانِ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وهم أجابُوا عَنْهُ بِأنَّهُ مَحْمُولٌ عَلى المَنعِ مِن زِيادَةِ اللُّطْفِ، أوْ عَلى أنَّهُ تَعالى لا يَهْدِيهِ في الآخِرَةِ إلى الجَنَّةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ . واعْلَمْ أنَّ مَن حَمَلَ الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ عَلى المُنافِقِينَ، قالَ: إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لَهم كُفْرَهم ولا يَهْدِيهِمْ إلى الجَنَّةِ، ثُمَّ قالَ: وكَما لا يُوصِلُهم إلى دارِ الثَّوابِ فَإنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يُوصِلُهم إلى أعْظَمِ أنْواعِ العِقابِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿بَشِّرِ المُنافِقِينَ بِأنَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾، وقَوْلُهُ: (بَشِّرِ) تَهَكُّمٌ بِهِمْ، والعَرَبُ تَقُولُ: تَحِيَّتُكَ الضَّرْبُ، وعِتابُكَ السَّيْفُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب