الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَسْتَفْتُونَكَ في النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم فِيهِنَّ وما يُتْلى عَلَيْكم في الكِتابِ في يَتامى النِّساءِ اللّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدانِ وأنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالقِسْطِ وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ . اعْلَمْ أنَّ عادَةَ اللَّهِ في تَرْتِيبِ هَذا الكِتابِ الكَرِيمِ وقَعَ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ، وهو أنَّهُ يَذْكُرُ شَيْئًا مِنَ الأحْكامِ، ثُمَّ يَذْكُرُ عَقِيبَهُ آياتٍ كَثِيرَةً في الوَعْدِ والتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، ويَخْلِطُ بِها آياتٍ دالَّةً عَلى كِبْرِياءِ اللَّهِ وجَلالِ قُدْرَتِهِ وعَظَمَةِ إلَهِيَّتِهِ. ثُمَّ يَعُودُ مَرَّةً أُخْرى إلى بَيانِ الأحْكامِ، وهَذا أحْسَنُ أنْواعِ التَّرْتِيبِ وأقْرَبُها إلى التَّأْثِيرِ في القُلُوبِ؛ لِأنَّ التَّكْلِيفَ بِالأعْمالِ الشّاقَّةِ لا يَقَعُ في مَوْقِعِ القَبُولِ إلّا إذا كانَ مَقْرُونًا بِالوَعْدِ والوَعِيدِ، والوَعْدُ والوَعِيدُ لا يُؤَثِّرُ في القَلْبِ إلّا عِنْدَ القَطْعِ بِغايَةِ كَمالِ مَن صَدَرَ عَنْهُ الوَعْدُ والوَعِيدُ؛ فَظَهَرَ أنَّ هَذا التَّرْتِيبَ أحْسَنُ التَّرْتِيباتِ اللّائِقَةِ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّينِ الحَقِّ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: إنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَرَ في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أنْواعًا كَثِيرَةً مِنَ الشَّرائِعِ والتَّكالِيفِ، ثُمَّ أتْبَعَها بِشَرْحِ أحْوالِ الكافِرِينَ والمُنافِقِينَ واسْتَقْصى في ذَلِكَ، ثُمَّ خَتَمَ تِلْكَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى عَظَمَةِ جَلالِ اللَّهِ وكَمالِ كِبْرِيائِهِ، ثُمَّ عادَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى بَيانِ الأحْكامِ فَقالَ: ﴿ويَسْتَفْتُونَكَ في النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم فِيهِنَّ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: (p-٥٠)المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الواحِدِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: الِاسْتِفْتاءُ طَلَبُ الفَتْوى يُقالُ: اسْتَفْتَيْتُ الرَّجُلَ في المَسْألَةِ فَأفْتانِي إفْتاءًا وفُتْيًا وفَتْوًى، وهُما اسْمانِ مَوْضُوعانِ مَوْضِعَ الإفْتاءِ، ويُقالُ: أفْتَيْتُ فُلانًا في رُؤْيا رَآها إذا عَبَرَها قالَ تَعالى: ﴿يُوسُفُ أيُّها الصِّدِّيقُ أفْتِنا في سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ﴾ [يُوسُفَ: ٤٦] . ومَعْنى الإفْتاءِ إظْهارُ المُشْكِلِ، وأصْلُهُ مِنَ الفَتى، وهو الشّابُّ الَّذِي قَوِيَ وكَمُلَ، فالمَعْنى: كَأنَّهُ يَقْوى بِبَيانِهِ ما أُشْكِلَ، ويَصِيرُ قَوِيًّا فَتِيًّا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ العَرَبَ كانَتْ لا تُوَرِّثُ النِّساءَ والصِّبْيانَ شَيْئًا مِنَ المِيراثِ، كَما ذَكَرْنا في أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في تَوْرِيثِهِمْ. والثّانِي: أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في تَوْفِيَةِ الصَّداقِ لَهُنَّ، وكانَتِ اليَتِيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ، فَإذا كانَتْ جَمِيلَةً ولَها مالٌ تَزَوَّجَ بِها وأكَلَ مالَها، وإذا كانَتْ دَمِيمَةً مَنَعَها مِنَ الأزْواجِ حَتّى تَمُوتَ فَيَرِثَها، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اعْلَمْ أنَّ الِاسْتِفْتاءَ لا يَقَعُ عَنْ ذَواتِ النِّساءِ وإنَّما يَقَعُ عَنْ حالَةٍ مِن أحْوالِهِنَّ وصِفَةٍ مِن صِفاتِهِمْ، وتِلْكَ الحالَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ في الآيَةِ، فَكانَتْ مُجْمَلَةً غَيْرَ دالَّةٍ عَلى الأمْرِ الَّذِي وقَعَ عَنْهُ الِاسْتِفْتاءُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ فَفِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ والتَّقْدِيرُ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم في النِّساءِ، والمَتْلُوُّ في الكِتابِ يُفْتِيكم فِيهِنَّ أيْضًا، وذَلِكَ المَتْلُوُّ في الكِتابِ هو قَوْلُهُ: ﴿وإنْ خِفْتُمْ ألّا تُقْسِطُوا في اليَتامى﴾ [النِّساءِ: ٣] . وحاصِلُ الكَلامِ أنَّهم كانُوا قَدْ سَألُوا عَنْ أحْوالٍ كَثِيرَةٍ مِن أحْوالِ النِّساءِ، فَما كانَ مِنها غَيْرَ مُبَيَّنِ الحُكْمِ ذَكَرَ أنَّ اللَّهَ يُفْتِيهِمْ فِيها، وما كانَ مِنها مُبَيَّنَ الحُكْمِ في الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ ذَكَرَ أنَّ تِلْكَ الآياتِ المَتْلُوَّةَ تُفْتِيهِمْ فِيها، وجَعَلَ دَلالَةَ الكِتابِ عَلى هَذا الحُكْمِ إفْتاءً مِنَ الكِتابِ، ألا تَرى أنَّهُ يُقالُ في المَجازِ المَشْهُورِ: إنَّ كِتابَ اللَّهِ بَيَّنَ لَنا هَذا الحُكْمَ، وكَما جازَ هَذا جازَ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّ كِتابَ اللَّهِ أفْتى بِكَذا. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ مُبْتَدَأٌ، و﴿فِي الكِتابِ﴾ خَبَرُهُ، وهي جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ، والمُرادُ بِالكِتابِ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، والغَرَضُ مِنهُ تَعْظِيمُ حالِ هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي تُتْلى عَلَيْهِمْ، وأنَّ العَدْلَ والإنْصافَ في حُقُوقِ اليَتامى مِن عَظائِمِ الأُمُورِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى الَّتِي يَجِبُ مُراعاتُها والمُحافَظَةُ عَلَيْها، والمُخِلُّ بِها ظالِمٌ مُتَهاوِنٌ بِما عَظَّمَهُ اللَّهُ. ونَظِيرُهُ في تَعْظِيمِ القُرْآنِ قَوْلُهُ: ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٤] . القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ مَجْرُورٌ عَلى القَسَمِ، كَأنَّهُ قِيلَ: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم فِيهِنَّ، وأُقْسِمُ بِما يُتْلى عَلَيْكم في الكِتابِ، والقَسَمُ أيْضًا بِمَعْنى التَّعْظِيمِ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّهُ عَطْفٌ عَلى المَجْرُورِ في قَوْلِهِ: (فِيهِنَّ) والمَعْنى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكم فِيهِنَّ وفِيما يُتْلى عَلَيْكم في الكِتابِ في يَتامى النِّساءِ. قالَ الزَّجّاجُ: وهَذا الوَجْهُ بَعِيدٌ جِدًّا نَظَرًا إلى اللَّفْظِ والمَعْنى؛ أمّا اللَّفْظُ فَلِأنَّهُ يَقْتَضِي عَطْفَ المُظْهَرِ عَلى المُضْمَرِ، وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ، كَما شَرَحْناهُ في قَوْلِهِ: ﴿تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ﴾ [النِّساءِ: ١] . وأمّا المَعْنى فَلِأنَّ هَذا القَوْلَ يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى في تِلْكَ المَسائِلِ أفْتى، ويُفْتِي أيْضًا فِيما يُتْلى مِنَ الكِتابِ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ ذَلِكَ، وإنَّما المُرادُ أنَّهُ تَعالى يُفْتِي فِيما سَألُوا مِنَ المَسائِلِ: بَقِيَ هَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: بِمَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: ﴿فِي يَتامى النِّساءِ﴾ ؟ . (p-٥١)قُلْنا: هو في الوَجْهِ الأوَّلِ صِلَةُ ”يُتْلى“ أيْ: يُتْلى عَلَيْكم في مَعْناهُنَّ، وأمّا في سائِرِ الوُجُوهِ فَبَدَلٌ مِن ”فِيهِنَّ“ . السُّؤالُ الثّانِي: الإضافَةُ في ﴿يَتامى النِّساءِ﴾ ما هي ؟ . الجَوابُ: قالَ الكُوفِيُّونَ: مَعْناهُ في النِّساءِ اليَتامى، فَأُضِيفَتِ الصِّفَةُ إلى الِاسْمِ، كَما تَقُولُ: يَوْمُ الجُمُعَةِ، وحَقُّ اليَقِينِ، وقالَ البَصْرِيُّونَ: إضافَةُ الصِّفَةِ إلى الِاسْمِ غَيْرُ جائِزٍ، فَلا يُقالُ: مَرَرْتُ بِطالِعَةِ الشَّمْسِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ الصِّفَةَ والمَوْصُوفَ شَيْءٌ واحِدٌ، وإضافَةُ الشَّيْءِ إلى نَفْسِهِ مُحالٌ، وهَذا التَّعْلِيلُ ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ المَوْصُوفَ قَدْ يَبْقى بِدُونِ الوَصْفِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَوْصُوفَ غَيْرُ الصِّفَةِ، ثُمَّ إنَّ البَصْرِيِّينَ فَرَّعُوا عَلى هَذا القَوْلِ، وقالُوا: النِّساءُ في الآيَةِ غَيْرُ اليَتامى، والمُرادُ بِالنِّساءِ أُمَّهاتُ اليَتامى أُضِيفَتْ إلَيْهِنَّ أوْلادُهُنَّ اليَتامى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في قِصَّةِ أُمِّ كُحَّةَ، وكانَتْ لَها يَتامى. * * * ثُمَّ قالَ: ﴿اللّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ ما فُرِضَ لَهُنَّ مِنَ المِيراثِ، وهَذا عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: نَزَلَتِ الآيَةُ في مِيراثِ اليَتامى والصِّغارِ، وعَلى قَوْلِ الباقِينَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ما كُتِبَ لَهُنَّ﴾ الصَّداقُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: هَذا يَحْتَمِلُ الرَّغْبَةَ والنَّفْرَةَ، فَإنْ حَمَلْتَهُ عَلى الرَّغْبَةِ كانَ المَعْنى: وتَرْغَبُونَ في أنْ تَنْكِحُوهُنَّ، وإنْ حَمَلْتَهُ عَلى النَّفْرَةِ كانَ المَعْنى: وتَرْغَبُونَ عَنْ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ لِدَمامَتِهِنَّ. واحْتَجَّ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِ الأبِ والجَدِّ تَزْوِيجُ الصَّغِيرَةِ، ولا حُجَّةَ لَهم فِيها لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ المُرادُ: وتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذا بَلَغْنَ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا: «أنَّ قُدامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أخِيهِ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ مِن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَخَطَبَها المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، ورَغَّبَ أُمَّها في المالِ، فَجاءُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ قُدامَةُ: أنا عَمُّها ووَصِيُّ أبِيها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنَّها صَغِيرَةٌ وإنَّها لا تُزَوَّجُ إلّا بِإذْنِها، وفَرَّقَ بَيْنَها وبَيْنَ ابْنِ عُمَرَ»؛ ولِأنَّهُ لَيْسَ في الآيَةِ أكْثَرُ مِن ذِكْرِ رَغْبَةِ الأوْلِياءِ في نِكاحِ اليَتِيمَةِ، وذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى الجَوازِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿والمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدانِ﴾ وهو مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلى يَتامى النِّساءِ؛ كانُوا في الجاهِلِيَّةِ لا يُوَرِّثُونَ الأطْفالَ ولا النِّساءَ، وإنَّما يُوَرِّثُونَ الرِّجالَ الَّذِينَ بَلَغُوا إلى القِيامِ بِالأُمُورِ العَظِيمَةِ دُونَ الأطْفالِ والنِّساءِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وأنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالقِسْطِ﴾ وهو مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلى المُسْتَضْعَفِينَ، وتَقْدِيرُ الآيَةِ: وما يُتْلى عَلَيْكم في الكِتابِ يُفْتِيكم في يَتامى النِّساءِ وفي المُسْتَضْعَفِينَ وفي أنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالقِسْطِ: ﴿وما تَفْعَلُوا مِن خَيْرٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيمًا﴾ يُجازِيكم عَلَيْهِ ولا يَضِيعُ عِنْدَ اللَّهِ مِنهُ شَيْءٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب