الباحث القرآني

(p-٦٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ ومَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في اتِّصالِ هَذِهِ الآيَةِ بِما قَبْلَها وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّها مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ﴾؛ وذَلِكَ لِأنَّ الإنْسانَ لا يَكُونُ قائِمًا بِالقِسْطِ إلّا إذا كانَ راسِخَ القَدَمِ في الإيمانِ بِالأشْياءِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ. وثانِيهِما: أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ الأحْكامَ الكَثِيرَةَ في هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ عَقِيبَها آيَةَ الأمْرِ بِالإيمانِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّهُ أمْرٌ بِتَحْصِيلِ الحاصِلِ، ولا شَكَّ أنَّهُ مُحالٌ؛ فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ فِيهِ وُجُوهًا وهي مُنْحَصِرَةٌ في قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ المُسْلِمُونَ، ثُمَّ في تَفْسِيرِ الآيَةِ تَفْرِيعًا عَلى هَذا القَوْلِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ مِنهُ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا دُومُوا عَلى الإيمانِ واثْبُتُوا عَلَيْهِ، وحاصِلُهُ يَرْجِعُ إلى هَذا المَعْنى: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا في الماضِي والحاضِرِ، آمِنُوا في المُسْتَقْبَلِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿فاعْلَمْ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ﴾ [مُحَمَّدٍ: ١٩ ]، مَعَ أنَّهُ كانَ عالِمًا بِذَلِكَ. وثانِيها: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ آمِنُوا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِدْلالِ. وثالِثُها: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِحَسَبِ الِاسْتِدْلالاتِ الجَمِيلَةِ آمِنُوا بِحَسَبِ الدَّلائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ. ورابِعُها: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِالدَّلائِلِ التَّفْصِيلِيَّةِ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ آمِنُوا بِأنَّ كُنْهَ عَظَمَةِ اللَّهِ لا تَنْتَهِي إلَيْهِ عُقُولُكم، وكَذَلِكَ أحْوالُ المَلائِكَةِ وأسْرارُ الكُتُبِ وصِفاتُ الرُّسُلِ لا تَنْتَهِي إلَيْها عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ عُقُولُنا. وخامِسُها: «رُوِيَ أنَّ جَماعَةً مِن أحْبارِ اليَهُودِ جاءُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ وقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنّا نُؤْمِنُ بِكَ وبِكِتابِكَ وبِمُوسى والتَّوْراةِ وعُزَيْرٍ، ونَكْفُرُ بِما سِواهُ مِنَ الكُتُبِ والرُّسُلِ، فَقالَ ﷺ: بَلْ آمِنُوا بِاللَّهِ وبِرُسُلِهِ وبِمُحَمَّدٍ وبِكِتابِهِ القُرْآنِ، وبِكُلِّ كِتابٍ كانَ قَبْلَهُ، فَقالُوا: لا نَفْعَلُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَكُلُّهم آمَنُوا» . القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: (آمِنُوا) لَيْسَ هُمُ المُسْلِمُونَ، وفي تَفْسِيرِ الآيَةِ تَفْرِيعًا عَلى هَذا القَوْلِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ الخِطابَ مَعَ اليَهُودِ والنَّصارى، والتَّقْدِيرُ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسى والتَّوْراةِ، وعِيسى والإنْجِيلِ آمِنُوا بِمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ. وثانِيها: أنَّ الخِطابَ مَعَ المُنافِقِينَ، والتَّقْدِيرُ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِاللِّسانِ آمِنُوا بِالقَلْبِ، ويَتَأكَّدُ هَذا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأفْواهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ [المائِدَةِ: ٤١] . وثالِثُها: أنَّهُ خِطابٌ مَعَ الَّذِينَ آمَنُوا وجْهَ النَّهارِ وكَفَرُوا آخِرَهُ، والتَّقْدِيرُ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا وجْهَ النَّهارِ آمِنُوا أيْضًا آخِرَهُ. ورابِعُها: أنَّهُ خِطابٌ لِلْمُشْرِكِينَ تَقْدِيرُهُ: يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّاتِ والعُزّى آمِنُوا بِاللَّهِ، وأكْثَرُ العُلَماءِ رَجَّحُوا القَوْلَ الأوَّلَ؛ لِأنَّ لَفْظَ المُؤْمِنِ لا يَتَناوَلُ عِنْدَ الإطْلاقِ إلّا المُسْلِمِينَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو: ”والكِتابِ الَّذِي نُزِّلَ عَلى رَسُولِهِ والكِتابِ الَّذِي أُنْزِلَ“ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، والباقُونَ: ”نَزَّلَ وأنْزَلَ“ بِالفَتْحِ، فَمَن ضَمَّ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ﴾ [الأنْعامِ: ١١٤]، ومَن فَتَحَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا الذِّكْرَ﴾ [الحجر: ٩]، وقَوْلُهُ: ﴿وأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ [النحل: ٤٤]، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: كِلاهُما حَسَنٌ إلّا أنَّ الضَّمَّ أفْخَمُ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وقِيلَ ياأرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ﴾ [هُودٍ: ٤٤] . * * * (p-٦١)المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّهُ أمَرَ في هَذِهِ الآيَةِ بِالإيمانِ بِأرْبَعَةِ أشْياءَ: أوَّلُها: بِاللَّهِ. وثانِيها: بِرَسُولِهِ. وثالِثُها: بِالكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ. ورابِعُها: بِالكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ. وذَكَرَ في الكُفْرِ أُمُورًا خَمْسَةً: فَأوَّلُها: الكُفْرُ بِاللَّهِ. وثانِيها: الكُفْرُ بِمَلائِكَتِهِ. وثالِثُها: الكُفْرُ بِكُتُبِهِ. ورابِعُها: الكُفْرُ بِرُسُلِهِ. وخامِسُها: الكُفْرُ بِاليَوْمِ الآخِرِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأوَّلُ: لِمَ قَدَّمَ في مَراتِبِ الإيمانِ ذِكْرَ الرَّسُولِ عَلى ذِكْرِ الكِتابِ، وفي مَراتِبِ الكُفْرِ قَلَبَ القَضِيَّةَ ؟ . الجَوابُ: لِأنَّ في مَرْتَبَةِ النُّزُولِ مِن مَعْرِفَةِ الخالِقِ إلى الخَلْقِ كانَ الكِتابُ مُقَدَّمًا عَلى الرَّسُولِ، وفي مَرْتَبَةِ العُرُوجِ مِنَ الخَلْقِ إلى الخالِقِ يَكُونُ الرَّسُولُ مُقَدَّمًا عَلى الكِتابِ. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ ذَكَرَ في مَراتِبِ الإيمانِ أُمُورًا ثَلاثَةً: الإيمانَ بِاللَّهِ، وبِالرَّسُولِ، وبِالكُتُبِ، وذَكَرَ في مَراتِبِ الكُفْرِ أُمُورًا خَمْسَةً: الكُفْرَ بِاللَّهِ، وبِالمَلائِكَةِ، وبِالكُتُبِ، وبِالرُّسُلِ، وبِاليَوْمِ الآخِرِ ؟ . والجَوابُ: أنَّ الإيمانَ بِاللَّهِ وبِالرُّسُلِ وبِالكُتُبِ مَتى حَصَلَ فَقَدْ حَصَلَ الإيمانُ بِالمَلائِكَةِ واليَوْمِ الآخِرِ لا مَحالَةَ، إذْ رُبَّما ادَّعى الإنْسانُ أنَّهُ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبِالرُّسُلِ وبِالكُتُبِ، ثُمَّ إنَّهُ يُنْكِرُ المَلائِكَةَ ويُنْكِرُ اليَوْمَ الآخِرَ، ويَزْعُمُ أنَّهُ يَجْعَلُ الآياتِ الوارِدَةَ في المَلائِكَةِ وفي اليَوْمِ الآخِرِ مَحْمُولَةً عَلى التَّأْوِيلِ، فَلَمّا كانَ هَذا الِاحْتِمالُ قائِمًا لا جَرَمَ نَصَّ أنَّ مُنْكِرَ المَلائِكَةِ ومُنْكِرَ القِيامَةِ كافِرٌ بِاللَّهِ. السُّؤالُ الثّالِثُ: كَيْفَ قِيلَ لِأهْلِ الكُتُبِ: ﴿والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ﴾، مَعَ أنَّهم ما كانُوا كافِرِينَ بِالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ بَلْ مُؤْمِنِينَ بِهِما ؟ . والجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهم كانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِما فَقَطْ، وما كانُوا مُؤْمِنِينَ بِكُلِّ ما أُنْزِلَ مِنَ الكُتُبِ، فَأُمِرُوا أنْ يُؤْمِنُوا بِكُلِّ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ. الثّانِي: أنَّ إيمانَهم بِبَعْضِ الكُتُبِ دُونَ البَعْضِ لا يَصِحُّ؛ لِأنَّ طَرِيقَ الإيمانِ هو المُعْجِزَةُ، فَإذا كانَتِ المُعْجِزَةُ حاصِلَةً في الكُلِّ كانَ تَرْكُ الإيمانِ بِالبَعْضِ طَعْنًا في المُعْجِزَةِ، وإذا حَصَلَ الطَّعْنُ في المُعْجِزَةِ امْتَنَعَ التَّصْدِيقُ بِشَيْءٍ مِنها، وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ ونَكْفُرُ بِبَعْضٍ ويُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ حَقًّا﴾ [النِّساءِ: ١٥٠ ] . السُّؤالُ الرّابِعُ: لِمَ قالَ: ”نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وأنْزَلَ مِن قَبْلُ“ ؟ . والجَوابُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ مُفَرَّقًا مُنَجَّمًا في عِشْرِينَ سَنَةً، بِخِلافِ الكُتُبِ قَبْلَهُ. وأقُولُ: الكَلامُ في هَذا سَبَقَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وأنْزَلَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ ﴿مِن قَبْلُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٣، ٤ ] . السُّؤالُ الخامِسُ: قَوْلُهُ: ﴿والكِتابِ الَّذِي أنْزَلَ مِن قَبْلُ﴾ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وأيُّ الكُتُبِ هو المُرادُ مِنهُ ؟ . الجَوابُ: أنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَصْلُحُ لِلْعُمُومِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب