الباحث القرآني
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ:
الأوَّلُ: لَنْ تَقْدِرُوا عَلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ في مَيْلِ الطِّباعِ، وإذا لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِ لَمْ تَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِهِ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ تَكْلِيفَ ما لا يُطاقُ غَيْرُ واقِعٍ ولا جائِزِ الوُقُوعِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الإشْكالَ لازِمٌ عَلَيْهِمْ في العِلْمِ وفي الدَّواعِي.
الثّانِي: لا تَسْتَطِيعُونَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُنَّ في الأقْوالِ والأفْعالِ؛ لِأنَّ التَّفاوُتَ في الحُبِّ يُوجِبُ التَّفاوُتَ في نَتائِجِ الحُبِّ؛ لِأنَّ الفِعْلَ بِدُونِ الدّاعِي، ومَعَ قِيامِ الصّارِفِ مُحالٌ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ﴾ والمَعْنى: أنَّكم لَسْتُمْ مَنهِيِّينَ عَنْ حُصُولِ التَّفاوُتِ في المَيْلِ القَلْبِيِّ؛ لِأنَّ ذَلِكَ خارِجٌ عَنْ وُسْعِكم، ولَكِنَّكم مَنهِيُّونَ عَنْ إظْهارِ ذَلِكَ التَّفاوُتِ في القَوْلِ والفِعْلِ. رَوى الشّافِعِيُّ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ - «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ كانَ يَقْسِمُ، ويَقُولُ: ”هَذا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ وأنْتَ أعْلَمُ بِما لا أمْلِكُ“» .
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَتَذَرُوها كالمُعَلَّقَةِ﴾ يَعْنِي: تَبْقى لا أيِّمًا ولا ذاتَ بَعْلٍ، كَما أنَّ الشَّيْءَ المُعَلَّقَ لا يَكُونُ عَلى الأرْضِ ولا عَلى السَّماءِ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: فَتَذَرُوها كالمَسْجُونَةِ، وفي الحَدِيثِ: «”مَن كانَتْ لَهُ امْرَأتانِ يَمِيلُ مَعَ إحْداهُما جاءَ يَوْمَ القِيامَةِ وأحَدُ شِقَّيْهِ مائِلٌ“» .
«ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعَثَ إلى أزْواجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمالٍ فَقالَتْ عائِشَةُ: إلى كُلِّ أزْواجِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ عُمَرُ بِمِثْلِ هَذا ؟ فَقالُوا: لا، بَعَثَ إلى القُرَشِيّاتِ بِمِثْلِ هَذا، وإلى غَيْرِهِنَّ بِغَيْرِهِ، فَقالَتْ لِلرَّسُولِ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وقُلْ لِعُمَرَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَعْدِلُ بَيْنَنا قِي القِسْمَةِ بِمالِهِ ونَفْسِهِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ فَأخْبَرَهُ فَأتَمَّ لَهُنَّ جَمِيعًا» .
(p-٥٥)ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ تُصْلِحُوا﴾ بِالعَدْلِ في القَسْمِ (وتَتَّقُوا) الجَوْرَ ﴿فَإنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾؛ ما حَصَلَ في القَلْبِ مِنَ المَيْلِ إلى بَعْضِهِنَّ دُونَ البَعْضِ.
وقِيلَ: المَعْنى: وإنْ تُصْلِحُوا ما مَضى مِن مَيْلِكم وتَتَدارَكُوهُ بِالتَّوْبَةِ، وتَتَّقُوا في المُسْتَقْبَلِ عَنْ مِثْلِهِ غَفَرَ اللَّهُ لَكم ذَلِكَ، وهَذا الوَجْهُ أوْلى؛ لِأنَّ التَّفاوُتَ في المَيْلِ القَلْبِيِّ لَمّا كانَ خارِجًا عَنِ الوُسْعِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حاجَةٌ إلى المَغْفِرَةِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وإنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ﴾ .
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ جَوازَ الصُّلْحِ إنْ أرادا ذَلِكَ، فَإنْ رَغِبا في المُفارَقَةِ فاللَّهُ سُبْحانَهُ بَيَّنَ جَوازَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ أيْضًا، ووَعَدَ لَهُما أنْ يُغْنِيَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما عَنْ صاحِبِهِ بَعْدَ الطَّلاقِ، أوْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهُ يُغْنِي كُلَّ واحِدٍ مِنهُما بِزَوْجٍ خَيْرٍ مِن زَوْجِهِ الأوَّلِ، ويَعِيشُ أهْنَأ مِن عَيْشِهِ الأوَّلِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿وكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكِيمًا﴾ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لَمّا وعَدَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما بِأنَّهُ يُغْنِيهِ مِن سَعَتِهِ وصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ واسِعًا، وإنَّما جازَ وصْفُ اللَّهِ تَعالى بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُ تَعالى واسِعُ الرِّزْقِ، واسِعُ الفَضْلِ، واسِعُ الرَّحْمَةِ، واسِعُ القُدْرَةِ، واسِعُ العِلْمِ، فَلَوْ ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ واسِعٌ في كَذا لاخْتَصَّ ذَلِكَ بِذَلِكَ المَذْكُورِ، ولَكِنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الواسِعَ وما أضافَهُ إلى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ دَلَّ عَلى أنَّهُ واسِعٌ في جَمِيعِ الكَمالاتِ، وتَحْقِيقُهُ في العَقْلِ أنَّ المَوْجُودَ إمّا واجِبٌ لِذاتِهِ، وإمّا مُمْكِنٌ لِذاتِهِ، والواجِبُ لِذاتِهِ واحِدٌ وهو اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، وما سِواهُ مُمْكِنٌ لِذاتِهِ لا يُوجَدُ إلّا بِإيجادِ اللَّهِ الواجِبِ لِذاتِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ كُلُّ ما سِواهُ مِنَ المَوْجُوداتِ فَإنَّما يُوجَدُ بِإيجادِهِ وتَكْوِينِهِ، فَلَزِمَ مِن هَذا كَوْنُهُ واسِعَ العِلْمِ والقُدْرَةِ والحِكْمَةِ، والرَّحْمَةِ، والفَضْلِ والجُودِ، والكَرَمِ. وقَوْلُهُ: (حَكِيمًا) قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ فِيما حَكَمَ ووَعَظَ وقالَ الكَلْبِيُّ: يُرِيدُ فِيما حَكَمَ عَلى الزَّوْجِ مِن إمْساكِها بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٍ بِإحْسانٍ.
{"ayahs_start":129,"ayahs":["وَلَن تَسۡتَطِیعُوۤا۟ أَن تَعۡدِلُوا۟ بَیۡنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَلَوۡ حَرَصۡتُمۡۖ فَلَا تَمِیلُوا۟ كُلَّ ٱلۡمَیۡلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلۡمُعَلَّقَةِۚ وَإِن تُصۡلِحُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","وَإِن یَتَفَرَّقَا یُغۡنِ ٱللَّهُ كُلࣰّا مِّن سَعَتِهِۦۚ وَكَانَ ٱللَّهُ وَ ٰسِعًا حَكِیمࣰا","وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّیۡنَا ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِیَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُوا۟ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِیًّا حَمِیدࣰا"],"ayah":"وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۗ وَلَقَدۡ وَصَّیۡنَا ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِیَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ وَإِن تَكۡفُرُوا۟ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِیًّا حَمِیدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق